يشهد لبنان احتجاجات واسعة على الإغلاق العام الذي فرضته الحكومة وتسبّب في تفاقم الأزمة المعيشية في غياب أي مساعدات من الدولة. ويرى مراقبون أن خطاب المسؤولين الاستفزازي من شأنه أن يشكل الوقود لـ”ثورة جياع” قد تأتي على الأخضر واليابس في البلد.
بيروت- أربكت الاحتجاجات التي تشهدها عدة مناطق لبنانية خصوصا في مدينة طرابلس شمال البلاد، القوى المتحكمة في المشهد السياسي، في ظل مخاوف من اتساع نطاقها وتحولها إلى ثورة تهدّد عرش تلك القوى.
وتدافع أقطاب السلطة في لبنان في الساعات الأخيرة للبحث عمّن يحملونه مسؤولية الحراك الجاري، متعمدين التشكيك في دوافعه، ومروّجين لوجود جهات تقف خلفه لأغراض سياسية، وأخرى قانونية في علاقة بما يجرى على مستوى المصرف المركزي.
ومن بين هؤلاء المشككين رئيس التيار الوطني الحر ووزير الخارجية السابق جبران باسيل الذي قال الخميس، إن “تحريك الشارع معروف الانتماء والتمويل، وأصابع بعض المنسقين ومسؤولي بعض الأجهزة السابقين والحاليين واضحة فيه”. وأضاف أن “ما يحصل لن يحمي منظومتهم السياسية والمالية ولن يحيّد أنظارنا عن فسادها وسنبقى نلاحقهم كلّهم، بتصميم وواقعية معا، حتى يعيدوا ما سطت عليه أيديهم”.
وأثارت تصريحات رئيس التيار الوطني الحر ردود فعل غاضبة ممزوجة بتهكم لاسيما وأن باسيل الذي يهاجم المنظومة السياسية الحالية هو أحد أركانها الأساسية، ويحمله المحتجون جزءا كبيرا من المسؤولية عن الشلل الاقتصادي والسياسي في البلاد.
وترى أوساط سياسية أن اتهامات باسيل موجهة في جزء منها إلى حاكم مصرف لبنان، وأيضا إلى تيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري، الذي للمفارقة كان قد شكك هو الآخر قبل يوم في الحراك، معتبرا في سلسلة تغريدات على موقعه على تويتر “أنه قد تكون وراء التحركات في طرابلس جهات تريد توجيه رسائل سياسية، وقد يكون هناك من يستغل وجع الناس والضائقة المعيشية التي يعانيها الفقراء وذوي الدخل المحدود”.
وتوجه الحريري إلى المحتجين قائلا “أنبّه أهلنا في طرابلس وسائر المناطق من أي استغلال لأوضاعهم المعيشية، وأطالب الدولة والوزارات المختصة باستنفاد كل الوسائل المتاحة لكبح جماح الفقر والجوع وتوفير المقومات الاجتماعية لالتزام المواطنين قرار الإقفال العام”.
وتقول الأوساط إن ردود فعل القوى السياسية تعكس حالة انفصام مستمر عن واقع اللبنانيين الذين يعاني أكثر من نصفهم من الفقر والخصاصة، فضلا عن انتشار وباء كورونا الذي بات يحصد يوميا الآلاف من الضحايا.
وتلفت هذه الأوساط إلى أن قرار الإقفال العام الذي أقرته حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب، لم يترافق معه أي أجراء على مستوى مساعدة الآلاف من العائلات على تحمل كلفته على جيوبها المستنزفة.
وتشير إلى أن ردود الفعل المسجلة على مستوى الشارع كانت منتظرة، حيث أن اللبنانيين اليوم وجدوا أنفسهم محاصرين بين الموت جوعا، أو الموت بالوباء الذي تعجز الحكومة حدّ اللحظة عن احتوائه في ظل قراراتها الارتجالية التي تعكس حالة من التخبط.
واستؤنفت الخميس الاحتجاجات، وأقدم شبان غاضبون على حرق حاويات النفايات أمام منزل النائب سمير الجسر (كتلة تيار المستقبل يترأسها سعد الحريري) وأطلقوا هتافات تندد بالأوضاع المعيشية وترفض العنف بحق المتظاهرين، كما طالبوه بالاستقالة.
كما تجمع متظاهرون أمام منزل النائب فيصل كرامي (تيار الكرامة) وسط انتشار كثيف لعناصر الجيش، حيث رددوا الشعارات نفسها، وطالبوا كرامي بالاستقالة أيضا. وكان شاب قتل في وقت سابق في مدينة طرابلس خلال اشتباكات بين قوات الأمن ومحتجين غاضبين من قرار العزل العام الصارم الذي تركهم بلا سبيل لكسب العيش في وضع يشهد انهيارا اقتصاديا.
تصريحات رئيس التيار الوطني الحر أثارت ردود فعل غاضبة ممزوجة بتهكم لاسيما وأن باسيل الذي يهاجم المنظومة السياسية الحالية هو أحد أركانها الأساسية
وكشف مستشفى نُقل إليه جثمان القتيل ومصدر أمني وسكان أن الشاب البالغ من العمر 30 عاما يدعى عمر طيبا وصل مصابا بعيار ناري خلال الليل. وقال سمير أغا، الذي يشارك في احتجاجات طرابلس، “العالم تعبانة.. فقر وتعطيل وتسكير وما في شغل.. مشكلتنا في أهل السياسة”.
وعمق العزل العام من معاناة الفقراء الذين يشكلون الآن أكثر من نصف السكان مع غياب المساعدات أو وصول النذر اليسير منها. ويعتمد كثيرون على ما يجنونه من العمل اليومي. وأثار انهيار العملة مخاوف من انتشار أوسع نطاقا للجوع.
ولم يفلح السياسيون بعد في إطلاق خطة إنقاذ أو تنفيذ إصلاحات مطلوبة للحصول على مساعدات أجنبية تبدو البلاد في أمسّ الحاجة إليها مما أثار انتقادات من جهات بينها جهات أجنبية مانحة. وقالت قوى الأمن الداخلي على تويتر إن “قنابل يدوية” أصابت تسعة من عناصرها بينهم ثلاثة ضباط في حالة حرجة، وحذرت من أنها ستتعامل “مع المهاجمين بكل شدة وحزم”.
ودعت منظمات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، الخميس، إلى إجراء تحقيق في ملابسات مقتل المحتج في لبنان. وقالت آية مجذوب باحثة لبنان في هيومن رايتس ووتش “تجاهلت الحكومة احتياجات سكان طرابلس واستخدمت قوة غاشمة.. عندما طالبوا بحياة أفضل”. وقال الصليب الأحمر إن مسعفيه نقلوا 35 شخصا إلى مستشفيات تعاني بالفعل مع أحد أعلى معدلات الإصابات بكوفيد – 19 في المنطقة.
والأربعاء، صرح رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بأن الإغلاق كان ضروريا لاحتواء الفايروس مع بلوغ الكثير من وحدات العناية المركزة في مستشفيات البلاد طاقة استيعابها القصوى. وأقر بأن المساعدات الحكومية ليست كافية لتغطية الاحتياجات، لكنه قال إنها تساعد في تخفيف الأعباء.
تدافع أقطاب السلطة في البنان تدافع للبحث عمّن يحملونه مسؤولية الحراك الجاري، متعمدين التشكيك في دوافعه، ومروّجين لوجود جهات تقف خلفه
ويرجّح مراقبون أن تتسع رقعة الاحتجاجات في ظل الخطاب الاستفزازي واللامسؤول للمسؤولين والسياسيين المتحكمين في المشهد، وفي غياب أي أفق لانفراجة في البلد. ويشكل الانهيار المالي، الذي هوت فيه قيمة العملة المحلية، أكبر خطر على استقرار لبنان منذ الحرب الأهلية التي شهدها على مدى 15 سنة من عام 1975 إلى 1990.
واندلعت الأزمة في أواخر عام 2019 وأدت إلى خروج احتجاجات غير مسبوقة في أنحاء البلاد ضد النخبة الحاكمة التي أدارت شؤون البلاد على مدار عقود شهدت هدرا في موارد الدولة وفسادا.
وفاقم انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس والذي أدى إلى مصرع العشرات وتشريد الآلاف من المواطنين، من الأزمة، وسط انغماس أقطاب السلطة في حرب تموقع انعكس فشلا في الوصول إلى توافق بشأن تشكيل حكومة جديدة تتولى إعادة تصويب المسار.
العرب