السعودية وإيران في ميزان بايدن

السعودية وإيران في ميزان بايدن

 

 

ينسب للزعيم السوفييتي الراحل جوزيف ستالين مقولة شهيرة ملخصها أن موت شخص واحد مأساة، لكن موت مليون نسمة هو مجرد بند إحصائي. وبالرغم من مرور ما يقارب القرن من الزمن على هذه الكلمات، لكنها ما زالت تثبت صحتها على أرض الواقع خصوصا ضمن إطار السياسات الدولية تجاه أزمات الشرق الأوسط.

أحد أبرز إسقاطات هذه المقولة اليوم يتجلى في مقارنة سياسة حكومة الرئيس جو بايدن تجاه المملكة العربية السعودية مع سياستها تجاه إيران. فمنذ انطلاق حملته الانتخابية كان موقف بايدن السلبي تجاه السعودية واضحا، ثم أتت تعيينات إدارته، وعلى رأسها تعيين دانيل بنعيم نائبا لمعاون وزير الخارجية الأميركي لشؤون شبه الجزيرة العربية، لتؤكد ذلك الموقف المتشدد. فلدى بنعيم توجه صريح ومعلن نحو ضرورة العمل على فرض تغيير ملموس على سياسة المملكة خصوصا في ما يتعلق بملف حقوق الإنسان واستخدام الأساليب الرادعة بما فيها العقوبات لفرض هذا التغيير.

لا يخفى هنا أن هذا الامتعاض الذي تشهره إدارة بايدن نحو السعودية له أسبابه. فالعلاقة الوطيدة التي جمعت الرئيس السابق دونالد ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كانت تشعر الدولة الأميركية العميقة بعدم ارتياح في أفضل الأحوال، لكن مقتل الصحافي جمال خاشقجي داخل مبنى دبلوماسي سعودي في تركيا وتغاضي ترامب الواضح عن ذلك الحدث الجلل أثارا غضبا حادا خصوصا بين صفوف الديمقراطيين لم يخمد مع ذهاب ترامب من السلطة.

لكن، وفي ذات الوقت التي تصعّد فيه واشنطن لهجتها ضد الرياض وتمارس ضغوطا غير مسبوقة على حليفها التاريخي والاستراتيجي، نرى تعاملا فائض الليونة مع إيران التي لا تنشط فقط في تهديد المصالح الأميركية وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، لكنها أيضا مسؤولة بشكل لا يقبل الشك عن سجن وتعذيب وقتل عدد لا يحصى من المدنيين في إيران والعديد من الدول العربية بينهم ناشطون ومعارضون وصحافيون. ولم تجفّ بعد دماء الكاتب والناشط اللبناني لقمان سليم بعد أن اخترقت جسده خمس رصاصات أطلقت بلا شك من مسدس وكاتم صوت دفعت ثمنهما إيران بيد قاتل مأجور تدفع طهران مستحقاته أيضا، وجريمة قتله تضاف إلى الكثير من الجرائم المشابهة في إيران والعراق وسوريا واليمن ولبنان.

ووجب التنويه هنا إلى أن هذه المقاربة لا تهدف للدفاع عن جريمة قتل خاشقجي أو ردود فعل إدارة ترامب الضعيفة تجاهها، فالاعتداء الجسدي على أي صحافي أو ناشط ردا على قلمه هو جريمة موصوفة لا يمكن التغاضي عنها، لكن التغاضي عن عقود من جرائم النظام الإيراني المحلية والدولية تجاه المدنيين والعزل بهدف الوصول إلى انفراج في الملف النووي وبحجة سياسة الواقع هو أيضا خطأ فادح ترتكبه اليوم إدارة بايدن التي ترفع شعارات العدل ودور أميركا المميز في الدفاع عن حق المظلوم. وعندما يردّد الديمقراطيون مرارا أن موقف الولايات المتحدة من مقتل خاشقجي لا يمكن التعامل معه من منظور عقود التسليح والعلاقات التجارية الثنائية بين أميركا والسعودية، وجب التذكير أيضا أن الولايات المتحدة دولة عظمى يسيء لمكانتها النظر إلى تحدياتها مع دولة مارقة كإيران من زاوية سياسة الواقع.

ويبرّر اليوم بعض المسؤولين عن الملف الإيراني في الحكومة الأميركية موقفهم بأن اتفاقا نوويا جديدا قد يؤدي إلى تغير جذري في تصرفات طهران تفرضه مكتسباتها الاقتصادية والسياسية والعلاقات المباشرة التي ستجمع إيران مع الغرب بعد توقيع الاتفاق. لكن، وإن استخدمنا اتفاق عام 2015 مقياسا، نرى أن هذا التوجه قد أثبت فشلا ملموسا ومن غير المنطقي إطلاقا تجربته مجددا.

وفي الوقت ذاته من المرتقب في الأيام القادمة نشر نسخة غير سرية من ملف الاستخبارات الأميركية حول مقتل خاشقجي علناً حسب وعود مديرة مكتب الاستخبارات القومي أفريل هينز خلال جلسة تأكيد تعيينها في الكونغرس الشهر الماضي. وعملية رفع السرية عن ملف استخباراتي حديث العهد، والتي تعد خطوة نادرة الحدوث في واشنطن، ستؤدي بلا شك إلى تعميق الخلاف بين واشنطن والرياض.

طبعا من حق الولايات المتحدة اتخاذ موقف متشدد من السعودية تجاه مأساة مقتل خاشقجي ومن غير النادر حصول أزمات بين الحلفاء مهما كانت علاقتهم وطيدة، لكن تحويل جرائم إيران إلى بنود إحصائية، وللمرة الثانية، سعيا وراء اتفاق نووي جديد، لا يليق بدولة القانون والحريات.

العرب