إيران تمد بصرها نحو باكستان وأفغانستان لمساومة بايدن

إيران تمد بصرها نحو باكستان وأفغانستان لمساومة بايدن

تتضح تدريجيا ملامح استراتيجية إيرانية جرى تصميمها لتواكب مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، للحصول على نفوذ متزايد في المنطقة المحيطة بها. إذ تحرك خطط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن خليطا من الأوراق تريد طهران الاستفادة منها وخاصة اللعب على وتر التمدد الطائفي وتوظيف التنافس بين كل من باكستان والهند لصالحها، واستخدام ذلك لتحقيق مكاسب سياسية في وقت حرج ومفصلي من جولات الصراع والمواجهة الأميركية – الإيرانية.

القاهرة – يُعد امتلاك إيران أوراق حضور، وربما مساومة وضغط في الساحة الباكستانية خلال المرحلة المقبلة، أمرا ضروريا في سياق خطط للتقاطع مع مشهد الشد والجذب بين الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن وبين حركة طالبان، بالنظر للمكاسب العائدة على إسلام آباد عبر تحسين وضع وكلائها بأفغانستان مع اتمام الانسحاب الأميركي منتصف العام الجاري.

ويشكل تقارب طهران من طالبان تحركا لتشكيل جبهة قوة تحقق مصالح الطرفين نصف الدائرة، في مواجهة ضغوط وسياسات واشنطن المتغيرة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو ما عكسته الزيارة الأخيرة لوفد من الحركة الأفغانية المتشددة إلى طهران.

أما النصف الآخر فيتعلق بتكريس حضور إيران في باكستان المجاورة، التي تتهيأ عقب الانسحاب لمد نفوذ مضاعف لها في الساحة الأفغانية من خلال علاقاتها القوية مع حركة طالبان.

مصفوفات متقلبة
تصطف طهران بجانب الحركة السنية المتمردة وتتبنى موقفها ومطالبها ومنها تشكيل حكومة إسلامية كاملة كما ورد على لسان وزير الخارجية محمد جواد ظريف لتظهر كطرف مساند لها في مواجهة واشنطن، بعدما ألمحت إدارة بايدن عزمها على مراجعة اتفاقية السلام الموقعة مع الحركة.

وربطت طهران تحركها على الساحة الأفغانية والتماهي مع طالبان بتحرك مواز في الساحة الباكستانية، تمثل في إعادة المئات من المقاتلين من لواء زينبيون الموالي لإيران من سوريا إلى باكستان، وهو من أبرز الميليشيات التي أسسها الحرس الثوري من شيعة باكستان غالبيتهم من مناطق غرب البلاد للقتال في سوريا لدعم أهداف طهران هناك.

وإذا كانت الجارة باكستان متعددة الطوائف لا ترتبط بعلاقات جيدة مع النظام الإيراني، فقد ضخ الحرس الثوري في قلب الساحة الباكستانية وكلاء باكستانيين بالجنسية تمرسوا على الحرب والقتال على مدار سنوات يدينون بالولاء لإيران، وهم جاهزون لتأجيج صراعات طائفية في ساحة يسهل جرها للفوضى والتناحر المذهبي والعقائدي والقبلي.

توسيع طهران لرقعة الاحتكاكات وتغذيتها للطائفية في الدول المجاورة يدفعان لخلط الأوراق أمام كافة اللاعبين

وتعتبر سياسة الاختراق بالميليشيات المنقولة من استراتيجيات إيران بالمنطقة العربية. وقد اعتمدتها طهران لابتزاز إسلام آباد والتدخل في شؤونها الداخلية، وفق الهدف الموحد الذي تتأسس من أجله ميليشيا مسلحة موالية لإيران، وهو خوض الحروب بالوكالة، علاوة على الإنابة عن الحرس الثوري في الهيمنة على البلاد المستهدفة من الداخل، أو على الأقل امتلاك أوراق ضغط قوية ضد أنظمتها.

وتتطلع إيران لتكريس نفوذ أكبر لها داخل البلدين، باكستان وأفغانستان، بهدف تغيير المعادلات والموازين العسكرية بالمنطقة بعد الانسحاب الأميركي، واضعة في اعتبارها الأرباح التي سوف تجنيها إسلام آباد، حال نجاح المفاوضات، حيث من المنتظر أن تشارك في تقاسم سلطة ترجح كفة حليفتها طالبان، مقابل حكومة أفغانية ضعيفة.

تهدف إيران من وراء إعادة المسلحين الشيعة الباكستانيين إلى موطنهم الأصلي الآن، إلى موازنة حضور تنظيم داعش، الذي ينشط بقوة منافسًا القاعدة في باكستان وأفغانستان. إذا لا تريد طهران ترك هذه الساحة فارغة مع اقتراب الانسحاب الأميركي، رغم تململ إدارة بايدن، وساعتها تصبح أفغانستان التي ستخضع بشكل كبير لسيطرة إسلام آباد إلى ملاذ لداعش والقاعدة.

ومن المرجح أن يكون للميليشيات الباكستانية الشيعية الموالية لطهران وأيضا الأفغانية “فاطميون”، دور حيوي خلال المرحلة المقبلة في تقليص نفوذ ولاية خراسان، فرع داعش في باكستان وأفغانستان، بالنظر لما يتحلى به مقاتلوها من خبرات ومهارات قتالية عالية، ومن تحفز للعودة بقوة ضاربة للثأر من التنظيمات السنية التي دأبت على شن هجمات دموية داخل المناطق الشيعية في باكستان، مثل جماعة عسكر جنجوي المتشددة المناهضة للشيعة وداعش وفصائل حركة تحريك طالبان الباكستانية.

ولن يقتصر هدف العودة على الثأر، بل يتعدى ذلك إلى موازنة القوة وتشكيل حالة ميليشياوية شيعية متذرعة بحماية الطائفة المستهدفة من قبل الفصائل المسلحة السنية، استنادًا إلى قاعدة جماهيرية ليست هينة منتشرة بباكستان وأفغانستان، من المتوقع أن ترحب بهذا الحضور لكبح التهديد الداعشي لمذهبها.

وقد يدفع ذلك إلى إمكانية تنامي الميليشيات الشيعية عبر تجنيد المزيد لمواجهة القاعدة، التي تنظر بفخر لمقاتليها الذين هاجروا إلى سوريا، دفاعًا عن المذهب والمراقد وعادوا لحمايتهم، وإنقاذًا لحلفاء طهران في المنطقة، وذلك وفق الرواية الإيرانية.

وينطوي توسيع طهران لرقعة الاحتكاكات والتوترات بين السنة والشيعة وتغذيتها بقوة للنزاعات الطائفية بباكستان، على رسالة مفادها إنهاء مسلسل استباحة الشيعة بالمناطق ذات الأغلبية الشيعية، والتهديد بإطلاق شرارة صراع سني- شيعي يخلط الأوراق أمام جميع اللاعبين.

تحقيق التمدد الإيراني الطائفي وإحداث حالة من عدم الاستقرار الداخلي وتوسيع دائرة الأزمات الطائفية من المحيط العربي إلى العمق الإسلامي في جنوب آسيا، أي في نطاق ملفات فائقة الأهمية للولايات المتحدة في باكستان وأفغانستان، يعني بوضوح التلويح بأوراق مساومة قوية بوجه واشنطن في وقت حرج ومفصلي من جولات الصراع والمواجهة الأميركية – الإيرانية.

وأرادت طهران أن تربط بين مساري اتفاق واشنطن مع طالبان الذي وقعه الرئيس السابق دونالد ترامب ويلمح بايدن بالرغبة في الانسحاب منه أو الضغط لتعديله وتحسين شروطه، وبين اتفاقها النووي الذي انسحب منه ترامب ويرغب الرئيس الجديد بالعودة إليه بشروط جديدة لا تقبلها طهران.

ويمنح الإمساك بالمسارين طهران وضعية أفضل لتحقيق مصالحها وفرض شروطها عبر الضغط بأوراق في متناولها وبصدد تعظيمها في الساحتين الأفغانية والباكستانية، فهي مصطفة مع طالبان عسكريا إذا انسحبت إدارة بايدن من الاتفاق مع الحركة، ما يشي بتهديد مفاده أن خيار توجيه ضربات عسكرية لإيران عوضا عن العودة إلى الاتفاق النووي قد يوسع رقعة المواجهة التي لن تكون مقتصرة على الساحة الإيرانية.

ولا تحظى حرب أفغانستان بشعبية واسعة وسط الشعب الأميركي، نظرًا لحجم الخسائر البشرية والمادية التي أسفرت عنها، لكن الحضور الإيراني المعقد يربك المشهد بين من يدعو للانسحاب من اتفاق فاشل عقدته إدارة ترامب مع حركة أفغانية متمردة، وآخر يدعو للعودة من انسحاب فاشل أجرته إدارة ترامب مع الاتفاق النووي الإيراني، ووسط تلك المعادلات تلوح طهران بالاستنزاف وخلق “عراق جديد” في الساحتين الأفغانية والباكستانية.

في مقابل التهديد بتوسيع رقعة الحرب في سياق مساندة طالبان عسكريًا، تظهر طهران أوراق المساومة. فحضورها الطائفي في تلك الساحات معادل للقاعدة وداعش، ضمن نطاق جيواستراتيجي أرادته واشنطن هادئًا لا تنطلق منه اعتداءات أو تهديدات للولايات المتحدة ولأوروبا، وبإمكان إيران أن تجعله ملتهبًا، وساحة تهديد فعلية سواء عبر ميليشياتها الشيعية أو تلك السنية التي تربطها علاقات قوية بها.

وتستعد طهران لسيناريو هيمنة باكستان على أفغانستان، إذا سحبت واشنطن قواتها وخسرت الحكومة في كابول دعم الجيش، من خلال تغيير المعادلات على الأرض عبر ميليشياتها، التي تسرع في نقلها إلى باكستان، والمستعدة لمواجهة فصائل التكفيريين السنة، واستهداف الجيش الباكستاني دون تردد، إذا تم أخذ الضوء الأخضر من طهران.

واتضحت تجليات هذه المسألة من طبيعة التصريحات التي أطلقها قادة في لواء زينبيون، انتقدوا الطابع غير الإسلامي للجيش الباكستاني، وأعلنوا “العودة من الانتفاضة السورية منتصرين ليصبحوا اليد اليمنى للمرشد الأعلى في العالم”، ما يجعل أهداف العودة أوسع من مجرد تحجيم داعش وحماية الطائفة الشيعية في بالوشستان وباراتشينار وغيرهما.

يرجع السبب الرئيسي وراء تراخي باكستان في التصدي لخطط تجنيد إيران لمقاتلين باكستانيين شيعة على مدار سنوات والزج بهم في حروب تخدم أهداف طهران وصولًا لإعادتهم مجددًا لاختراق معادلات جنوب آسيا إيرانيًا، إلى خشية إسلام آباد من أن يصب توتر علاقاتها مع طهران في خانة تطوير علاقات الأخيرة مع غريمتها الهند، لأن هناك العديد من العوامل في اتجاهات مختلفة كفيلة بالتقريب بين إيران والهند، من بينها اتفاق السلام بين واشنطن وطالبان، ومفاوضات الحركة مع كابول.

وفي حال التزمت واشنطن بالاتفاق مع طالبان، وأتمت سحب قواتها في الموعد المقرر، ستحظى باكستان بمكانة متقدمة في أفغانستان من جهة كسب أرضية جماهيرية ونخبوية مؤيدة لها، وتوطيد علاقتها بالسلطة الحاكمة الجديدة، ممثلة في حركة طالبان حتى إذا شاركتها الحكومة الأفغانية في إدارة البلاد، في حين تُحرم الهند من مكانة مماثلة لعدم لعبها أي دور في الاتفاق.

ويدفع تضاؤل الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان ومحافظة إيران على علاقة جيدة مع طالبان، الهند للاعتماد على إيران كي تتوسط من أجل أن تحسّن نيودلهي علاقاتها مع طالبان حتى لا تكتسب إسلام آباد نفوذًا في مستقبل أفغانستان على حسابها.

وانطلاقًا من تعقيدات المشهد في جنوب آسيا تطمح إيران لخلط الأوراق والتموضع ميدانيًا وسياسيًا بما يمكنها من إحراج الولايات المتحدة، استنادًا لتلاقي مصالحها مع طالبان، حيث تخوضان صراع إرادات بمنطقة وسطى بين الحرب والسلام مع واشنطن، ومع الهند التي لا تتوانى في البحث عن سبل تمكنها من احتلال مكانة ونفوذ باكستان في أفغانستان.

وبسبب تنامي الوجود الهندي في أفغانستان، قررت باكستان أن تحافظ على علاقة قوية مع طالبان، وحوّلت المناطق القبلية على الحدود إلى ملاذ للآلاف من المقاتلين من طالبان، وتردد أن الاستخبارات الباكستانية تورطت في اعتداءات داخل أفغانستان ضد المصالح الهندية، ولم تتخذ إسلام آباد إجراءات على أراضيها ضد المسلحين المناهضين للهند.

ولا تزال طالبان الأفغانية أداة تستفيد منها باكستان لتحقيق طموحاتها، حيث يعتبر الجيش الباكستاني أفغانستان امتدادًا لخططه القتالية في صراعه مع الهند، التي تتطلع من خلال علاقاتها مع إيران أن تجد لها موضع قدم لمجابهة إسلام آباد في هذه الساحة.

ويعد تنظيم داعش في خراسان، هو المسؤول عن غالبية الهجمات التي استهدفت مناطق الشيعة في باكستان، ما يدفع إسلام آباد إلى اتهام الهند باستخدام أفغانستان ودعم الجهاديين لتنفيذ عمليات تهدد استقرارها.

ويمكّن تعقد المشهد الطائفي العنيف في باكستان واللعب على التنافس المحتدم بين باكستان والهند، علاوة على العلاقات المتطورة مع طالبان والقاعدة، إيران من تطوير أدوارها وحضورها في جنوب آسيا، وهو ما تريده لطرح خيارين أمام الولايات المتحدة، تحقيق المطالب الإيرانية والتراجع عن إجراءات حقبة ترامب، أو المضي في مسار خلط الأوراق وتصفية الحسابات واستنزاف أميركا في منطقة فائقة الأهمية.

العرب