كثيرا ما أعود إلى تذكر إجابة الزعيم الهندى غاندى الساخرة، عندما سأله صحفى إنجليزى عن رأيه فى الحضارة الغربية، إذ قال «إنها ستكون فكرة جيدة جدا!».. أى إنه لو تحققت هذه الحضارة بالفعل كان أمرا طيبا للغاية!
عدت إلى تذكر هذه الإجابة لدى متابعتى تعليقات الزعماء الأوروبيين على مآسى المهاجرين الذين يتدفقون على أوروبا فى هذه الأيام من مختلف الجهات، وعلى الأخص من سوريا، وقد تحملوا فى سبيل الوصول الى أوروبا مختلف أنواع العذاب والمخاطر، آملين فى النهاية أن تقبلهم دولة أوروبية لاجئين سياسيين، بعد ما تعرضوا له فى بلادهم من تتنكيل وتشريد، وغرق منهم كثيرون فى أثناء عبورهم البحر المتوسط بقوارب غير معدة لهذه الرحلة، اختلف الزعماء الأوروبيون فى تصريحاتهم عن الموقف الأمثل الذى يجب على أوروبا اتخاذه إزاء المهاجرين، ولكن بعضهم (مثل السيدة ميركل فى ألمانيا) عبر عن ضرورة اتخاذ موقف إنسانى يليق بحضارة أوروبا.
نعم، اتخاذ موقف إنسانى إزاء هؤلاء المشردين، واجب يليق بما رفعته أوروبا من شعارات منذ بداية حضارتها الحديثة قبل ثلاثة قرون، ولاتزال تردده حتى الآن، ولكن الى أى مدى التزمت أوروبا فى الواقع بتطبيق هذه الشعارات، خلال هذه القرون الثلاثة؟
لابد أن سؤالا كهذا هو ما كان يطوف بذهن غاندى عندما صدرت منه هذه العبارة منذ نحو ثمانين عاما، لم يكن غائبا عن غاندى ما حققته أوروبا من تقدم فى العلم والصناعة، وفى تطبيق الديمقراطية داخل أراضيها، ولكن غاندى عمل بضع سنوات فى جنوب إفريقيا، بعد أن أتم دراسته فى انجلترا، ورأى بعينيه ما مارسه الأوروبيون من معاملة بالغة القسوة لأهل البلاد من السود، وللمهاجرين إليها من الهند، ثم شاهد بعد أن عاد الى الهند قسوة المحتلين الانجليز فى معاملة الهنود، وتنكرهم لمبادئ الديمقراطية فى مستعمراتهم، ووقوفهم ضد تقدم الهند الاقتصادى وتعارضه مع متطلبات النمو الصناعى فى انجلترا، بدت الحضارة الأوروبية إذن، فى نظر غاندي، وكأنها تنطوى على كلام جميل وشعارات خلابة كثيرا ما يرمى بها عرض الحائط فى الواقع، ومن ثم قال ساخرا إنها ليست أكثر من فكرة جميلة.. ليتها تتحقق!
<<<
الأمثلة التى يمكن أن نقدمها من العالم العربى لما فعلته أوروبا ببلدانه المختلفة من تعطيل للتصنيع، وإفساد للديمقراطية، واختلاق العقبات فى طريق تحقيق الوحدة العربية، بل تجزئة الولاية الواحدة الى أجزاء إمعانا فى تعطيل هذه الوحدة، أمثلة كثيرة يصعب حصرها، وقد استمر هذا طوال استعمار أوروبا للعالم العربى حتى منتصف القرن الماضي، ولكنه استمر أيضا بعد ذلك وإن كان بزعامة جديدة من جانب الولايات المتحدة، وكان آخر هذه المظالم هو ما نتجت عنه هذه المآسى الأخيرة، من تدمير وتشريد وهجرة عشرات الألوف من السوريين ومن بلاد عربية أخري، أملا ليس فى الحصول على نمط أفضل للمعيشة، بل فى مجرد الاستمرار فى الحياة هم وأولادهم.
كثيرون من يرفضون تحميل أوروبا أو الغرب عموما المسئولية عن هذه المآسي، فالعرب فى رأيهم هم من فعلوا ذلك بأنفسهم، إذ هل كان هؤلاء المشردون الباحثون عن ملجأ فى أوروبا يعيشون قبل ذلك معززين مكرمين فى بلادهم؟ هل كانوا يعيشون معززين مكرمين فى ظل صدام حسين فى العراق، أو بشار الأسد فى سوريا، أو معمر القذافى فى ليبيا، أو عبدالله صالح فى اليمن، أو زين العابدين فى تونس، أو حسنى مبارك فى مصر..الخ؟ ولكن علينا أن نتذكر دور الغرب فى وصول كل هؤلاء أصلا الى الحكم، وفى استمرارهم فيه، وما تدفق على هؤلاء الحكام العرب من معونات غربية ماداموا يحققون للغرب أهدافا مهمة، وأن أوروبا وأمريكا لم تنقلبا ضد هؤلاء الحكام إلا عندما تغيرت أهدافهما، وأنه بينما سقطت بعض النظم العربية بسرعة وحصل إسقاطها على تأييد غربي، بقى النظام السورى حيا، رغم كثرة ما سقط من ضحايا عبر ما يزيد على أربع سنوات، لمجرد أن الدولتين الكبيرتين، الولايات المتحدة وروسيا، لم تكونا قد وصلتا بعد الى اتفاق بشأن هذا النظام.
إنى أعرف أن أطماع الغرباء فى بلد ما لابد لتحقيقها من تعاون من جانب بعض أهل هذا البلد، ولكن مثل هؤلاء المستعدين للخيانة موجودون فى كل بلد وكل عصر، ولا أظن أن نصيب العرب منهم أكبر من نصيب غيرهم، فضلا عن انى بما أقوله الآن لا أطالب أحدا بشيء، ولا أقوم بتوزيع الأحكام الأخلاقية رغبة فى إقناع الأوروبيين بقبول المهاجرين والمشردين العرب، فالأمل فى أن يتحقق هذا عن طريق الموعظة ضعيف جدا، ولا جدوى فى نظرى من محاولة إقناع السمكة الكبيرة بألا تلتهم السمكة الصغيرة، ولكن هذا لا يمنع على الأقل من محاولة الفهم الصحيح للأسباب الحقيقية التى أدت الى هذه المآسي، كما أن لهذه المأساة الأخيرة جانبا شيقا يستحق أن ينوه به.
<<<
فقد جاءتنا الأخبار فى الأيام الأخيرة بانتشار حالة عامة من الحزن والتعاطف مع اللاجئين السوريين فى كثير من البلاد الأوروبية، خاصة من جانب الشباب، إذ خرج آلاف منهم لاستقبال اللاجئين بالترحيب، ومطالبين بإعطائهم حق اللجوء السياسي، كما عبر كثيرون من الشباب الأوروبى عن استعدادهم لاستضافة بعض هؤلاء المهاجرين فى بيوتهم، إسهاما فى التخفيف من محنتهم.
الظاهرة لافته للنظر ومؤثرة للغاية، إذ لا شك فى إخلاص هؤلاء الشباب وصدق تعاطفهم مع اللاجئين، بل وغضب كثير منهم على ما ارتكبته حكوماتهم من أخطاء أدت الى هذه المآسي، ولكن من الشيق أيضا المفارقة الصارخة بين مشاعر هؤلاء الشباب وبين سلوك قادتهم، سواء فى الماضى أو الحاضر، بينما ينتمى الجميع الى البلاد نفسها، وإلى حضارة واحدة.
كان لابد أن يذكرنى هذا بمسرحية قديمة للكاتب الأيرلندى الفذ جورج برنارد شو، كتبها فى أواخر القرن التاسع عشر (1892)، ولكن ظل تمثيلها ممنوعا بأمر الرقيب حتى العشرينيات من القرن العشرين، ولما عرضت على مسرح الولايات المتحدة قامت الشرطة الأمريكية بمهاجمة المسرح وأوقفت عروضها وقبضت على الممثلين، موضوع المسرحية له علاقة وثيقة بالموضوع الذى نتكلم فيه الآن، وهى تحمل اسم «مهنة مسز وارين» (Mrs.Warren,s Professi) وتحكى قصة امرأة واسعة الثراء ولكنها كونت ثروتها الطائلة من امتهان عمل سييء السمعة، وقد أنجبت طفلة من علاقة غير مشروعة، وترتب على ذلك أن البنت كبرت وترعرعت بعيدا عن أمها فلم تقابلها إلا بعد أن تخرجت فى الجامعة، البنت حصلت على أفضل مستوى للمعيشة طوال حياتها، وذهبت الى أفضل الجامعات، فلم تعان مثلما عانت الأم فى بداية حياتها من شظف العيش، وتكونت لدى البنت، بسبب ذلك مبادئ سامية ونفس عطوف، لم تكن البنت تعرف أن كل ما تمتعت به فى حياتها من فرص رائعة فى التعليم والحياة الهانئة، يرجع الى امتهان أمها لمهنة سيئة السمعة، فلما عرفت ذلك أصابتها صدمة عنيفة، وغضبت غضبا شديدا على الأم، تبلغ المسرحية ذروتها بحوار طويل بين الأم والبنت، تحاول فيه الأم إقناع البنت بأنها كانت مضطرة الى أن تفعل ما فعلته، وأن النتيجة هى على أى حال ما تتمتع به البنت الآن، تقبل البنت فى البداية أن تغفر لأمها خطيئتها فى الماضى، ولكنها تصدم صدمة جديدة وترفض رفضا باتا أن تغفر لأمها أنها لاتزال مستمرة فى تحقيق ثروتها من المهنة القديمة نفسها، هنا تحدث القطيعة، وتنصرف الأم يائسة وتقرر البنت أن تقاطعها الى الأبد.
إنى بصراحة أجد شبها كبيرا بين موضوع هذه المسرحية وقصة الغرب معنا، سواء من جانب حكوماته التى بنت حضارتها على حسابنا، بما فى ذلك تقدمها الصناعى وتعليمها الراقى وديمقراطيتها الرائعة، أو موقف الشباب فى الغرب الذى عرف أخيرا فقط حقيقة الثمن الذى دفعه آخرون فى سبيل أن يتمتع بحياة هانئة.
د.جلال أمين
صحيفة الأهرام المصرية