وجود المسيحيين في العراق المستمر منذ أكثر من ألفي عام أصبح خلال أقل من ثلاثة عقود من الزمن على وشك الانتهاء بسبب ما حفّ بالبلد من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية حوّلته إلى كيان طارد لمواطنيه، لاسيما من أبناء الأقلّيات وخصوصا منها المختلفة عقائديا ودينيا، والتي بات من الصعب عليها التعايش مع مناخ ملغوم بالتشدّد الديني والطائفي الذي أنتج موجات عنف متلاحقة كانت من الأسباب المباشرة التي دفعت بمسيحيي العراق إلى مغادرة البلاد بحثا عن الأمان خارجها.
بغداد – مع طول فترة عدم الاستقرار في العراق وتراجع دولته على مختلف المستويات، يتواصل النزيف في عدد مسيحييه واضعا وجود هذا المكوّن الأصلي من مكوّنات المجتمع العراقي أمام خطر التلاشي والانطفاء.
وإلى جانب موجات العنف المتلاحقة التي شهدها العراق منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق صدّام حسين إثر الغزو الأميركي للبلد، والتي طال بعضها المسيحيين بشكل مباشر، وآخرها ما حدث إثر سيطرة تنظيم داعش على ما يقارب ثلث مساحة البلاد، ظلّ المكوّن المسيحي يواجه مثل سائر العراقيين المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الآخذة في التفاقم والازدياد محوّلة العراق إلى بلد طارد لمواطنيه وخصوصا الشباب منهم والحالم أغلبهم بالهجرة بحثا عن تأمين مستقبل أفضل، وهو أمر ينطبق بدرجة أكبر على مجتمع الأقلّيات العراقية الأكثر هشاشة من باقي المكوّنات والتي لا تسعى من خلال هجرتها إلى الخارج وراء لقمة العيش فقط، ولكنّها تَنْشُدُ أيضا الأمان المفقود في بلدها الأصلي.
نزيف متواصل
غادر بعض مسيحيي العراق خلال الاجتياح الأميركي للبلاد، وغادر آخرون خلال الحروب الطائفية التي احتلّ خلالها المتطرّفون قراهم، والآن يواصل من تبقّى المغادرة بسبب الأزمة الاقتصادية وضغوط الوضع المعيشي الصعب.
وتعيش عائلات مسيحية عراقية كثيرة في كردستان العراق وفي الأردن وأستراليا وغيرها من مناطق العالم وبلدانه، حنينا إلى وطن ترفض في الوقت ذاته فكرة العودة إليه، ولذلك تظلّ فكرة إعادة ترميم الوجود المسيحي في العراق غير واردة، فضلا عن أن جهود الحفاظ على من بقي من هذا المكوّن داخل البلاد غير مطروحة ضمن البرامج والمخطّطات الحكومية.
ويعلّق كل هؤلاء في الداخل والخارج آمالا بأن يحمل لهم البابا فرنسيس الذي سيزور العراق في مطلع مارس القادم كلمات معزية ومطمئنة، ولو أنهم لا يتعلّقون بالأوهام في ضوء الأزمات الأمنية والاقتصادية المتلاحقة والتوترات السياسية التي تعيشها البلاد.
يقول سعد هرمز البالغ من العمر اثنين وخمسين عاما وكان يعمل في السابق سائق تاكسي في الموصل وهو يعيش اليوم في الأردن، “آمل أن يطلب البابا خلال زيارته للعراق من الدول التي تستقبل لاجئين مسيحيين مساعدتنا لأن العودة إلى العراق الآن غير واردة”.
وبالرغم من غياب إحصاءات دقيقة عن عدد المسيحيين في العراق بسبب عدم إجراء تعداد سكاني منذ سنوات، يقول وليم وردة رئيس منظمة حمورابي التي تتولى الدفاع عن الأقليات في العراق إن هناك حاليا ما بين 300 ألف و400 ألف مسيحي في العراق في مقابل مليون ونصف المليون قبل الغزو الأميركي عام 2003 الذي انتهى بالإطاحة بنظام صدام حسين.
Thumbnail
ويأتي ذلك بعدما غادر ما يقرب عن نصف مليون منهم إلى الولايات المتحدة وتوجه آخرون إلى الدول الأسكندينافية وأستراليا.
وفي 2007 قُتِل عمُّ وعمّةُ طبيبة الأسنان رنا سعيد برصاص عشوائي أطلقه جنود أميركيون ردا على هجوم تعرضوا له ليلة رأس السنة في مدينة الموصل شمالي العراق، لكن هذه الطبيبة وزوجها الطبيب البيطري عمار الكاس أصرّا في حينه على البقاء في مدينتهما. غير أنّ عدم وجود محاسبة أو تطبيق أي عدالة في القضية دفعهما في 2008 إلى اتخاذ قرار الرحيل فانتقلا إلى كردستان. وكان فرارهما أيضا جرّاء التوتر الطائفي وسلسلة اغتيالات نفذتها مجموعات مسلحة قد استهدف عددٌ كبيرٌ منها مسيحيين، وفق ما ذكر الكاس.
وفي 2013 سافر الزوجان اللذان ينتميان إلى طائفة السريان الأرثوذكس إلى أستراليا حيث نشأت بناتهن الثلاث سارة وليزا وروز في مدينة غولد كوست. وأصرّ الوالدان على تعليم بناتهما اللغتين العربية والسريانية إلى جانب الإنجليزية.
وفي الطرف الآخر من العالم، لم ينقطع الزوجان عن متابعة ما يدور في العراق خصوصا بعد اقتحام تنظيم الدولة الإسلامية لبلدتهما الصغيرة في صيف العام 2014.
وتستذكر رنا تلك الأيام قائلة لوكالة فرانس برس “كنتُ حاملا بابنتي ليزا وكان عمار لا يريدني أن أسمع الأخبار لأنها تسبّب قلقا يؤذي الجنين، وكان يبعد هاتفي وأجهزة الكمبيوتر عني”. وتضيف “كوابيس مرعبة كانت تلاحقني بأن الدواعش يقتلون أهلي ويغتصبونهم”.
ويقول عمار إنه صُدم آنذاك بخبر تدمير كنيسة القدّيسة مريم في الموصل التي عمرها 1200 عام. ويضيف بحسرة “دُمِّرت بالكامل الكنيسة التي تزوج فيها والدي”.
وعاش سعد هرمز من جهته تلك الأيام بتفاصيلها وكان شاهدا على وصول الشاحنات التي نقلت رايات تنظيم الدولة الإسلامية السوداء إلى بلدته. ففي السادس من أغسطس 2014 دخل عناصر التنظيم إلى برطلة البلدة متعددة الأعراق الواقعة على أطراف مدينة الموصل.
يقول سعد “في البداية هربنا الى القوش” وهي بلدة ذات غالبية مسيحية تقع في الشمال “ثم إلى أربيل” مركز إقليم كردستان العراق. وهناك عاش مع زوجته أفنان وأولاده الأربعة وأكبرهم فادي البالغ تسعة عشر عاما من العمر وأصغرهم ناتالي ذات السبع سنوات، في كنيسة قبل أن يستأجر شقة في مقابل 150 دولارا شهريا على مدى ثلاث سنوات، الأمر الذي كلفه الجزء الأكبر مما كان يملك.
وأملت العائلة خيرا في العودة إلى حياتها السابقة عندما أعلنت القوات العراقية في أكتوبر 2017 تحرير برطلة من قبضة داعش.
لكن عائلة هرمز اكتشفت أن الأوضاع تغيّرت تماما. فمنزلها احترق بعدما سرقت محتوياته ولم يعد إصلاح ما تضرّر مجديا، لأن المنطقة أصبحت تحت سيطرة قوات الحشد الشعبي التي تتكوّن في غالبيتها العظمى من فصائل شيعية موالية لإيران.
ويستذكر هرمز قائلا “عشنا الخوف من حواجز التفتيش والميليشيات المنتشرة في كل مكان”. ويتابع “لذا بعت كل ما أملك حتى سيارتي وسافرنا إلى الأردن”.
وتعيش العائلة منذ فبراير 2018 في شقة من غرفتين في عمّان على أمل إعادة توطينها في كندا حيث بعض أقاربها. لكن ملف الهجرة عالق بالنسبة إلى العائلة بسبب تفشي وباء كورونا وتدفق اللاجئين من العراق وسوريا الى دول أوروبية وإلى القارة الأميركية وغيرها.
وبسبب تسجيل هرمز نفسه كلاجئ في الأردن لا يحقّ له العمل وهو يعتمد على التبرعات التي تقدّم في كنائس عمّان لإطعام أسرته.
ويقول الأسقف الكلداني سعد سيروب حنا البالغ من العمر أربعين عاما والذي عيّنته الكنيسة الكلدانية في السويد منذ 2017، إن الكثير من العراقيين بين أبناء رعيّته في السويد لا يريدون العودة إلى العراق.
وُلد حنا في بغداد وأرسل إلى السويد للاهتمام بأكبر تجمع كلداني في أوروبا قوامه نحو 25 ألف شخص وصلوا إلى البلاد في موجات على مدى العقود الأربعة الماضية.
وعاش فترات عنف كثيرة في العراق فرّ خلالها كثيرون وهو يصفها بـ”الفوضى العظيمة”. وتعرّض للخطف في العام 2006 بعدما ترأس قداسا في العاصمة العراقية.
ويقول حنا “احتُجزت وتعرضت لأمور عديدة بينها التعذيب والعزلة”. ويضيف “هذه التجربة أعطتني القوة أيضا. لقد ولدت من جديد، أنظر إلى الحياة بطريقة مختلفة بنعمة عظيمة وحب كبير”.
مجتمع غير متجدّد
يقيم أكثر من 140 ألف عراقي في السويد من بينهم رغيد بنّا وهو من الموصل واستقر في بلدة سودرتالي في العام 2007، وكان في السادسة والعشرين من العمر. ويقول بنّا وهو اليوم أب لطفلين “ثمة الكثير من الكلدان هنا إلى درجة أنني لا أشعر بالغربة”.
ويقول وردة إن العائلات الشابة تهرب من العراق وتترك غالبا وراءها الوالدين من الجهتين الأكبر سنا. ويوضح “كانت الأسرة المسيحية تتكون إجمالا من خمسة أفراد. والآن انخفض العدد إلى ثلاثة”.
وفي بغداد تقلص عدد المسيحيين من 750 ألفا في 2003 بنسبة 90 في المئة. ويقول الإيكونوموس يونان ألفريد الوكيل العام للروم الأرثوذكس في العراق إنه مع انخفاض عدد المصلين “أغلقت ما بين 20 و30 في المئة من كنائس العراق”.
وبعد ما يقرب من عقدين من إراقة الدماء والتفجيرات دخل العراق فترة من الهدوء النسبي في أعقاب هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في أواخر العام 2017. لكن هذا لم يوقف نزيف الأقليات.
طرد داعش من مناطق تواجد المسيحيين في العراق لم ينه معاناتهم إذ سرعان ما واجهوا عنف الميليشيات واعتداءاتها
ويقول الكاهن الذي بقي في العاصمة فيما هاجر شقيقه إلى كندا وشقيقته إلى الولايات المتحدة “الناس يستمرون في المغادرة. المسيحيون يحاولون فقط ادّخار ما يكفي من المال، وبعد ذلك بأسرع ما يمكن يهاجرون”.
واختارت سالي فوزي، الكلدانية من بغداد، العيش في الولايات المتحدة حيث منحت اللجوء في العام 2008، بعد عام من حدوث مأساة في عائلتها.
وتقول فوزي ابنة الثمانية وثلاثين عاما والتي تعيش في تكساس إن عمتين لها في الثمانينات، قتلتا طعنا داخل منزلهما “كونهما مسيحيتين لا أكثر” وكانتا تعيشان في محافظة كركوك متعددة الإثنيات والطوائف والواقعة شمالي العاصمة بغداد.
وتضيف سالي التي تمكنت أخيرا بعد أربع سنوات من وصولها إلى الولايات المتحدة من إحضار والديها وإخوتها إلى هيوستن لتنقذهم من المصير المحتوم للمسيحيين في العراق “أنا في الرابعة والعشرين فقط، وقد نجوت بالفعل من ثلاث حروب”.
وتتابع “اليوم لدي بيت ووظيفة وعائلتي قريبة مني”، لكنها تضيف بأسى “ما زلت أشتاق لأصدقائي وبيتي في بغداد”.
تساهم الظروف الاقتصادية الصعبة اليوم في استمرار هجرة المسيحيين. وازدادت الأزمة بسبب جائحة كورونا وقد نتجت أصلا عن انهيار أسعار النفط وهبوط أسعار العملة المحلية في مقابل الدولار وتفشي الفساد في الدولة.
وأدى ذلك إلى تأخير أو خفض رواتب موظفي القطاع العام في العراق وفي إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي والذي يعيش فيه الكثير من المسيحيين.
ويقول هفال إيمانويل وهو موظف حكومي كلداني في كردستان “أتقاضى راتبا مرّة واحدة كل شهرين، وأحيانا لا أتقاضى الراتب بالكامل”، مضيفا “بمجرد أن أحصل على مستحقاتي عليّ سداد ديون الأسابيع السابقة، لذلك لا يبقى لدي شيء”.
ونشأ إيمانويل في مدينة البصرة بأقصى جنوب العراق ثم تزوج وعاش في بغداد حتى العام 2004 عندما انفجرت قنبلة خارج المدرسة التي كان أطفاله يرتادونها. وكبرت إحدى بناته وهاجرت إلى النرويج مع زوجها وانتقل أخوه وأخته مع عائلتيهما إلى لبنان.
وتقدّم إيمانويل مع زوجته وأطفالهما الثلاثة الآخرين بطلب إعادة توطين في كندا، وهم حاليا ينتظرون الجواب. ويقول متحدّثا من منزله بالقرب من أبرشية الكلدان في إربيل “نحن نختنق لا توجد رعاية اجتماعية ولا خدمات صحية ولا مدارس عامة ولا عمل”. وهو يشعر بالحزن لدى الحديث عن شوارع مدينة البصرة الغنية بالموارد والتي باتت تفتقر اليوم إلى الخدمات العامة.
ويعبّر عن انزعاجه من رؤية ملصقات تحمل صور مرشد الثورة الإيرانية آية الله الخميني في الشوارع، قائلا “هذه أماكن عامة وأنا أشعر كمسيحي بأنه ليس لي مكان في البلد”.
ومثل أغلب من بقي من مسيحيي العراق يرنو إيمانويل إلى مغادرة البلاد، ويؤكّد أنّه “إذا أتيحت الهجرة أنا أضمن أنه بحلول الغد لن يبقى أي مسيحي.. على الأقل في الخارج سنشعر أخيرا بالاحترام كبشر”.
فهل هناك ما يمكن لبابا الفاتيكان فعله لتغيير أوضاع مسيحيي العراق.. يقول إيمانويل الذي ستغني ابنته في الجوقة المرحبة بالبابا في أربيل “البابا مثل ملاك ينزل على العراق لكن كم من الشياطين سيجد هنا. رجل سلام يزور مجموعة من أمراء الحرب. كيف يمكنه تغييرهم”.
العرب