لم تنتظر الإدارة الأميركية الجديدة طويلا حتى تبدأ في تحريك الخيوط، التي بدت عالقة أثناء عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الأزمة الليبية، وبعثت بإشارات قوية على عودتها إلى هذا الملف، لتسريع التسوية السياسية من خلال تنزيل التفاهمات بين الفرقاء حول الشق العسكري على الأرض، من بوابة مطالبة روسيا وتركيا بالإسراع في الانسحاب العسكري، وخاصة سحب المرتزقة، الذين لم يبدأوا في المغادرة رغم انتهاء المهلة المتفق عليها قبل أسبوع.
لندن – في تحرك بدا لافتا في توقيته مع تقدم مسار الاتفاق السياسي الليبي- الليبي على تشكيل حكومة موحدة مؤقتة تضم الشرق والغرب ستشرف على تنظيم انتخابات في ديسمبر المقبل، طلبت الولايات المتحدة من تركيا وروسيا الشروع فورا في سحب قواتهما من ليبيا، بما يشمل القوات العسكرية والمرتزقة.
ويقول محللون إن الهدف من زج الولايات المتحدة بورقة سحب المرتزقة من ليبيا في هذا التوقيت، هو تحسين مواقع النفوذ سواء للدول التي تطالب برحيلهم أو الدول التي تقف وراءهم، كما يعطي انطباعا بأن إدارة الرئيس جو بايدن عاقدة العزم على إعادة الدور الأميركي على الساحة الدولية.
وخلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول ليبيا الخميس الماضي، قال القائم بأعمال المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز إنه “تماشيا مع اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في أكتوبر 2020، نطلب من تركيا وروسيا أن تبدآ فورا سحب قواتهما من البلاد وسحب المرتزقة الأجانب والوكلاء العسكريين الذين قامتا بتجنيدهم ونشرهم وتمويلهم في ليبيا”.
يبدد الموقف الأميركي الحازم في ظل إدارة جو بايدن الغموض الذي لفّ لسنوات السياسة الأميركية خلال ولاية ترامب بشأن ليبيا. وبدا وكأن الرئيس الأميركي السابق دعم في وقت من الأوقات الرجل القوي في شرق ليبيا المشير خليفة حفتر، والذي يقود الجيش الوطني الليبي، لمحاربة الميليشيات التي تدعمها حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج.
وتبقى أبعاد رسالة إدارة بايدن شديدة الارتباط بحسابات جيوسياسية وكل ما له علاقة بمعادلات المشهد الليبي بأبعاده الداخلية المركبة وسياقاته الإقليمية والدولية المعقدة، وفي ضوء ذلك فإنه ليس من المستبعد أن تحقق الأزمة الليبية اختراقا إيجابيا خلال الأسابيع القادمة.
ويرى مراقبون أن الفاعلين الدوليين في الملف الليبي يدركون أن الولايات المتحدة في ظل حكم بايدن أمام معركة دبلوماسية معقدة لأن واشنطن تتسلح بمعطيات ملموسة منبثقة عن الحوار الليبي – الليبي، الذي احتضنته دول عربية وغربية، وتعتبرها كافية للدفع على مسار الحل السلمي، خاصة إذا توافقت الأطراف الإقليمية والدولية على تبادل وتوزيع وتعايش المصالح في ما بينها.
وخلال المؤتمر الافتراضي لمجلس الأمن الدولي، طالبت غالبية أعضائه بما فيها الهند والصين والمملكة المتحدة، بسحب كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا واحترام حظر الأسلحة المفروض على البلاد منذ 2011.
وبينما جاء الانتشار العسكري التركي في ليبيا، الذي يشمل خاصة طائرات مسيرة قتالية، إثر توقيع اتفاقية عسكرية بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني، وقد مدد البرلمان التركي سريانها في الـ22 من ديسمبر لمدة 18 شهرا، تواصل روسيا نفي أي حضور عسكري لها في ليبيا، سواء كان مباشرا أو عبر مرتزقة رغم أن هناك أدلة كثيرة على ذلك.
وبعد أن شن الجيش الوطني الليبي في أبريل 2019 حربا ضد الإرهاب والميليشيات في غرب ليبيا وأمام ما حققه الجيش من مكاسب، حاولت تركيا عرقلة هذا التقدم بدعم حكومة السراج عسكريا وتغذية الإرهاب، للحد من نجاحات الجيش من جهة والتمكن من تطبيق أجندتها التوسعية بليبيا من جهة ثانية.
وخلال المعارك، حشدت الأطراف المتحاربة قواتها حول أطراف سرت، وهي بوابة استراتيجية للهلال النفطي في وسط وشرق ليبيا، حيث تدفق معظم إنتاج البلاد البالغ 1.2 مليون برميل يوميا قبل أن تغلق القبائل المتحالفة مع حفتر خطوط الأنابيب في يناير الماضي احتجاجا على التوزيع غير العادل الذي تقوم به حكومة الوفاق.
وقد أرسلت تركيا قوات إلى غرب ليبيا دعما لحكومة الوفاق الوطني، التي تصفها قيادة الجيش الليبي بأنها “واجهة سياسية لحكم الإخوان”، بموجب تفويض حصل عليه الرئيس رجب طيب أردوغان من البرلمان، الذي يهيمن عليه حزبه العدالة والتنمية بعد أن أبرم اتفاقا عسكريا مع السراج.
مع مرور الموعد النهائي لإخلاء المرتزقة الأجانب من ليبيا، اعتبارا من السبت الماضي، لم تتم ملاحظة أي إجراء نهائي على الأرض ولا يزال هؤلاء المقاتلون يشكلون تهديدا للعملية السياسية
وأثار التدخل العسكري التركي جدلا واسعا داخل ليبيا وخارجها لما يتسبب به من تعقيدات على صعيد الأزمة التي يسعى المجتمع الدولي إلى حلها بالطرق السلمية، وسط مخاوف دولية من اتساع دائرة انتشار المتطرفين الذين يحاربهم الجيش في أكثر من منطقة داخل ليبيا.
أما روسيا، فقد قامت بإرسال مرتزقة وقوات عسكرية إلى شرق ليبيا لدعم حفتر خلال شنه هجوما واسعا على غرب ليبيا، مما دفع تركيا إلى إرسال المزيد من المرتزقة ولتزداد الأمور تعقيدا مع إعلان الأمم المتحدة عن تقديرات مخيفة أشارت فيها إلى أن أكثر من 20 ألف مرتزق دخلوا ليبيا منذ بداية القتال بين معسكري الشرق والغرب.
ومع ذلك، لم يشر السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا خلال مداخلته بمجلس الأمن إلى الحضور العسكري الأجنبي في ليبيا. وذكّر الدبلوماسي الروسي بما أسماه “الاعتداء الغربي” على ليبيا عام 2011 الذي قاد إلى إطاحة معمر القذافي، واكتفى بالإشارة إلى أن روسيا “دافعت دائما عن تسوية سلمية للأزمة الليبية بالوسائل السياسية والدبلوماسية”.
وقالت البعثة الدبلوماسية الروسية في وقت لاحق إن روسيا ليس لديها جنود أو أشخاص بالزي العسكري على الأراضي الليبية، ولذلك لا يوجد تدخل عسكري روسي في ليبيا. وإذا كان هناك مواطنون روس كمرتزقة، وهو أمر لا يمكن استبعاده تماما، فيجب أن يُطلب مِن الذين استخدموهم، أن يسحبوهم.
وفي مايو 2019، اتهمت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) روسيا بإرسال ما لا يقل عن 14 طائرة حربية إلى قاعدة جوية بوسط ليبيا، زعمت أنه تم طلاؤها في سوريا لإخفاء أصلها الروسي. وقالت حينها إن “مرتزقة روس تشرف عليهم شركة عسكرية خاصة مرتبطة بالكرملين تعرف باسم مجموعة فاغنر دخلوا ليبيا ومن بينهم قناصة”.
مع مرور الموعد النهائي لإخلاء المرتزقة الأجانب من ليبيا، اعتبارا من السبت الماضي، لم تتم ملاحظة أي إجراء نهائي على الأرض ولا يزال المقاتلون يشكلون تهديدا للعملية السياسية الجارية التي تحاول إنهاء سنوات الصراع في البلاد.
وبموجب اتفاق الـ23 من أكتوبر، توصلت أطراف الصراع في ليبيا إلى وقف إطلاق نار دائم في جميع أنحاء البلاد في جنيف، بما في ذلك مهلة ثلاثة أشهر لانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة، ويبدو أن أنقرة مصرة على تجاوز الاتفاقات لدعم حليفها في طرابلس رغم أنها ترحب في الظاهر بالتسوية السلمية بين الفرقاء.
وذكرت مصادر دبلوماسية وليبية أن ثمة عراقيل حالت دون تنفيذ هذا البند من الاتفاق في الآجال المحددة، ومن الواضح أن استمرار التدخل التركي سواء بإرسال المرتزقة والأسلحة إلى ليبيا أو بإبرام اتفاقيات التدريب، وكذلك مصادقة البرلمان على تمديد وجود قواتها في ليبيا، أحد أبرز الأسباب لعدم تنفيذ هذا الانسحاب.
لكنّ شقا من المراقبين يرون أن خرق تركيا لأحد أهم بنود اتفاق جنيف ربما يزيد من تعقيد الحل السياسي، كونه لا يشي بوجود رغبة من حكومة الوفاق وتيار الإخوان لإخراج المرتزقة قبل تحقيق مصالحهم والعمل على إعادة تموضعهم في المشهد السياسي الليبي الجديد.
وقد أكدت ستيفاني وليامز المبعوثة الأممية إلى ليبيا بالإنابة أن هذا “التدخل الأجنبي الفاضح مستمر”، وأن حظر التسليح المفروض على ليبيا لا يزال يتعرض للانتهاك، مع استمرار وصول طائرات شحن مشبوهة إلى شرق البلاد وغربها، لكن رغم ذلك يستمر وقف إطلاق النار ساريا ويلتزم به طرفا النزاع.
ووضع المشاركون في ملتقى الحوار السياسي الليبي – الليبي، الذي عقد في العاصمة التونسية خلال شهر نوفمبر الماضي، اتفاق جنيف وقضية نزع السلاح هدفا أساسيا للبناء عليه، كونها تعتبر قضية مهمة من أجل إرساء السلام على أسس دائمة، وبالتالي الانخراط في العملية الديمقراطية.
وقد شدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في الكثير من المناسبات على ضرورة التقيد بضمان حظر السلاح المفروض على ليبيا، وعدم انتهاكه من قبل أي قوى خارجية. واعتبر أن مستقبل البلاد يجب أن يكون أكبر من أي خلافات حزبية أو سياسية، وأن اتفاق جنيف خطوة للأمام مهدت للحوار السياسي في تونس.
وكانت القوى الدولية قد اتفقت خلال اجتماع قمة عُقد في برلين خلال شهر يناير الماضي على تعزيز الهدنة في ليبيا، وعلى فرض عقوبات على الجهة التي تخرق الهدنة، مع بذل كافة الجهود من أجل تعزيز مراقبة حظر تصدير السلاح، وطالبت بتسريح ونزع سلاح الميليشيات.
العرب