منذ سنوات طويلة والاجتماعات الرسمية العربية تتكرر، وتحت عناوين عديدة تلتقي مضامينها عند إصلاح وإعادة هيكلة جامعة الدول العربية سبيلا للارتقاء بدورها دعما للمصالح العربية المشتركة. وامتدادا لها، يتنزل الاجتماع المنعقد في الأول من شهر أيلول الجاري، في مقر الأمانة العامة، لفريق العمل المناط به التفكير في كيفية تطوير منظومة العمل العربي المشترك، وإعداد تقرير وفقا لنتائج أعماله لمناقشته في اجتماع مجلس الجامعة في دورته الاعتيادية المقررة في وقت لاحق من هذا الشهر واتخاذ القرار بشأنه. وانطلاقا من إحدى المسلمات العلمية، التي تفيد بأن حاضر ومستقبل البيئة التي يتحرك بداخلها، هذا الموضوع أو ذاك، تنطوي على تأثير فاعل في مخرجات حركته، نتساءل: كيف ستنعكس مشاهد المستقبل العربي على موضوع إعادة هيكلة جامعة الدول العربية؟
ابتداء، تجدر الإشارة إلى أن العرب دخلوا القرن الحادي والعشرين وهم في وضع لا يستطيع نكران حقائقه الموضوعية الإنسان المدرك. فهذا الوضع (بمعنى الواقع) العربي، الذي يعد محصلة لتأثير مجموعات من المدخلات (بمعنى المتغيرات) الداخلية، بعضها، يدفع إما إلى مشهد استمرارية التردي والتراجع الحضاري أو إلى مشهد بداية التغير والارتقاء الحضاري أو إلى مشهد مركب يجمع بين المشهدين السابقين.
ونرى أن مستقبل الوطن العربي سيقترن، ولزمان قادم، بالمشهد الأول. فتجذر القطرية والتبعية والانكشاف الاستراتيجي انطوى على مخرجات جعلت الوطن العربي، في العموم، واهنا وبالتالي عاجزا عن توظيف قدراته (وهي فريدة في حالة اجتماعها) لدعم فاعلية أنماط حركته الخارجية. لذا يخطئ المرء عندما يتجاوز معطيات الواقع العربي، ويغرق بالتالي في التفاؤل غير الموضوعي، ويرى أن هذا الواقع سيتغير في المستقبل القريب أو المتوسط نحو الأحسن. وهنا لنتذكر أن هذا الواقع صار عميق الجذور رسميا ومجتمعيا.
رسميا، عمدت الدولة القطرية العربية إلى التمسك بمفهوم للسيادة يستوي والمفهوم الذي كان سائدا في القرون الوسطى، أي السيادة المطلقة. وهذا المفهوم لم يجعلها تتوافر على درجة عالية من الحساسية حيال أنماط سلوك الدول العربية الأخرى حيالها، علما أن هذه الحساسية كانت أقل حدة في حالة العلاقات مع غير العرب، فحسب، وإنما جعلها تعمد أيضا، في العموم، إلى تبني أنماط من السلوك تتميز بالنفعية سبيلا لتحقيق مصالحها الذاتية، وبمخرجات جعلت معطيات الواقع العربي مدخلا لديمومة التجزئة ومخرجا لها في آن. ولنتذكر أنّ الحرص على التوفيق بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون لم يكن ضمن الأولويات العربية الرسمية. وهو الأمر الذي جعل صناع القرار العرب خارج زمان عالم يتغير على نحو غير مسبوق، وضمنه اتجاه العديد بين الدول، هنا وهناك، إلى التكامل دعما لقدرتها على الفعل المؤثر تحقيقا لمصالح مشتركة.
أمّا مجتمعيا، فقد صارت عدة شرائح عربية مؤثرة تدعو ضمنيا أو صراحة إلى تغليب منطق الدولة القطرية أولا على ما سواه، هذا فضلا عن أن المواطن العربي أخذ، بعد سنوات من التدجين الداخلي، يولي تأمين متطلبات حياته اليومية أولوية خاصة. وجراء ذلك، أصبح ضمان الحاضر وليس الاستعداد للمستقبل هو المتغير الحاسم وراء انتشار السلبية داخل المجتمعات العربية. وهنا يُطرح سؤال مفاده؛ هل أن أولويات المواطن العربي، ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تتماهى وتلك التي كانت سائدة في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي؟ سؤال الثابت أنّ جوابه الموضوعي سيكون: كلاّ، بالضرورة.
ولا يعني القول بأنّ المستقبل العربي سيكون، على المديين القريب والمتوسط، امتدادا لمعطيات الحاضر التي جعلت العرب خارج التاريخ، أنّ مستقبلنا سيبقى أسيرا لها. وهنا لنتذكر أنّ المستقبل لا يكون دائما وأبدا امتدادا آليا لمشهد ذلك الحاضر السيئ والرديء، خصوصا عندما يقترن هذا الحاضر برؤية مجتمعية حضارية، وإرادة واعية لا ترفض الاستسلام لمعطيات الواقع السلبي فحسب، وإنما تسعى أيضا إلى تحقيق الارتقاء التاريخي والحضاري التدريجي للمجتمع. ومما يدعم ذلك أيضا أنّ الدولة القطرية العربية لم تعد تستطيع، على الرغم من تجذّرها في الفكر والممارسة، أن تكون بعزل عن عملية تغيير العالم، وروح العصر. ومما يساعد على ذلك أيضا أمران مهمّان؛ أولهما، أنّ الواقع العربي لا يخلو، أيضا، من تحولات كمية وكيفية غير قابلة للتراجع تحمل بذور التغيير وتدفع إليه.
وثانيهما، أنّ الارتقاء بالاستجابة الحضارية العربية إلى مستوى تحديات الحاضر والمستقبل تستدعي التكامل العربي. فالتجربة العربية تؤكد أنّ الدولة القطرية في الوطن العربي لا تستطيع، ولوحدها، ضمان حتى مصالحها الذاتية. على أنّ اقتران المستقبل بهذا المشهد أو ذاك لا يكون بمعزل عن مدى قدرة القوى العربية، الداعمة إمّا لديمومة التجزئة أو لتكامل عربي حقيقي، على توظيف معطيات الواقع العربي لصالحها. ونرى أن هذا الواقع يتيح لكل من هذه القوى فرصا تساعدها على تحقيق ما تصبو إليه.
وتجد القوى الداعمة لفكرة ديمومة الدولة القطرية في معظم معطيات الواقع العربي مدخلا داعما لبقاء جامعة الدول العربية منظمة راعية لهذه الفكرة. ولنتذكر أن ميثاقها جاء بمنظمة إقليمية متعددة الوظائف هدفها الأساسي تحقيق التعاون الاختياري بين دول مستقلة ذات سيادة مطلقة، وسبيلا لتطوير علاقاتهم السياسية والعسكرية والوظيفية ولا غير.
وبناء عليه، لم يأت ميثاق جامعة الدول العربية بمنظمة فوق قومية تعمل من أجل تحقيق التكامل متعدد المستويات للدول الأعضاء، وإنما بمنظمة تعمل على تثبيت الأمر القائم في هذه الدول.
وتؤكد ذلك المادة الثامنة من الميثاق بنصها على أن”تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعتبره حقا من حقوق تلك الدول وتتعهد بألاّ تقوم بعمل يرمي إلى تغير ذلك النظام فيها”.
ولأن ميثاق جامعة الدول العربية لم يجعل من تحقيق التكامل العربي هدفه، فإنه جاء بالتالي بتنظيم هرمي بدائي التكوين وباختصاصات ضعيفة، ويتخذ قراراته الأساسية بإجماع الأصوات. وعلى الرغم من أنّ الجامعة قد تطورت خلال الزمان الممتد منذ عام 1945، إلا أنها، بوضعها الراهن، ليست قادرة على تحقيق حتى الحد الأدنى المطلوب لدفع عجلة التكامل العربي، الذي يعد أساس قدرة العرب على الفعل الهادف والمؤثر للصالح المشترك.
وبالمقابل، تجد القوى العربية الداعية للتكامل دعما مهما جراء انتشار إدراك مركب، رسمي ومجتمعي، قوامه أنّ الواقع العربي لا يفتقر إلى إرادة مقاومة إخراج العرب من التاريخ؛ فإضافة إلى أن انتفاء مثل هذه الإرادة يتقاطع مع قانون الحركة والتغيير، تفيد تجربة النظام العربي الرسمي بأنّ أزمنة التضامن العربي، على الرغم من آمادها الزمنية القصيرة، لم تؤد إلى الارتقاء بالعلاقات العربية العربية إلى آفاق أرحب فحسب، وإنما أدت به إلى أن يكون قادرا أيضا على الفعل ورد الفعل المؤثر. وقد أدى ذلك إلى رؤية مفادها أنّ استمرار معطيات التردي والتراجع العربي، بمخرجاتها السلبية على عموم الفاعلية العربية الخارجية، ستفضي إلى تفاقم التحديات الداخلية والخارجية، وتدعم عدم القدرة على احتوائها بجهد عربي منفرد أو مشترك محدود، خاصة أن العرب بتكاملهم وتكافلهم يستطيعون تغيير الواقع الراهن تأمينا للارتقاء الحضاري في الداخل ودعم فاعلية الأداء في الخارج.
ولهذا الغرض تعد جامعة الدول العربية بمثابة الأداة المثلى، ولاسيما بعد تحويلها من منظمة راعية لديمومة الواقع العربي المستمر منذ عام 1945 إلى أخرى تتحمل مسؤولية الارتقاء بالعرب إلى حالة متقدمة من التحديث والتكامل النظامي عبر تخويلها صلاحيات كافية تتيح لها اتخاذ القرار وتنفيذه. ومن بين الأمور التي من شأنها أن تساعد على ذلك نذكر أمران أساسيان: أولهما، خبرتها الطويلة والمتراكمة في إدارة العمل العربي المشترك، بمستوياته المتعددة.
أما ثانيهما فتكمن في مخرجات انتشار ثقافة الانحياز إلى المستقبل، بسبب انتشار الحوار الجاد بشأنه بين العرب، سواء على مستوى الكل أو الجزء، ليكون متفاعلا مع اتجاه صناع القرار العرب إلى الاستجابة لمطالب الرأي العام في إحدات تغييرات شاملة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية لدولهم، إدراكا منهم للنتائج السلبية المترتبة عن عدم استجابتهم لها.
الثابت أنّ اقتران الواقع العربي الراهن بمدخلات تدفع إلى التنافر والتكامل بين الدول العربية في آن واحد، لا يسمح بالقول إنّ المستقبل العربي سيقترن بمشهد يعبر عن خصائص أحدهما، وإنما بمشهد يجمع بينهما ويمتد إلى لحظة حسم الصراع بين المتغيرات الدافعة إمّا إلى التراجع وإما إلى الارتقاء الحضاري العربي.
وفي مثل هذا المشهد، الذي نرجحه، من المحتمل أن يصار إلى إعادة هيكلة جامعة الدول العربية على نحو يفضي بها إلى الأخذ بتجربة الاتحاد الأوروبي ولكن بصلاحيات لا ترتقي إلى صلاحياته. ولا بأس في ذلك، فالاتحاد الأوروبي بدأ متواضعا ولكنه تطور جراء الحاجة الأوروبية إلى تطويره وتوظيفه كأداة أساسية لتأمين التكامل الأوروبي.
د.مازن الرمضاني
صحيفة العرب اللندنية