لوقت قريب لم يكن الحديث عن تخفيف أو رفع العقوبات عن دمشق مطروحا، بل كان التوجه نحو تعزيزها لإجبار نظام الرئيس بشار الأسد على تغيير سلوكه، بيد أن تحولا طرأ على المشهد حيث برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات على إمكانية إعادة النظر في تلك العقوبات لاسيما وأن الشعب السوري كان المتأثر من وطأتها.
دمشق – يبرز حراك دولي في الفترة الأخيرة، يدفع باتجاه تبني خيار رفع العقوبات أو تخفيفها عن النظام السوري، كان انطلق من أروقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وامتد إلى نقاشات بين الزعماء الغربيين ولاسيما بين فرنسا والولايات المتحدة حول صوابية هذه الخطوة وتأثيراتها.
وتعاني سوريا منذ عام 2012 من عقوبات اقتصادية فرضتها كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإجبار نظام الرئيس بشار الأسد على تغيير طريقة تعاطيه مع الأزمة والقبول بانتقال ديمقراطي حقيقي في سوريا.
وعزز قانون قيصر الأميركي الذي جرى تفعيله في يونيو الماضي العقوبات التي طالت الدائرة المحيطة بالأسد، ورجال أعمال سوريين والبنك المركزي، بغرض زيادة الضغط على دمشق، التي لم تظهر أي نية للتنازل، فيما زادت معاناة الشعب السوري الذي يوجد أكثر من 80 في المئة منه تحت خط الفقر، بحسب الأمم المتحدة.
ويقول المعارض السوري المقيم في الولايات المتحدة أيمن عبدالنور لـ”العرب” إن “هناك تغيرا في المقاربة الدولية حيال العقوبات في سوريا، انعكس في عدة مواقف وخطوات لا تبدو أنها عفوية بل جرى تخطيط مركزي لها”.
وبدأت هذه التحركات أولا حينما دعت خبيرة حقوق الإنسان المستقلة في الأمم المتحدة، ألينا دوهان، إلى رفع العقوبات المفروضة على دمشق، لأنها “قد تعرقل جهود إعادة بناء البنية التحتية المدنية التي دمرتها الحرب”.
وقالت الخبيرة التي تنحدر من بيلاروسيا في كلمة لها في 29 ديسمبر الماضي “عندما أُعلن عن العقوبات الأولى بموجب قانون قيصر، أكدت الولايات المتحدة أنها لا تنوي إلحاق الأذى بالسوريين”، مضيفة “ومع ذلك، قد يؤدي تطبيق القانون إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، ما يحرم الشعب السوري من فرصة إعادة الإعمار”.
وأثارت تصريحات المسؤولة الأممية حينها ضجة في سوريا وخارجها، في ظل اعتقاد للوهلة الأولى بأن ذلك تحرك عفوي من قبلها قبل أن تظهر مؤشرات أخرى تشكك في الأمر. ويقول عبدالنور في هذا السياق “إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حث مؤخرا رجال الدين المسيحيين على توجيه رسالة له وأيضا لنظيره الأميركي جو بايدن للمطالبة برفع العقوبات”.
وأضاف المعارض السوري “وهو ما تحقق حينما اتصل كبار رجال الدين في سوريا ولبنان بالمنظمات المسيحية من دول العالم وخاصة من فرنسا وسويسرا وبريطانيا التي وقعت على مطلب رفع العقوبات”.
وكان البطريرك أفرام الثاني وعدد من رؤساء الكنائس والفعاليات السياسية في العالم توجهوا فعلا قبل أيام ببيان إلى بايدن بمناسبة توليه الرئاسة طالبوا فيه بـ”الإلغاء الفوريّ للإجراءات العقابية المفروضة على سوريا”، وأوضحوا في رسالتهم أن هذا الأمر “أصبح ملحا في ظل تفشي جائحة كورونا وتزامنها مع الأوضاع الصعبة والتداعيات التي خلفتها هذه الإجراءات غير الشرعية ولاسيما على قطاع الصحة ونظام الرعاية الصحية”.
وأعاد البيان التذكير بما توصلت إليه المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة إلينا دوهان من أن الإجراءات بحق سوريا كانت السبب في الظروف القاسية التي يعيشها المدنيون في ظل تفشي جائحة كورونا عن طريق حرمانهم من الحصول على المساعدات الصحية والإنسانية.
وأوضح أن هذه الاستنتاجات تعكس إجماعاً متزايداً لدى الهيئات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان على أن هذا الشكل من الإجراءات “العقابية” يفاقم معاناة الشعب السوري بشكل غير مسبوق.
ولفت عبدالنور إلى أن دوافع ماكرون لتبني نهج تخفيف وطأة العقوبات على دمشق عديدة، من بينها إدراكه أنه لا يمكن إعادة بناء مرفأ بيروت وتشغيله في ظل قانون قيصر الذي فرض عقوبات على العديد من الشركات السورية ذات الصلة الوثيقة بلبنان، كما أن الرئيس الفرنسي يرى أن قيصر يعيق مشاركة الشركات الفرنسية في إعادة إعمار سوريا.
ومعلوم أن الاقتصادين السوري واللبناني مرتبطان بشكل عضوي، وكل طرف يؤثر بشكل كبير على الآخر، ويسعى ماكرون جاهدا -منذ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس، والذي فاقم أزمة لبنان المالية- إلى إنعاش هذا البلد وإعادته إلى سكة الاستقرار.
وكان الرئيس الفرنسي أجرى الأحد اتصالا هاتفيا مع نظيره الأميركي تطرق خلاله إلى الوضع في المنطقة، ولاسيما في لبنان، وأكد الإليزيه عقب الاتصال أن هناك توافقا في الرؤى بين الرئيسين.
وليس من المستبعد أن يكون هناك تنسيق فرنسي أميركي مشترك حيال مسألة العقوبات على سوريا. وقال المعارض السوري إن الولايات المتحدة بدورها بدأت تعيد مراجعة خيار العقوبات، وهو ما يظهر بشكل جلي في طلب الرئيس الأميركي من وزارات الخارجية والدفاع والخزانة بالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية تقديم دراسة عن تأثير العقوبات الاقتصادية على الدول وتداعيات ذلك على معركة تلك الدول مع كوفيد – 19.
وأشار عبدالنور إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وجه في الـ11 من الشهر الجاري بتشكيل لجنة من ثلاثة أشخاص، برئاسة بيل اينغدون رئيس المجلس النرويجي للاجئين الذي له مكتب في دمشق ويحظى بعلاقة وطيدة مع النظام السوري، لإعادة دراسة كيفية توزيع المساعدات الإنسانية داخل سوريا على أن يتم إنجاز التقرير خلال ثلاثة أشهر.
ويرى مراقبون أن بحث رفع العقوبات أو تجميدها الغرض منه على ما يبدو رفع الحرج عن الدول الغربية لاسيما وأن هذه العقوبات كان المتأذي منها الشعب السوري، فيما لا يبدو أن النظام مهتم كثيرا بذلك، وليس في وارد تغيير سلوكه.
وبموجب العقوبات المفروضة على سوريا، لا يستطيع النظام الذي يسيطر على أكثر من نصف مساحة البلاد توريد الحاجيات الأساسية من وقود وطحين وأصبح من المألوف رؤية طوابير طويلة من المواطنين أمام المخابز ومحطات البنزين.
وأوضح عبدالنور في تصريحاته لـ”العرب” أن “قرار رفع العقوبات أو تجميدها لفترة سيتطلب تنفيذه عدة أشهر”، لافتا إلى وجود تحرك للجالية السورية في الولايات المتحدة للضغط باتجاه أن يكون هذا التوجه مشروطا بجملة من المطالب لعل من بينها “إبقاء العقوبات على الفاسدين والمجرمين والذين تلطخت أيديهم بالدماء من النظام السوري”، وأن تبقى العقوبات على الأسلحة وأن يتم توزيع المساعدات عبر الأمم المتحدة حتى لا تسرق أو تباع من قبل “الشبيحة”.
العرب