في تحالف سوريا وإيران

في تحالف سوريا وإيران

مرت عقود على تحالف طهران ودمشق حتى الآن. تحالف أورثه الرئيس السوري السابق حافظ الأسد لابنه بين تركة كبيرة من العلاقات الخارجية المعقدة، وقد استغله الابن كثيراً ليس من أجل تحرير الجولان المحتل، وإنما لقمع المعارضة الداخلية، وإخماد الأصوات المطالبة برحيله خلال السنوات العشر الماضية.

كان موقع سوريا في التحالف أكثر فعالية حتى بداية الألفية الثالثة، أو في عهد الأسد الأب بتعبير أدق. ولكن تغيرات كثيرة طرأت عليها وعلى الشرق الأوسط عامة خلال العقدين الماضيين، أفقدت سوريا القدرة على التحكم بحجم تأثير هذا التحالف عليها، وحولت دمشق إلى واحدة من ولايات الخمينيين العربية.

ما حرص عليه الأسد الأب طوال عهده هو الانتفاع من علاقاته مع طهران دون أن يثير غضب حلفائه الآخرين وخصوم طهران. بانتهازية سياسية واضحة استغل حافظ الأسد علاقاته الخارجية لتثبيت سلطته في الداخل، والمقابل الوحيد الذي قدمه للجميع هو المعادلة الصفرية لمحصلة القوى المؤثرة في بلاده.

الأسد الأب لبّى مصالح جميع القوى الإقليمية والدولية. كان حليفا وخصما للكل في الوقت ذاته. يعرف ما هو الأهم بالنسبة لكل دولة طامعة بسوريا، ويقدمه لها شرط ألا يكون هذا الأهم على حساب دولة أخرى. ولأنه أتقن الرقص على الحبال ولم يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع أحد، بقي سيد اللعبة للنهاية.

مارس حافظ الأسد كثيرا من الانتهازية في علاقاته الخارجية، وتضررت من سياساته هذه عدة دول وتجمعات في المنطقة، ولكن الأكثر تضررا كان الشعب السوري الذي حكم ولازال، بسلطة مستبدة ورث الابن عن الأب مفاتيحها وأدواتها وأسرارها، ولكن الفارق بين العهدين هو تغير الظروف الدولية والإقليمية.

تحالف سوريا وإيران عاش حتى عام 2011 متنكرا بعنوان “محور المقاومة”، وحين طرق الأسد الابن أبواب طهران لمساعدته في قمع الاحتجاجات الشعبية ضده، ظهر التحالف بحلته الأصلية، ومارس المقاومة الوحيدة التي يبرع بها وهي ضد الشعوب التي تحاول التحرر منه والانقلاب على الأنظمة التي تتبناه.

لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لاكتشاف حقيقة هذا المحور، ويكفي أن تنظر إلى واقع الحال في مناطق امتداده الجغرافي حتى تعرف إنجازاته العظيمة. العراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة واليمن كلها مرايا تعكس “مقاومة” هذا المحور، أما الحاضنة الأم فحدث ولا حرج عن انتصارات الخمينيين على الإيرانيين.

منذ عام 2011 صوّب محور “المقاومة” أسلحته وميليشياته على المدن السورية التي ثارت على النظام بزعم أن الطريق إلى القدس يمر منها. وفوق كل بقعة وطأها الخمينيون عاثوا فسادا وزرعوا ثقافة الولاء للولي الفقيه. هكذا حتى باتت نصف البلاد وأكثر تدين بالولاء لإيران أكثر من سوريا الدولة والوطن.

لم تنته كوارث الإيرانيين في سوريا حتى الآن، والحضور الروسي هناك منذ 2015 زاد الأمر سوءاً. فالروس لم يمنعوا فقط سقوط بشار الأسد، وإنما منعوا سقوط محور “المقاومة” بأكمله. ونتيجة لجهود الدولتين باتت سوريا اليوم مقسمة بين خمسة محتلين لكل منهم مساحته الجغرافية وخططه الاستراتيجية فيها.

ولا شك أن إيران هي الأكثر قبحا بين المحتلين الخمسة لسوريا، أولاً لأنها السبب في نشوب الحرب هناك، وثانيا لأنها مصدر انقسام المجتمع السوري دينيا وطائفيا، وثالثا لأنها تحرص أكثر من غيرها على أجل مفتوح للأزمة تغرق فيه البلاد أكثر فأكثر في تبعيتها للولي الفقيه، ورابعا لأنها تواصل كذبة “المقاومة”.

إيران هي الأسوأ ليس فقط بالنسبة إلى السوريين، وإنما أيضا للمحتلين الأربعة المتبقين. أسبابهم في هذا تختلف طبعا، ولكن المحصلة أنها باتت اليوم عدواً مشتركا لهم، وكل منهم يحاول طردها من هناك بطريقة أو بأخرى. مرة يتعاونون، ومرات يتصرفون وفق خطط منفصلة، ولذلك النتيجة حتى الآن هي الفشل.

يتحسس الخمينيون جيدا ذلك التضييق الذي يمارس عليهم للخروج من سوريا، ولكنهم يدركون تباين رؤى خصومهم حول آلية طردهم وأهدافها. ويستغلون نقطة الضعف الأكبر في الخطط التي تحاول محاصرتهم ودفعهم للعودة إلى إيران. لتزول برحيلهم لعنة “المقاومة” التي أصابت السوريين وغيرهم بالمنطقة.

ما يهدد خطط خصوم الخمينيين هو اعتمادها على “الرئيس”. فلا زالت القوى الدولية والإقليمية تؤيد بقاء الأسد على رأس السلطة في دمشق، وتفضل التعامل معه على استبداله بنظام آخر قد لا يكون معطاءً كما هي عائلة الأسد. خاصة وأنه لا يوجد اتفاق بين المعنيين الدوليين حول الأزمة السورية حتى الآن.

الحقيقة أن تفضيل الأسد على غيره هي مشكلة الأزمة السورية بشكل عام، وهو يستند على سببين رئيسيين، الأول أن “المعارضة” فشلت في تقديم نموذج بديل عن الأسد للمجتمع الدولي، والثاني أن القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، لم تبد جدية في استبداله لأسباب متعددة لا يتعلق أي منها بمصلحة السوريين.

اليوم تحاول روسيا وإسرائيل وفقا لتسريبات صحفية عديدة، طرد إيران من سوريا عبر اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب يعيد الشرعية للأسد، مقابل وقف تعاملاته مع إيران. لا يفترض الاتفاق أن الأسد يملك القدرة على طرد الخمينيين من بلاده، ولكنهم يريدون منه نزع “الشرعية” عن الوجود الإيراني في بلاده.

إن سحب النظام من الإيرانيين حجتهم في التواجد فوق الأراضي السورية، يصبح من الممكن توسيع نطاق المواجهة الدولية والإقليمية معهم تحت عناوين عدة. تبدو الخطة منطقية إن حظيت بمباركة أميركية وأوروبية، ولكنّ أحدا لا يستطيع الرهان عليها إلى أن يتضح مستقبل الاتفاق النووي الإيراني وتداعياته المتوقعة.

إن نجحت خطة روسيا وإسرائيل، وهو أمر مستبعد كثيرا حتى الآن، قد يُبتلى السوريون بالأسد سبع سنوات أخرى، لكنهم حتما سيتحررون من سلاسل “المقاومة” و”دولة المواجهة” التي استعبدهم النظام بها لعقود طويلة دون أن يضرب حجرا واحدا على إسرائيل. فهل هذا المقابل لا زال يعني شيئاً بالنسبة لهم؟

العرب