وُلد الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون وهو يحمل سمات البحث العلمي الحر، ومع تزايد استخدامه في المجتمعات الإسلامية تصاعد الجدل مجددا عن دوره في التأثير على القيم والثقافات الإسلامية، وبدا غير مريح بالنسبة إلى حلقات دينية متشددة، نظرا إلى أنه من إنتاج قوى علمانية معادية للمسلمين وفق اعتقادها.
أثبت الذكاء الاصطناعي أنه قادر على حل الكثير من المشاكل التي واجهها العالم في القرن الحادي والعشرين، إلا أن هذه التكنولوجيا بدت غير مريحة بالنسبة إلى حلقات دينية متشددة، نظرا إلى كونها ولدت في وادي السيليكون وينظر إليها على أنها من إنتاج قوى علمانية معادية للمسلمين.
وفي حين لا تزال دول العالم مُنقَسِمة حول ضرورة فَرض قواعد صارمة لتنظيم استخدام أنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أشعل رجال دين متشددون الجدل القديم حول العلاقة بين التكنولوجيا الليبرالية والقيم الإسلامية، وبات واضحا أن هذا التطور التكنولوجي المخترق للحدود والثقافات والكم الهائل من المعلومات يشعر البعض منهم، بأن مكانتهم في المجتمعات الإسلامية مهددة، فباتوا يرغبون في وضع حواجز قانونية ومجازية تمكنهم من الحفاظ على ما يظنون أنهم يتمتعون به من سلطة ونفوذ.
ينقسم رجال الدين بين مؤيد ومعارض لأنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على قيم المسلمين وتعاليمهم الدينية والعقائدية، فمنهم من يحرمها على المسلمين، نظرا إلى كونه يراها مخالفة لشرع الله وتمس جوهر العقيدة الإسلامية وفق التفسيرات الدينية للظواهر الطبيعية وعلاقة الإنسان بالله، وقد تزيد من احتمال الوقوع في الكثير من المحظورات والشكوك، ويغالي بعض المتشددين في اعتبارها نوعا من الشرك في خلق الله، وتأسيسا على ذلك تمت معاملتها أسوة بالمحرمات.
وبرزت في السنوات الأخيرة العديد من الأصوات والفتاوى التي تحذر من خطورة التكنولوجيا الحديثة على المسلمين وتغييرها لسلوكياتهم وعقيدتهم، وتأثرهم بأفكار مستوردة من الغرب تتعارض مع طبيعة القيم الإسلامية، وتهدد مجتمعاتهم بتغيرات خطيرة تصل إلى حد التناقض شبه التام مع منظوماتها القيمية وعاداتها وتقاليدها.
فيما يرى فريق آخر أن وسائل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون مصدرا مهما لموجة هامة من الفرص التنموية والاقتصادية المحتملة في المجتمعات العربية والإسلامية.
ويمثل رأي الداعية السلفي المصري مسعد أنور مثالا على التطرف في النظر إلى صداقة الرجل والمرأة عبر الإنترنت على أنها حرام، معتبرا ذلك “نوعا من أنواع الاختلاط، حتى لو كانت من باب الخير والبر، لأن الشيطان يدعو الإنسان إلى فعل الحرام”.
ولم يكن رأي أنور هو الأول من نوعه، فقد سبق وأن أثار الداعية المصري مصطفى العدوي موجة انتقاد كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أفتى بحرمة استخدام محرّكات البحث والمواقع الإلكترونية، التي تتنبأ بالمفردة المقبلة في العبارة.
وقال العدوي، وفق مقطع فيديو تداوله مستخدمون في مواقع التواصل الاجتماعي إن “ما تقوم به محركات البحث من تنبؤ بالكلمات المقبلة، يعد من سبل الكهنة والدجالين، المحرمة شرعا في الإسلام”.
ودشن رواد فيسبوك وتويتر هاشتاغا بعنوان غوغل مشعوذ متهكمين فيه على الفتاوى التي تساهم في تخلف المجتمع عن ركب الحضارة والتطور التكنولوجي، معتبرين أن هذه الفتاوى تفصل المجتمع عن الواقع، وتساهم في تغذية التطرف.
ويغالي رجال دين متشددون في تفسير وتأويل التطبيقات التكنولوجية خصوصا بعد انتشار الهواتف الذكية. وحرم الداعية السوداني الراحل محمد أحمد حسن، استخدام تطبيقات واتساب أو فایبر وغیرهما من تطبیقات تكنولوجیا الاتصالات الحدیثة لأنها حسب قوله “تقود إلى المعاصي”.
وليس مفاجئا أن تتعرض وسائل التكنولوجيا بمختلف أنواعها، إلى هذه الحملة الدينية العنيفة، بعد أن ساهمت في كبح جماح سلطة رجال الدين المتشددين وتحكمهم في الحريات الشخصية للمسلمين، والحد من نفوذهم التاريخي الحافل بتحريم العديد من المنتجات التكنولوجية والأعمال الفكرية والفنية.
إلا أن الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، يرى أن الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ليست فيهما مضاهاة لخلق الله عزّ وجلّ.
وقال “تصميم شجرة من الصلصال أو رسم زهرة أو عود قمح أو ذرة لا تعد مضاهاة لخلق الله”، مشددا على المضاهاة المحرمة يقصد بها محاولة إيهام الناس بالقدرة على الخلق مثل الله عزّ وجلّ.
وأوضح الجندي، خلال تقديمه برنامج “لعلهم يفقهون”، المذاع عبر قناة “دي.أم.سي”، أن المضاهاة تحتاج إلى فعل ونية من قبل الإنسان، في أن يضاهي قدرة الله عزّ وجلّ في الخلق.
ومن جانبه شدد الدكتور محمد عبدالعزيز، أستاذ الذكاء الاصطناعي بجامعة الأزهر، في برنامج «وطن رقمي»، المذاع على قناة «الحدث اليوم»، أن الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يفتح مجالات جديدة ويوفر فرص عمل للشباب كبيرة جدا، خاصة وأن الذكاء الاصطناعي سيدخل في جميع التطبيقات ومنها صناعة الطائرات وصناعة السيارات، وحتى في صناعة المواد التموينية فهو متواجد وبقوة.
وبينما تدعو العديد من الجهات الفاعلة مثل الشركات ومراكز البحوث وأكاديميات العلوم والدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وجمعيات المجتمع المدني إلى إطار أخلاقي لتطوير الذكاء الاصطناعي، يتزايد الجدل بشأن التطورات المذهلة والمتسارعة للذكاء الاصطناعي، والحاجة إلى إعادة النظر في المعايير الأخلاقية والقانونية.
وأعلن فيسبوك في نهاية العام الماضي عن الفائزين بمبادرة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في آسيا والمحيط الهادئ، وهي منحة قدرها 25 ألف دولار لدعم دمج المعارف التقليدية المتنوعة من جميع أنحاء العالم في دراسة الذكاء الاصطناعي.
ومن بين الذين تم اختيارهم، الدكتور جنيد قادر وأمانة رقيب، وهما أكاديميان باكستانيان كانا يدرسان استخدام المبادئ الأخلاقية والقانونية الإسلامية لتنظيم الذكاء الاصطناعي في البلدان الإسلامية.
وقال قادر، الذي يشغل رئاسة قسم الهندسة الكهربائية في جامعة تكنولوجيا المعلومات في لاهور “يحدد الإسلام تقاليد أخلاقية تعود إلى أكثر من 1400 سنة، وهناك نقص في تمثيل الذكاء الاصطناعي لملياري شخص يعتنقون هذه المعتقدات، لكن عملنا سيسدّ هذه الفجوة”.
ويجمع قادر ورقيب على أن التكنولوجيا الليبرالية تثير أزمة أخلاقية في العالم الإسلامي، وفق الاعتقاد السائد بأن القيم الغربية تسيّر هذه التكنولوجيا التي باتت تسود القيم الإسلامية.
وقالت رقيب، أستاذة الفلسفة والأخلاق في معهد إدارة الأعمال في كراتشي “فُرض الكثير من التقدم الذي حدث خلال القرن الماضي على المسلمين. لكن لا يسأل أحد السؤال الحاسم: لماذا نحتاج إلى هذه التقنيات في المقام الأول؟”.
ومن الأسئلة التي يسعيان إلى الإجابة عنها، ما إذا كان استخدام الذكاء الاصطناعي لإطالة العمر مسموحا به إسلاميا.
أكبر محرك للاستثمار
وتعد الرعاية الصحية الآن أكبر محرك للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، حيث جمعت الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي الطبي أكثر من 4 مليارات دولار في عام 2019.
ويجادل الباحثون المسلمون في هذا المجال، بشأن الأجهزة القابلة للارتداء وقدرتها على التنبؤ بالعلامات الحيوية للشيخوخة قبل الطب التقليدي ما يسمح باتخاذ إجراءات وقائية لوقف العملية.
ومع ذلك، فإن رقيب تشكك في هذا الأمر معتبرة أن “هناك وقتا معينا للموت، ولا يمكنك تأخيره”.
وربما تكون السيارات ذاتية القيادة غير واردة أيضا بالنسبة إلى البعض منهم، فعندما سُئل قادر كيف يمكن لسيارة ذات تفكير إسلامي أن تتفاعل إذا أُجبرت على الاختيار بين صدم أحد المشاة أو الاصطدام وقتل السائق، وهي قضية فكرية شائعة في دوائر الذكاء الاصطناعي، قال إن “هذا هو السؤال الخطأ الذي يجب طرحه”. معبرا عن اعتقاده بأنه يجب تصميم الذكاء الاصطناعي ليكون غير مؤذ ويجب ألا يسبب أي ضرر أولا وقبل كل شيء.
ويُطلق على هذا المعيار الأخلاقي في الإسلام اسم “الفَلاح” الذي يقول الباحثون إنه يختلف بشدة عن نهج الغرب القائم على الربح. مطالبين بالحكم على أي تقنية جديدة وفق هذا المعيار الإسلامي حتى لو تأخّر تطوير بعض الأفكار، أو تم التخلي عنها كليا.
ويعتقد الدكتور محمد أورنغزيب أحمد، وهو أستاذ مشارك في جامعة واشنطن، ويبحث في إمكانية تطبيق الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، أن الاعتماد على أية خوارزمية ينطوي على مقايضات.
وقال أحمد “يعمل كل من الذكاء الاصطناعي والطبيب العادي بموارد محدودة، ستكون للمستشفى ميزانية، وهو ما يعني أنه لا يمكن إنقاذ حياة الجميع للأسف. ويكمن الاختلاف الوحيد في أن الطبيب سيعمل بمعلومات محلية، وربما غير كاملة، لكن الذكاء الاصطناعي يعتمد على مجموعة بيانات ضخمة تسمح بتقييم المخاطر بشكل أفضل”، وبالنسبة إليه، يحوم السؤال حول النتائج التي يجب أن يحققها الذكاء الاصطناعي.
وأضاف “أوافق على أن خوارزمية الفلاح ستزيد من إنقاذ الأرواح على حساب الربح، لكن هذا لا يعني اختفاء قيود الموارد. ويتجدد السؤال الأخلاقي الحقيقي، من ننقذ”؟
وأشار إلى أن هذه القضية قد أثارت مشاعره قائلا “توفي والدي منذ سبع سنوات عندما رفض استخدام جهاز الإنعاش. لكنني لا أعتقد أن منظوره الإسلامي ينطبق على الجميع”.
وعبر أحمد عن اعتقاده بأن موازنة الأضرار تبقى عملية متأصلة في الفكر الإسلامي، حيث سبق وأن طرح الفقيه الإسلامي الغزالي المشكلة منذ القرن الحادي عشر، عندما سأل طلابه عما إذا كان من الممكن تبرير إلقاء بعض الركاب من سفينة غارقة، إذا كان ذلك يعني إنقاذ حياة الأغلبية.
وقال أحمد “لنفترض أن لدينا 100 ألف حالة وفاة على الطرق سنويا بسبب السائقين المتهوّرين. قد نتمكن من خفض ذلك إلى النصف باستخدام الذكاء الاصطناعي، وربما يصبح عدم وجود السيارات من دون سائق أمرا غير أخلاقي”.
وتتزايد شعبية التكنولوجيا المنقذة للأرواح والمنتجات المضادة للشيخوخة والسيارات ذاتية القيادة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكن الكثير من النقاد، وحتى أشد المعارضين للذكاء الاصطناعي، أبرزوا المزايا التي يمكن أن تعود على البشرية من استخدام الذكاء الاصطناعي والأنظمة الآلية.
الاختلافات الدينية والعرقية
وسلطت عدة دراسات وتقارير إعلامية الضوء على المشروعات التي يعالج من خلالها الذكاء الاصطناعي والأنظمة الآلية المتطورة بعض المشكلات الأخطر والأكثر تعقيدا في العالم، بداية من الأوبئة والأمراض والكوارث، وصولا السلوكيات التي تسببها الاختلافات الدينية والعرقية والطائفية.
ويأمل باحثون في جامعة أكسفورد في إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة الحكومات على مواجهة مثل هذه الحوادث والوقوف على أسبابها.
العرب