تعد جمهورية ألمانيا الاتحادية إحدى الوجهات الرئيسية لأغلب اللاجئين في العالم، فقد بلغ عدد طلبات اللجوء إليها حتى نهاية يونيو/حزيران الماضي نحو ٢٠٣ آلاف طلب، يشكل اللاجئون السوريون نحو الربع منهم، بينما تعود نصف الطلبات للاجئين من دول البلقان.
وفي حين تتوقع الدولة الألمانية أن تصل طلبات اللجوء هذا العام إلى ثمانمئة ألف طلب، لم تشمل الميزانية المرصودة للاجئين هذا العام أكثر من ثلاثمئة ألف لاجئ، الأمر الذي شكل ضغطا هائلا على موارد الدولة بكافة أشكالها، فمشهد اللاجئين النائمين في الحدائق العامة في برلين لم يكن مألوفا في ألمانيا قبل الآن، مما دفع الحكومة إلى تحويل العديد من ملاعب كرة القدم والمدارس إلى صالات استقبال لهم.
كما قام عدد من الشركات الألمانية بتقديم المساعدات العينية والمالية للاجئين، كشركة باير للأدوية ومجموعة شبرينغر، في حين وضعت شركة سيمنس مقراتها غير المأهولة في ميونخ تحت تصرف الحكومة من أجل إيواء اللاجئين، كما يجري النقاش الآن بشأن تحويل صالات معرض دوسلدورف الشهير إلى مقر مؤقت للاجئين.
كما أن اقتراب فصل الشتاء أجبر الحكومة الألمانية على اتخاذ إجراءات عاجلة، حيث لا يمكن للاجئين المبيت في الحدائق أو الخيام غير المعدة بشكل جيد عندما يبدأ شتاء ألمانيا البارد؛ فقد قامت الحكومة الألمانية هذا الأسبوع بتخصيص مبلغ مليار يورو كمساعدة عاجلة للاجئين من أجل بناء وتجهيز ١٥٠ ألف وحدة سكنية مناسبة للشتاء قبل نهاية العام الجاري.
كما تم تخصيص ستة مليارات يورو جرى رصدها من الميزانية الاتحادية لعام ٢٠١٦ إضافة إلى ثلاثة مليارات جرى تخصيصها سابقا، حيث سيتم صرف نصفها للولايات الألمانية والمجالس المحلية مباشرة من أجل تأمين الخدمات والمرافق اللازمة للاجئين.
ولعله من حسن حظ اللاجئين أن الاقتصاد الألماني يمر بحالة جيدة جدا مقارنة بالدول الأوروبية المحيطة، حيث تشهد ألمانيا هذا العام أقل نسبة عاطلين عن العمل خلال الـ25 سنة الماضية، الأمر الذي يسّر للحكومة مواجهة هذه المصاريف المالية الضخمة، فقد حاول وزير الاقتصاد الألماني سيغمار غابرييل بعث رسالة تطمين لدافعي الضرائب عندما صرح بأنه “لن تتم تغطية هذه المصاريف من ضرائب جديدة، فالاقتصاد الألماني قوي وقادر على تجاوز هذا التحدي”.
ولكن لماذا تساعد ألمانيا اللاجئين؟
قامت وزارة الهجرة الدانماركية بداية شهر سبتمبر/أيلول الجاري بنشر إعلانات في الصحف اللبنانية بعنوان “أيها اللاجئون السوريون لا تأتوا إلى بلادنا”، كما أصدرت مجموعة قوانين قلصت بموجبها المساعدات الاجتماعية المقدمة للاجئين إلى النصف.
وقبل ذلك، صرح وزير الداخلية السلوفاكي إيفان متيك بأن بلاده “لن تقبل المهاجرين المسلمين؛ لأنهم لن يشعروا بالاستقرار أو أنهم في وطنهم”. في حين اتبعت فرنسا وبريطانيا سياسة انتقائية في استقدام اللاجئين تسعى لاستقطاب النخب حصرا. وعلى النقيض من ذلك، أصدرت الحكومة الألمانية حزمة جديدة من القوانين تهدف إلى تيسير حياة اللاجئين الجدد وتسهيل اندماجهم في المجتمع الألماني وفي سوق العمل.
فابتداء من شهر أغسطس/آب ٢٠١٥، يمكن لكل لاجئ وصل إلى ألمانيا بعد عام ٢٠١١ الحصول على الإقامة الدائمة بعد مرور ثلاث سنوات على لجوئه بغض النظر عن الأوضاع السياسية في البلد الأصل، كما أنها غضت النظر عن العمل باتفاقية “دبلن” بالنسبة للاجئين السوريين، والتي تنص على إرجاع طالب اللجوء الذي وصل ألمانيا إلى أول دولة أوروبية دخل إليها.
الكثير من المتابعين لا يستطيعون تقبل فكرة أن ألمانيا تسهل إجراءات قبول اللاجئين لأسباب إنسانية بالدرجة الأولى؛ ففي فرنسا هاجمت زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان السياسات الألمانية، وقالت إن ألمانيا تريد تحويل هؤلاء اللاجئين إلى عبيد وتشغلهم بأجور متدنية.
في حين تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي العربية العديد من التفسيرات التي تتنوع بين الاعتقاد بوجود مؤامرة تستهدف إفراغ سوريا من معارضي الأسد، والاعتقاد بحاجة ألمانيا للمهاجرين من أجل تعويض التناقص الديموغرافي لديها. مع العلم أنه لو أن هدف استقبال اللاجئين اقتصر على سد العجز السكاني لكان من الممكن للحكومة الألمانية أن تفتح باب الهجرة المنتقاة وتختار أفضل الكفاءات من الصين والهند والدول العربية وأوروبا الشرقية. بالإضافة إلى ذلك فإن أوروبا كلها تعاني من الشيخوخة بما فيها الدول التي ترفض استقبال اللاجئين.
قد يحقق قرار تسهيل شؤون اللاجئين مصالح متعددة للدولة الألمانية، كما أن قرار عدم استقبالهم -كما تفعل الدانمارك أو بريطانيا- أو استقبال النخب منهم فقط يدرأ أيضا مخاطر عديدة؛ فهناك مخاطر أمنية واجتماعية ومصاريف مالية ضخمة ينطوي عليها قرار استقبال لاجئين من ثقافات وبيئات أخرى بأعداد كبيرة، فالنسبة الغالبة من اللاجئين تحمل معها أزماتها وصراعاتها، مما ينقل الصراع والخلاف للدول المضيفة.
والحقيقة أن دوافع الحكومة الألمانية متعددة ومتقاطعة؛ فهي تتعامل مع موضوع اللاجئين كأزمة داخلية بالدرجة الأولى، فبعد وصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى أراضيها تسعى السياسات الألمانية للحيلولة دون تحول وجودهم في المستقبل إلى أزمة أكبر نتيجة عدم اندماجهم في المجتمع أو تشكيلهم مجتمعات موازية ومنغلقة، كما تسعى أيضا للتعامل مع اللاجئين على أنهم فرصة يمكن استثمارها من أجل دعم سوق العمل والحفاظ على المستوى الاقتصادي المتقدم في ألمانيا.
فعلى سبيل المثال، في مقابلة أجرتها صحيفة الشبيغل مع “يانينا كوغل” عضو مجلس إدارة شركة سيمنس الألمانية ومسؤولة شؤون العمال فيها الذين يبلغ عددهم ٣٤٠ ألف موظف، أجابت عن سؤال: “هل تحتاج ألمانيا مهاجرين؟” قائلة “حتى عام ٢٠٣٠ سيعاني سوق العمل الألماني من نقص في الكفاءات المؤهلة يقع بين مليونين وسبعة ملايين شخص مؤهل حسب طريقة ومنهجية تصنيف الكفاءة والتأهيل. في جميع الأحوال سينعكس ذلك على الاقتصاد الألماني بتناقص في الدخل القومي يقدر بعدة مئات المليارات”، و”ألمانيا بحاجة إلى حزمة تشريعات تسهل دخول الكفاءات إلى ألمانيا”.
وفي حالات الهجرة المرافقة للحروب، كما هي الحال في سوريا والعراق اليوم، تكون الهجرة مرتبطة بالطبقة الوسطى في المجتمع، فهي ليست هجرة الشرائح الفقيرة التي تبحث عن حياة أفضل، وإنما هي هجرة كفاءات وأصحاب مؤهلات علمية ومهنية تبحث عن بيئة آمنة كي تبدأ حياتها المنتجة من جديد.
قد تكون النتائج كارثية على البلد الأصل، حيث إنه سيفقد كفاءاته القادرة على إعادة إعماره، في حين أن البلاد التي ستستقبل هؤلاء اللاجئين يمكن لها الاستفادة منهم في حال أحسنت إدماجهم في المجتمع وفي سوق العمل. فألمانيا -على سبيل المثال- تؤمن للاجئ فترة تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات من أجل تعلم اللغة واكتساب المؤهلات اللازمة للدخول في سوق العمل.
وحتى في حال عودتهم إلى بلادهم بعد انتهاء الحرب فإنهم سيشكلون جسرا للتواصل والتعاون الاقتصادي والثقافي بين بلادهم وألمانيا، فمن الطبيعي أن يستوردوا لبلادهم التكنولوجيا والآلات الألمانية التي تدربوا عليها.
من ناحية أخرى، فرغم تباين المواقف الحزبية تاريخيا من قضية اللاجئين، فإن التحالف الحزبي الحاكم -الحزب الديمقراطي المسيحي- الذي تنتمي له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والحزب الديمقراطي الاشتراكي، لم يجد صعوبة في إيجاد صيغة تفاهم للتعامل مع أزمة اللاجئين، ربما دفعه إلى ذلك قلة الخيارات المتاحة أمامه لدى التعاطي مع الدفق البشري الواصل إلى بلادهم، وأيضا تقاطع المصالح في ما بينهما عندما يتم النظر إلى مسألة اللجوء على أنها فرصة يمكن استثمارها.
كما أنه لا يمكن إهمال دور منظمات المجتمع المدني ومجموعات العمل الأهلي التي شكلت ضغطا كبيرا على الحكومة الألمانية من أجل تسهيل شؤون اللاجئين. إلا أن هذا لم يمنع ظهور العديد من الأصوات المعارضة لسياسة الحكومة الحالية المتساهلة مع الأجانب، آخرها كان ماكس شتراوبينغر، وهو أحد السياسيين من حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي الذي يشارك في الحكومة الحالية عبر شراكته مع الحزب الديمقراطي المسيحي؛ فقد طالب شتراوبينغر بإعادة السوريين إلى بلادهم، في حين يعمل حزبه على إعداد خطط جديدة للتعامل مع اللاجئين بحزم أكبر، إلا أن هذه الأصوات ما زالت لا تشكل تيارا واسعا حتى الآن.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من الشعب الألماني يرى في خدمة اللاجئين واجبا إنسانيا وضريبة رفاهية يجب أداؤها لمن لا يمتلك العيش في بلد آمن، خاصة أن الشعب الألماني تعرض لأزمة اللجوء والنزوح في ما مضى.
فقد أنتجت أزمة اللاجئين الحالية ظاهرة جديدة وجديرة بالانتباه، وهي المبادرة الشعبية العارمة لمساعدة الوافدين الجدد، حيث انتشرت في أغلب المدن الألمانية مبادرات محلية تقوم بتوزيع الطعام والشراب والملابس وحاجات الأطفال على اللاجئين الواصلين للمدن الحدودية أو مراكز اللجوء، كما تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الصور لمواطنين ألمان يرفعون لافتات ترحب باللاجئين الجدد.
امتازت المبادرة الألمانية عن مثيلاتها في أوروبا بالانتشار الواسع والزخم العالي، حتى أن العديد من مراكز اللجوء اعتذرت عن تسلم المساعدات من الناشطين لعجزها عن إدارة الكميات الضخمة المرسلة إليها.
كما قامت أغلب الصحف المحلية بدعم هذه المبادرات والتشجيع عليها. فعلى سبيل المثال، قامت صحيفة “بيلد” الشهيرة بإطلاق مباردة “نحن نساعد”، كما قامت صحيفة “دي تسايت” بنشر بعض القصص من حياة اللاجئين باللغة العربية.
وحتى مع افتراض أن الحكومة الألمانية تسعى من خلال سياسات اللجوء المتساهلة لخدمة عجلة الاقتصاد على المدى البعيد، فإنه لا يمكن تفسير التعاطف الشعبي والمبادرات الأهلية والمدنية لدى عموم الألمان إلا بالدافع الإنساني المجرد، وهو ما يدفع للتفاؤل في مستقبل تتقارب فيه الشعوب وتتفاهم رغم اختلافاتها الثقافية والعرقية، ويطوي صفحة العداء التاريخي الذي يقسم العالم إلى دارين متحاربتين.
غياث بلال
الجزيرة نت