مع تأكيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) في أكثر من مناسبة اعتزامه اعتزال العمل السياسي، وعدم الترشح مجددًا لأي من مناصبه التي يشغلها حاليًّا؛ لم يكن ممكنًا عدم طرح التساؤل حول خليفة أبو مازن المحتمل، مع قرب حلول موعد الانتخابات الرئاسية التي تم الاتفاق على إجرائها مطلع العام القادم 2016، خلال اتفاق المصالحة بين حركتي “فتح” و”حماس” الموقع بينهما عام 2014. وتبدو الإجابة على هذا التساؤل معقدة في ظل وجود مشكلة رئيسية تتعلق بآليات اختيار الرئيس الفلسطيني القادم، وفقًا للقواعد الناظمة لعملية التعيين وطبيعة النظام السياسي، التي تتسم بدورها بقدر كبير من التعقيد. وقد انعكس ذلك المشهد الملتبس سياسيًّا على توجهات الشارع الفلسطيني، واتجاهات الرأي العام فيه، بشكل واضح؛ إذ يُلاحظ عدم وجود اتفاق حول شخص واحد يمكنه خلافة الرئيس الحالي إذا ما أصر على عدم الترشح وعدم خوض الانتخابات القادمة.
رأي عام مشتت:
أظهر استطلاع للرأي العام الفلسطيني أجراه مركز “القدس للإعلام والاتصال” خلال الفترة من 19 إلى 23 أغسطس 2015، أن ثمة تأييدًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية حتى ولو لم تتم المصالحة، حيث عبّر ما نسبته 58.9% عن تأييدهم لإجراء الانتخابات، بينما كانت تلك النسبة 34.8% في استطلاع مماثل أجراه المركز نفسه في نوفمبر 2012. كما أظهرت نتائج الاستطلاع أيضًا انخفاضًا في نسبة تأييد إجراء الانتخابات بشرط حدوث المصالحة من 60.8% في نوفمبر 2012 إلى 35.8% في استطلاع أغسطس 2015.
وعلى الرغم من تأييد إجراء الانتخابات، فإن ثمة انقسامًا ملحوظًا أو بالأحرى ترددًا حول شخص واسم خليفة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حال تمسك بقراره باعتزال العمل السياسي وعدم تقديم أوراق ترشحه لفترة رئاسية أخرى؛ حيث أشارت النتائج الإجمالية للضفة وقطاع غزة إلى أن نسبة 10.5% من المستطلعة آراؤهم ستنتخب مروان البرغوثي، فيما سينتخب ما نسبته 9.8% إسماعيل هنية، و5.1% محمد دحلان، بينما عبر 3.3% عن رغبتهم في انتخاب صائب عريقات، وهي النسبة ذاتها التي حصل عليها خالد مشعل، فيما أشار ما نسبته 33.6% إلى عدم حسمهم أمر من سينتخبون.
يأتي هذا الغموض الذي يكتنف شخص الرئيس القادم في وقت عبر فيه المستطلعون عن تراجع ثقتهم في الشخصيات السياسية على الساحة، وفي الحكومة الفلسطينية؛ حيث تراجعت نسبة الذين يثقون بالرئيس عباس من 21.8% (تلك النسبة التي حصل عليها في استطلاع مماثل أجري خلال شهر مارس 2015) إلى 16.1% في هذا الاستطلاع، كما تراجعت نسبة الثقة في إسماعيل هنية من 14.1% في استطلاع مارس إلى 12.5%، غير أن نسبة الثقة في مروان البرغوثي قد زادت من 5.4% في استطلاع مارس إلى 7.1%. كما ارتفعت نسبة الذين يعتقدون أن أداء الحكومة في تراجع، وذلك من نسبة 15.8% في استطلاع رأي مماثل أُجري في أبريل 2014، إلى نسبة 26.4% في هذا الاستطلاع.
مسارات غامضة:
يُمكن القول إن الغموض الذي يكتنف مرحلة ما بعد أبو مازن الذي أعلن عن أنه بصدد اعتزال العمل السياسي؛ إنما يعود في أهم أسبابه إلى تعقد الوضع الحالي للحالة الفلسطينية برمتها، في ظل عدم وضوح الإجراءات القانونية لانتقال السلطة، لا سيما مع تعطل المجلس التشريعي الفلسطيني، والانقسام المتفاقم بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلا عن تعامل حركة “حماس” كند لحركة “فتح”، علاوة على توقف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي عند مرحلة حرجة، وهو ما يصعب مهمة الاتفاق على شخص الرئيس بين الأطراف الفلسطينية المختلفة، خصوصًا أن الرئيس الحالي يشغل ثلاثة مناصب مختلفة، وهي: رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، ورئاسة السلطة الفلسطينية، ورئاسة حركة “فتح”، في الوقت الذي يبدو فيه أن حركة “فتح” عاجزة عن ترتيب أوراقها، وطرح بديل لرئيسها الحالي، على الرغم من مطالبة أبو مازن قيادات الحركة ولجنتها المركزية بالشروع في البحث عن مرشح للحركة لخوض الانتخابات الرئاسية الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن السباق الرئاسي لم يبدأ جديًّا بعد، فإن عدة أسماء قد طُرحت على الساحة، دون أن يُعلن أي منها عن نيته الحقيقية في الترشح للانتخابات المزمع إجراؤها مطلع العام القادم 2016، وفق اتفاقية المصالحة التي عُقدت بين حركتي “فتح” و”حماس” خلال العام الماضي 2014. ومن الواضح أن فرص هذه الأسماء في شغل منصب رئيس السلطة الفلسطينية تتوقف على المواءمات الداخلية، ومدى الاتفاق الذي يمكن أن يحظى به هؤلاء بين الأطراف الفلسطينية المختلفة.
غير أن سيناريو أكثر تشاؤمًا تُحذر منه بعض القيادات الفلسطينية، وعلى رأسها حاتم عبد القادر عضو المجلس الثوري لحركة “فتح”، ومفاده تعثر إجراء انتخابات رئاسية، وأن يكون الرئيس محمود عباس هو آخر رئيس للسلطة الفلسطينية، وبالتالي حل السلطة الفلسطينية، والدخول في انتفاضة ثالثة، لا سيما إذا ما واصلت إسرائيل سياستها الراهنة، وهو السيناريو الذي تتحسب له إسرائيل، وتحذر منه أيضًا.
ففي مقال نشرته صحيفة “معاريف” في عددها الصادر في 2 سبتمبر 2015، أشار معلق الشئون الاستخباراتية يوسي ميلمان إلى أن انهيار السلطة الفلسطينية أمر وارد، وحال وقوع ذلك سيقع على إسرائيل عبء هي في غنى عنه، وهو تحمل مسئولية إدارة الشئون اليومية لأكثر من أربعة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. فضلا عن إمكانية اندلاع انتفاضة جديدة في ظل عدم وجود سلطة سياسية يمكن التفاوض معها، بشكل يوحي في النهاية بأن الفلسطينيين مقبلون على استحقاقات سياسية لا تبدو هينة.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية