الفوضى التي تسبب فيها فايروس كورونا في أنظمة التعليم التقليدية مثلت فرصة لوضع التكنولوجيا موضع اختبار، وقد تكون المرحلة القادمة خطوة نحو إحداث تغيير جذري في تصورنا لنظم التعليم الإلكتروني وإطلاق حقبة جديدة يكون فيها للتعليم عن بعد دور محوري.
في غمرة انشغالنا بالجائحة وانعكاسها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، نسينا طلبة المدارس والجامعات الذين تأثرت طريقة التعليم في مدراسهم بسبب الجائحة التي جعلت التعليم عن بعد خيارا لا مفرّ منه.
خلال الموجة الأولى من جائحة فايروس كورونا، اضطر مليار ونصف المليار طالب في 160 دولة إلى الدراسة في المنزل. وما كان من حل أمام حكومات العالم سوى الإسراع في عملية تبنّي نظم التعليم عن بعد في محاولة لإنقاذ الموسم الدراسي.
وما بدا في الأيام الأولى مجرد محاولة يائسة لمتابعة الدروس، تكشّف عن فرصة يقول الخبراء إن الجانب الإيجابي فيها يفوق بكثير الجانب السلبي.
فكيف استجابت دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لهذا التحدي؟ وماذا فعلت لإنقاذ الموسم الدراسي سوى الحديث عن فضائل تلقي الدراسة عن بعد؟
وفقا لإحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فإن عددا غير مسبوق من الطلاب انقطعوا عن مدارسهم وجامعاتهم بسبب قيام الحكومات بإغلاقها في محاولة لإبطاء انتشار الفايروس. وهذا يعني أن مئات الملايين من الطلبة تأثروا بتوقف العملية التعليمية.
وفي مواجهة هذا الانقطاع عن التعليم ضمن إطار المنظومة التعليمية الكلاسيكية، وحرصا من الحكومات على ضمان استمرار مسيرة التعليم، لجأت العديد من هذه الدول إلى حلول رقمية لتوفير موارد التعلم ومتابعة الدروس والامتحانات.
تجربة التعلم عن بعد ستترك أثرا دائما على أصغر فئة من جيل الألفية تشمل رؤيتهم للعالم وعلاقتهم به
الطريقة التي تفاعلت بها الحكومات اتخذت منحى مطابقا للمنحى الذي يواجهه أي تغير في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية عادة؛ بدءا من الإنكار “لن يستمر هذا طويلاً، بضعة أيام فقط وتعود الأمور إلى سابق عهدها”، يلي ذلك صدمة وارتباك، حيث تتخذ قرارات بشأن كيفية منع وقوع الفوضى في الأنظمة السائدة، لتصل إلى حالة من “التقبل” على وجه الخصوص بين المعلمين وأولياء الأمور وجميع المشاركين في التحدي المتمثل في تحويل هذا الوضع إلى لأفضل، وأخيراً الانتقال لـ”البحث عن أفكار جديدة”.
دولة الإمارات التي أعلنت توقف المدارس والجامعات لمدة شهر اعتبارا من تاريخ 8 مارس 2020، باشرت في العمل عن كثب مع مدراء المدارس والمعلمين للبدء فورا في متابعة التعليم عن بعد عبر الإنترنت.
النظام المتاح وفر للطلاب إمكانية التواصل مع معلميهم وإنجاز فروضهم وإرسالها بشكل تفاعلي، كما يتيح للأهالي متابعة أولادهم ودرجاتهم من خلال تقارير مفصلة.
وفي الكويت بادرت وزارة التربية إلى تصميم وتطوير مواد ومصادر التعلم عن بعد على بوابة الكويت التعليمية، لتأمين متابعة الطلاب لتحصيلهم العلمي، بالإضافة إلى عدد من الحلول ومنها قناة تربوية وكتب تفاعلية.
أما في السعودية، التي أعلنت في 9 مارس من نفس العام عن إغلاق مدارسها وجامعاتها، فقد وفرت مجموعة من قنوات البث التلفزيوني وبوابة “عين” وقنوات يوتيوب لتتيح للطلاب متابعة دراستهم عن بعد.
وفي الأردن اتخذت الحكومة عدة إجراءات للتعامل مع تعليق الدراسة عبر منصتها الإلكترونية “نور سبيس”، إضافة إلى مواد تعليمية تبث تلفزيونيا.
وفي لبنان أطلقت بعض المدارس الخاصة مبادرات فردية لتقديم الدروس إلى الطلاب عبر منصات “غوغل كلاس روم”، فيما لجأ المعلمون إلى استخدام تطبيقات الرسائل مثل واتساب لإرسال الدروس إلى الطلاب.
الجزائر والبحرين والمغرب ودول عربية أخرى أطلقت مبادرات تعليمة، استخدمت فيها منصات للتعليم الإلكتروني ولكن بشكل فردي، إلى جانب قنوات تلفزيونية مخصصة لهذا الغرض.
ويشكل ضعف شبكة الإنترنت في هذه الدول عقبة أمام التعليم عن بعد، فهو يعيق التواصل بين المعلم والتلميذ، ويستخدم ذريعة لعدم متابعة الدروس. المدرسون أيضا لم يتلقوا تدريبا يساعدهم على التعامل مع وسائل التواصل الإلكترونية.
في تونس، وهي نسبيا أفضل استعدادا من أغلب الدول العربية، أكد استطلاع للرأي أنجزته وزارة التربية أن 51 في المئة من تلاميذ التعليم الإعدادي والثانوي في المؤسسات التربوية لا يمتلكون أجهزة هواتف ذكية أو أجهزة كمبيوتر متصلة بشبكة الإنترنت تمكنهم من متابعة الدروس عن بعد.
بالنسبة إلى المتعلمين الصغار والمراهقين، الجائحة أكثر من مجرد تعلم عبر الإنترنت؛ ستترك التجربة تأثيرا دائما على أصغر فئة من جيل الألفية، تشمل رؤيتهم للعالم وارتباطهم به.
وتراقب مؤسسة التدريب الأوروبية (ETF) استجابة أوساط التعليم والتدريب في 29 دولة. وشملت المراقبة أنماط التغيير الاجتماعي التي من المحتمل أن يكون لها تأثير طويل المدى على كيفية ومكان تلقي التعليم، فضلاً عن قدرة جيل واحد على الأقل على الاندماج في سوق العمل.
في ظل هذه الأوضاع، تحتاج أنظمة التعليم إلى تبني مهارات القرن الحادي والعشرين (المعرفة العلمية والمعرفة بأدوات تكنولوجيا المعلومات والإبداع والتعاون وحل المشكلات) بالتساوي مع الموضوعات الأخرى.
الحديث عن أن لقاحات كورونا ستتيح لنا العودة إلى العمل وبالتالي إلى تعافي الاقتصاد هو تبسيط مبالغ فيه.
للوهلة الأولى يبدو التعلم الرقمي والتعلم عبر الإنترنت هما المستقبل، لكن شهادات كثيرة جمعتها مؤسسة التدريب الأوروبية أظهرت أن الطلاب يفتقدون الأجواء الاجتماعية في المدرسة، وتشير إلى أن مستقبل التعليم سيحتاج إلى المزج بين نظامين؛ التعلم المدمج هو السياق الأكثر ملاءمة لنهج التعلم المستمر مستقبلا.
وبحسب مسح أجرته المؤسسة، تبين أن التحول الرئيسي الناتج عن أزمة كورونا لا يقتصر على الانتقال للتعلم عبر الإنترنت، وإنما يشمل تبني التعلم المستمر، وأيضا العمل على أن يكون التعلم في متناول الجميع.
فقط من خلال تجربة التعاون عن بعد والتواصل عبر الإنترنت يمكن للمتعلمين أن يعدوا أنفسهم لما ينتظرهم بعد تدريبهم.
استجابت المفوضية الأوروبية من خلال إنشاء أداة أسمتها “سيلفي” للتقييم الذاتي تساعد المدارس على التفكير في كيفية استخدامها للتقنيات الرقمية. وقد تم تطوير الأداة بالشراكة بين مؤسسة التدريب الأوروبية والمركز الأوروبي لتطوير التدريب المهني ومعهد اليونسكو لتكنولوجيا المعلومات.
من خلال استطلاع “سيلفي”، يمكن للمدارس قياس وضع قدراتها الرقمية انطلاقا من البنية التحتية وصولا إلى السلوكيات الأخلاقية، لإجراء تحسينات حقيقية من خلال الاستماع إلى أصوات جميع الأطراف المعنية.
هناك حاجة أيضاً إلى التعاون لتزويد كل طالب بما يلزم من أجهزة اتصال وبيئة مناسبة للتعلم في المنزل. ولذلك ترى مؤسسة التدريب الأوروبية أن هناك حاجة إلى مشاريع تتولى فيها الإدارات المركزية تسهيل مشاركة الموارد وفقاً للاحتياجات المحددة على أرض الواقع.
وعلى نطاق أوسع، فإن “إعادة تأسيس التعاون الدولي، بما في ذلك مشاركة الموارد يمكن أن يسرع ويدعم هذا التحول”، على حد قول سيزار أونستيني مدير مؤسسة التدريب الأوروبية.
التعلم عن بعد واستخدام الذكاء الاصطناعي في عملية التعليم لم يبدأ مع الجائحة، بل هو أقدم من ذلك.
في السنوات القليلة الماضية تصاعد استثمار الصين في التعليم المعتمد على الذكاء الاصطناعي، واندفع الجميع إلى المشاركة بدءا من الشركات التكنولوجية العملاقة والشركات الناشئة إلى المسؤولين بالمؤسسات التعليمية.
والآن يستخدم عشرات الملايين من الطلاب في الصين شكلا من أشكال الذكاء الاصطناعي للتعلم، سواء عبر برامج التعليم الخاص مثل برامج سكويرل. ويمكن وصف التجربة الصينية بأنها الأضخم على مستوى العالم.
عدوى الاهتمام وصلت إلى وادي السليكون، حيث يصف الخبراء مبادرة تشن – زوكربيرغ ومؤسسة بيل وميليندا غيتس كأداة تعليمية تستحق الاستثمار.
سكويرل ليست أول أداة توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم؛ تعود أولى المحاولات لاستنساخ الأساتذة إلى السبعينات، عندما بدأ استخدام الكمبيوتر في التعليم لأول مرة. بعد ذلك بينت عدة دراسات خلال الثمانينات أن الطلاب الذين يتلقون تعليما فرديا يقدمون أداء أفضل بكثير من غيرهم. وهو ما أدى إلى إطلاق موجة جديدة من المحاولات لمحاكاة هذا الاهتمام الفردي بالاستعانة بالآلة.
ويقول الخبراء إننا كي نفهم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحسن التدريس والتعلم، يجب أن نفكر أولا كيف ستغير الأتمتة من طبيعة العمل.
مع تزايد مهارة الروبوتات في أداء الأعمال الرتيبة، سنحتاج إلى زيادة التركيز على مهارات ما زالت مقتصرة على البشر. تحديدا الابتكار والتواصل وحل المشاكل. يجب أن يتم هذا التكيف سريعا لمجاراة انتشار الأتمتة، وهذا يعني أن غرفة الصف في القرن الحادي والعشرين يجب أن تركز على نقاط قوة كل طالب واهتماماته، بدلا من تلقين مجموعة موحدة من المعارف، كما هو الحال في عصر الثورة الصناعية الذي انقضى
العرب