من بين الأخبار القليلة المفرحة التي تناقلتها وكالات الأنباء، أخيرا، نجاح الصحافية والناشطة فان تران تو نيجازاده، الفيتنامية الأصل والفرنسية الجنسية المولودة عام 1942، في رفع دعوى قضائية ضد 14 شركة متورطة في تصنيع وبيع المادة الكيميائية المسماة «العامل البرتقالي» إلى الحكومة الأمريكية، المنخرطة حينها في الحرب ضد فيتنام.
من بين الشركات التي رفعت الدعوى ضدها شركة مونسانتو (المعروفة بانتاجها وتسويقها البذور المعدلة وراثيا) التي تملكها، حاليا، شركة باير الألمانية المعروفة، عالميا، بانتاجها الأدوية أيضا. وكانت فان تران قد عانت هي نفسها من أمراض نادرة جراء التعرض لآثار العامل البرتقالي.
«العامل البرتقالي» هو مبيد أعشاب ونازع لأوراق الأشجار، وهو أكثر فاعلية بنحو 13 مرة من مبيدات الأعشاب العادية. قامت القوات الأمريكية برش 80 مليون ليتر من هذه المادة السامة فوق جنوب فيتنام في الفترة بين 1962 و1971، محاولة بذلك حرمان مقاتلي فيتنام الشمالية ( الفيتكونغ) من الغطاء الذي توفره لهم الغابات ضد القصف الجوي الأمريكي، بالإضافة الى حرمانهم وحاضنتهم الاجتماعية من مصادر الغذاء. أدى الاستخدام الأمريكي للمبيد القاتل الى إصابة ملايين الفيتناميين بأعراض لم يشهدوا لها مثيلا ولحقبة زمنية تجاوزت سنوات الحرب الى أيامنا هذه. اذ أدى تسرب المبيد من التربة الى المياه الجوفية والأنهار الى تعريض الفيتناميين، من اجيال تالية، الى إعاقات عقلية وجسدية وهاجمة مناعة الجسم. ولا تزال تتسبب في ولادة أطفال برؤوس متضخمة أو أطراف مشوهة، وانتشار الإصابة بالسرطان، بالاضافة الى الأضرار التي لحقت بالبيئة. من بين الضحايا ، عوائل قررت عدم انجاب الأطفال بسبب انجابها اطفالا مشوهين، وأخرى أنجبت خمسة عشر طفلا لم يعش منهم غير ثلاثة. وتشير احصائيات فيتنام الحكومية الى إن نحو ثلاثة ملايين فيتنامي تعرضوا للعامل البرتقالي وأن مليون شخص يعانون من تأثيرات خطيرة على الصحة من بينهم 150 ألف طفل على الأقل يعانون من عيوب خلقية.
حتى تاريخ النظر الحالي في الدعوى، كانت الحكومة الأمريكية قد قامت بتعويض جنود في الجيش الأمريكي والأسترالي والكوري عانوا من عواقب استخدام المادة الكيميائية في الحرب. إلا أن ذلك لم يشمل المواطنين الفيتناميين على الرغم من محاولات الضحايا المستمرة، وتنامي التعاون الأمريكي مع فيتنام كدولة ضمن الصراعات الإقليمية المتغيرة، اذ لم تعترف الحكومة الأمريكية أو الجهة المصنعة لهذه المادة الكيميائية بمسؤوليتها.
مما دفع الناشطة فان تران الى اقامة الدعوى ضد الشركات المنتجة في فرنسا. تتحجج الشركات، متعددة الجنسيات، بأنه لا يمكن تحميلها المسؤولية عن استخدام الجيش الأمريكي لمنتجاتها التي انتجتها، وان الشركات ، كما ذكر محامي مونسانتو، «تصرفت بأوامر من الحكومة ونيابة عنها».
سببت القذائف أضرارا صحية متعددة، ومنها السرطانية والجينية والتشوهات الخَلقية. حيث سجلت ارتفاعا ملحوظا في مستويات التشوهات الخلقية، وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة
إن سبب اعتبار خبر رفع الدعوى مفرحا لا يعود، فقط، الى مشاعر التضامن مع ضحايا الجريمة الأمريكية بل، ايضا، الى اقترابهم من تحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين، قانونيا، عن جريمة حطمت حياة الملايين، على مدى عقود. وهو يماثل ما نطمح الى تحقيقه لضحايا قذائف اليورانيوم المنضب المستخدمة ضد العراق. اذ استخدمت القوات المسلحة الأمريكية والبريطانية ذخائر اليورانيوم المنضّب في مناطق مأهولة بالسكان، خاصة في جنوب العراق؛ طوال العمليات العسكرية لاحتلال العراق في عام 2003، ما أدى إلى تلوث المنطقة بالمواد المشعة، بالاضافة الى استخدامها في حرب الخليج الاولى، عام 1991، وهي الفترات التي يقدم تفاصيلها بدقة علمية رصينة بحث د. سعاد العزاوي المعنون « تقدير مخاطر استخدام أسلحة اليورانيوم المنضّب في العراق».
سببت القذائف، كما تؤكد عشرات الدراسات والبحوث العلمية ، أضرارا صحية متعددة، ومنها السرطانية والجينية والتشوهات الخَلقية. حيث سجلت ارتفاعا ملحوظا في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة، خاصة في أعقاب الهجمات التي قادتها أمريكا على مدينة الفلوجة، غرب العراق، في عام 2004. وهو الهجوم الذي يوصف بأنه الأكبر الذي خاضته قوات المارينز (البحرية الأمريكية) منذ حرب فيتنام 1968. وقام فيه الجيش الأمريكي بالتعاون مع قوات بريطانية وعراقية، بأمرة إياد علاوي، رئيس الوزراء حينئذ، باستخدام اسلحة اليورانيوم بالاضافة الى الفسفور الابيض.
تختلف حالات ولادة الأطفال المشوهين خلقيا وانتشار الأمراض السرطانية بين النساء والأطفال في المدن التي تعرضت الى اشعاع اليورانيوم المنضب ، عن بقية جرائم الاحتلال من ناحيتين، الاولى انها تشكل جريمة حرب تتنافى مع قوانين الحرب الإنسانية لأنها تستخدم اسلحة يبقى تأثيرها القاتل على المدنيين بعد انتهاء الحرب واسبابها. الثاني، لأنها وبسبب تأثيرها القاتل ببطء على الأطفال والنساء، جميعا بلا استثناء وبمساواة مخيفة، انما تشكل جريمة ابادة لمستقبل العراق كله وتؤثر بدرجة او أخرى على المنطقة كلها بسبب هبوب غبار الموت عليها وتلوث المياه والبيئة بشكل عام.
تكرر الحكومة الأمريكية في العراق ما فعلته في فيتنام، اذ ترفض، الاعتراف بأنها استخدمت مواد مشعة يبقى تأثيرها القاتل على السكان بعد انتهاء الحرب، وتهربا من المسؤولية القانونية وما يترتب على الاقرار بذلك من تبعات تعويض الضحايا المتضررين وتنظيف للأماكن بعد تزويد الجهات المعنية باحداثياتها، تنفي ومعها بريطانيا الاعتراف بتأثير اليوراينوم المنضب. وحتى الآن، ترفض الولايات المتحدة تقديم المعلومات الضرورية، الأمر الذي يعيق تنفيذ عمليات تقييم وإدارة التطهير اللازمتين، بل هناك ما يدل على ممارسة الضغوط على الجهات الرسمية العراقية لغض الطرف عن فتح هذا الملف الذي سيمنحها حق المقاضاة وأن تكون، كما هو مفروض، صوتا للضحايا وممثلة لمواطنيها.
إن رفع الدعوى ضد الشركات المنتجة للمادة السامة التي استخدمها الجيش الأمريكي ضد الشعب الفيتنامي يمنحنا الأمل، مهما كان صغيرا، في تحقيق العدالة، مستقبلا، لضحايا جريمة استخدام الولايات المتحدة الأمريكية قذائف اليورانيوم المنضب ضد الشعب العراقي. وهو أمل تقع مسؤوليته لنقله من مستوى التمني الى التحقيق الفعلي، في غياب العمل الحكومي الرسمي، العمل المكثف المثابر من قبل الناشطين في مجال حقوق الإنسان، والمنظمات الإنسانية المحلية والعالمية، بالتعاون بطبيعة الحال مع العلماء والباحثين.
هيفاء زنكنه