الخرطوم – أثار قرار البنك المركزي السوداني توحيد سعر صرف العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية لمعالجة اختلالات ظاهرة في اقتصاد البلاد ردود فعل سياسية سلبية، بالتزامن مع تصاعد احتجاجات منددة بتأخر إجراءات العدالة الاجتماعية وتدهور الأحوال المعيشية.
وحاولت الحكومة السودانية تفسير القرار من زاوية انعكاساته الإيجابية على المواطنين مستقبلا، بتوفير السلع التي تشهد شحًّا والتخفيف من ديون السودان وانفتاحه على المؤسسات الدولية المانحة لتوفير العملات الصعبة.
وأقرّ السودان في يناير الماضي ميزانيته الأولى منذ شطب اسمه من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وأوْلى المناطق التي مزقتها الصراعات والتوترات أهميّةً.
وجاء القرار بعد حوالي أسبوعين من تشكيل حكومة جديدة برئاسة عبدالله حمدوك ضمت قيادات في الجبهة الثورية، كممثلة لحركات مسلحة، بعد توقيعها على اتفاق سلام في أكتوبر الماضي، وتم تعيين رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم وزيرا للمالية في الحكومة الجديدة.
وشرح جبريل إبراهيم في مؤتمر صحافي الأحد أهمية الخطوة، مؤكدا أن دخول السودان في برنامج الدول الفقيرة المثقلة بالديون يخفف الضغط الخاص بخدمة الدين، إلى جانب المساعدة في الحصول على قروض تدخل في مشروعات التنمية، وجرى اتخاذ القرار في ظرف إقليمي ودولي مهم لم يكن متيسرا في السابق.
ويهدف تحرير سعر الصرف إلى انسياب السلع وحدوث استقرار في الأسعار وجذب تحويلات العاملين في الخارج وزيادة الاستثمارات.
وقال الخبير الاقتصادي وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي صدقي كبلو إن “قرار تعويم الجنيه جرى اتخاذه منذ منتصف العام الماضي بعد أن اتخذت الحكومة السابقة جملة من الإجراءات التي صبت في صالح العمل وفقًا لسعر الصرف في السوق الموازية”.
وأضاف كبلو في تصريح لـ”العرب” أن “الخطوة لن تؤدي إلى استقرار سعر الصرف وسيظل التأرجح في السوق الرسمية وفقًا لطبيعة العرض والطلب على الجنيه في السوق الموازية”. وأشار إلى أنه كان يفترض أن يتم اتخاذ إجراءات تحصينية قبل الإقدام على اتخاذ هذا القرار المصيري، لكن الحاجة إلى زيادة إيرادات الحكومة والاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي والدول المانحة دفعتا إلى اتخاذ القرار على عجل.
وأقدمت الحكومة السودانية على هذه الخطوة بعد توسيع قاعدة أطراف العملية السياسية فيها، والتي شملت حركات مسلحة، بما يضمن تمرير الإصلاحات في مناطق الهامش والأطراف التي تعاني أوضاعا اجتماعية واقتصادية صعبة.
وتواجه الحركات المسلحة اختبارا صعبا أمام أنصارها في ظل اتهام قياداتها بالبحث عن مناصب سياسية دون النظر إلى الظروف الصعبة في العديد من الولايات التي شهدت أحداث سرقة ونهب وحرق للممتلكات العامة والخاصة خلال الأيام الماضية.
ويعتبر مراقبون وضع خليل إبراهيم -أحد قادة الحركات المسلحة- في مقدمة الجهات المدافعة عن القرار ذا انعكاسات سلبية على تطبيق بنود اتفاق السلام على الأرض في مناطق الهامش التي ينتمي إليها.
ومهدت للقرار قوى سياسية محسوبة على تحالف الحرية والتغيير والجبهة الثورية بتصريحات تقضي بضرورة اتخاذ قرار تعويم سعر الصرف أملا في أن يسهم ذلك في التقليل من أثر الصدمة على المواطنين الذين يعانون أوضاعا صعبة، ووعدهم بتحسن سعر الصرف واستقرار الأمور المصرفية قريبا، غير أن ذلك بات يواجه بمعارضة من قوى أخرى رفضت المشاركة في السلطة الانتقالية بتشكيلتها الجديدة.
ويقود الحزب الشيوعي، إلى جانب تجمع المهنيين السودانيين (السكرتارية الجديدة)، وتنسيقيات لجان المقاومة في ولايات ومدن سودانية عدة حملات مناوئة لتحرير سعر الصرف.
وترى هذه الجهات أن القرار جاء بضغوط خارجية على الحكومة السودانية، ولن يؤدي إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية، وسوف يزيد من متاعب الفقراء.
واستبقت السلطات الأمنية الأحد أي محاولة للتظاهر في الخرطوم، وقامت بإغلاق الطرق المؤدية إلى الشارع الذي يقع فيه مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
وتشهد الخرطوم وعدد من الولايات إجراءات أمنية مشددة تزامنًا مع دعوات إلى التظاهر أطلقتها قوى غير مشاركة في السلطة الانتقالية، وغير مستبعد حدوث تظاهرات مناوئة الأيام المقبلة، لكنها لن تثني الحكومة عن المضي قدما في تنفيذ خطتها الاقتصادية.
وقال المحلل السياسي خالد الفكي إن القوى السياسية منقسمة بين مؤيدين ورافضين، وهناك توقعات بأن تكون للقرار نتائج جيدة على المدى البعيد، لكنه ينعكس سلبًا على الأوضاع الاقتصادية حاليا، ما تسبب في إحجام المواطنين عن عمليات البيع والشراء منذ صدور القرار، وسط مخاوف مشروعة من غلاء المعيشة.
ويصطدم قرار التعويم بتصاعد صوت المعارضة لدى لجان المقاومة التي نظمت احتجاجات شارك فيها الآلاف من المواطنين السبت، حيث صارت على مقربة من القصر الجمهوري في الخرطوم وطالبت بإسقاط السلطة، بشقيها العسكري والمدني. وهي المرة الأولى التي تطالب فيها بذلك، إذ كانت تُنادي فقط بإجراء إصلاحات على الحكم الانتقالي.
ويتوقع متابعون أن يخلق قرار التعويم أزمة جديدة بين المكونيْن المدني والعسكري، مع تأكيد قوى الحرية والتغيير على أن نجاح تلك الخطوة مرهون بسيطرة وزارة المالية على الشركات والمؤسسات الاقتصادية الواقعة تحت هيمنة القوات المسلحة، والتي تشكل أكثر من 90 في المئة من الكتلة النقدية في البلاد.
ويشير مدى قدرة الحكومة على ضبط الأوضاع الأمنية والاقتصادية إلى مدى استكمال الإجراءات الصعبة التي من بينها تحرير سعر الوقود ورفع الدعم عن الكثير من السلع والخدمات العامة، لأن توالي الاحتجاجات في الشارع وعودة التجاذبات وعدم استقرار الأوضاع السياسية ربما يؤدي إلى انفجار شعبي جديد.
وتخشى دوائر محسوبة على قوى الثورة أن يكون قرار التعويم وتبعاته الاقتصادية فرصة لفلول نظام الرئيس السابق عمر البشير للظهور في الشارع، وقد يجدون البيئة ممهدة للخروج في مظاهرات رافضة لسياسات الحكومة التي اتخذت بحقهم إجراءات قاسية الأيام الماضية، أبرزها إلقاء القبض على نحو 200 قياديّ من قيادات وكوادر حزب المؤتمر الوطني (المنحل) الذي حكم خلال عهد البشير.
العرب