يكتسب مفهوم الجوار عند الحديث عن العلاقات الدولية، أبعاداً أكثر تعقيداً، خاصة أن أول ما يتبادر إلى الذهن فيما يرتبط بعلاقات الدول المتجاورة مع بعضها البعض، أنه يسودها جو من الانسجام والاعتماد المتبادل، إلا أن هذا الأمر لا يعكس الواقع دائماً في ضوء المشكلات التي تقع بين الخصوم في إقليم معين، والتي ينتج عنها العديد من الصراعات.
وقد تأسس الاتحاد الأوروبي ذاته كنتاج الحروب والصراعات الكارثية بين دوله؛ ومن ثم برزت الحاجة إلى ضرورة بناء نوع من التعاون بين دول أوروبا لتجاوز تلك الأزمات. وبمرور الوقت تطورت العلاقات بين هذه الدول، وأصبح الاتحاد الأوروبي نموذجاً يُحتذى به فيما يتعلق بسياسة الجوار التي يتبعها، ولذا أصبح التساؤل المُثار الآن: هل يجب على سياسة الجوار الأوروبية أن تتوقف عند حدود الدول الحالية المجاورة للاتحاد؟ أم تتجاوز ذلك حتى تصل لجيران تلك الدول المجاورة؟!
في هذا الإطار، أصدرت مؤسسة “Ashgate” كتاباً يحمل عنوان: “جيران الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي: الأبعاد الدبلوماسية والجيوسياسية وراء سياسة الجوار الأوروبية”، لعدد من المؤلفين، حيث يركز من خلال فصوله الثلاثة عشر، على توضيح ماهية التحديات الاستراتيجية التي تواجه الاتحاد الأوروبي في التعامل مع جيران الدول المجاورة، ومدى أهمية وفعالية اتباع استراتيجية شاملة تضم تلك الدول المجاورة، وأبعادها الجيوسياسية والدبلوماسية، وتأثيرها على حدود دور الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل.
التحديات الاستراتيجية أمام الاتحاد الأوروبي
يشير الكتاب إلى أن مفهوم “جيران الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي” تم تقديمه للمرة الأولى في عام 2006 عن طريق المفوضية الأوروبية في إطار الحديث عن تقوية سياسة الجوار الأوروبية، والتي أكدت على ضرورة العمل مع جيران دول الجوار الأوروبي.
ومنذ إطلاق هذا المشروع في عام 2012، تطورت المواقف بشكل درامي؛ إذ أصبحت الأقاليم أكثر سخونة نتيجة للحروب والصراعات المختلفة، ناهيك عن كون بعضها مترابط مع الآخر، وكلها تدور في الدول المجاورة لدول الاتحاد، بما يؤدي في النهاية إلى زعزعة الأمن والاستقرار في الاتحاد الأوروبي.
ولكي تتضح طبيعة التحديات الاستراتيجية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي في علاقاته مع دول الجوار أو جوار الجوار، تجدر الإشارة ابتداءً إلى من هم هؤلاء الجوار وكذلك جيرانهم.
وفي هذا الصدد، يمكن تصنيف دول الجوار الأوروبي إلى فئتين:
الفئة الأولى: تضم الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي، والتي تدخل ضمن سياسة الجوار الأوروبية؛ والتي تعد شركاء للاتحاد الأوروبي، بحيث تستفيد من اتفاقيات الشراكة والتعاون المشترك مع الاتحاد، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات:ـ
1 ـ دول جنوب وشرق المتوسط: تضم المغرب وتونس ومصر وفلسطين وإسرائيل والأردن.
2 ـ دول جنوب القوقاز: تشمل أرمينيا وجورجيا وأذربيجان.
3 ـ دول شرق أوروبا: وتضم مولدوفا وأوكرانيا.
وعلى الرغم من أن بعض تلك الدول (وهي أرمينيا وأذربيجان والأردن) ليست دول جوار مباشر من الناحية الجغرافية للاتحاد الأوروبي، فإنها تدخل ضمن سياسة الجوار، وهو ما يعني أن الاتحاد اعتمد على اقتراب جيوسياسي أكثر منه جغرافي في تصميم تلك الاستراتيجية. غير أن ثمة بعض الدول كان يجب أن يتم تضمينها داخل سياسة الجوار الأوروبية لكنها لم تدخل حتى الآن؛ وهي (الجزائر، وبيلاروسيا، وليبيا، وسوريا)، حيث لاتزال تجري المفاوضات حول إدماج هذه الدول في تلك الاستراتيجية من عدمه.
الفئة الثانية: تضم جيران الاتحاد الأوروبي غير المتضمَنين داخل سياسة الجوار الأوروبي؛ وهما روسيا وتركيا، والتي يرى الكتاب أنهما يستحقان اهتماماً خاصاً من جانب الاتحاد الأوروبي، نظراً لأهميتهما الجيوسياسية.
وقد رفضت روسيا أن يتم تضمينها بشكل كامل في سياسة الجوار الأوروبية، لكنهما ضُمَّنت في قائمة الدول المستفيدة من علاقات الشراكة والتعاون مع الاتحاد، ومن ثم أصبحت الشراكة الاستراتيجية الأوروبية ـ الروسية تشكل طبيعة العلاقات بين كل منهما، بيد أن موسكو لم تدخل في سياسة الجوار الأوروبية الجديدة.
أما تركيا فتعد قوة إقليمية ذات ثقل، كما أن لديها طموحات كبرى، لكنها لم تدخل حتى الآن ضمن سياسة الجوار الأوروبية، وإن كانت مدرجة في عملية التفاوض.
وفي عام 2006 أكدت المفوضية الأوروبية على ضرورة تنمية العلاقات الثنائية بين دول الاتحاد وبين كل من روسيا وتركيا تحديداً بشكل رسمي. ومن ثم يبدو واضحاً أن الاعتبارات السياسية والجيوسياسية كانت هي الحاسمة في سياسة الجوار الأوروبية، وفي طبيعة تحديد ماهية دول الجوار.
اتساع نطاق سياسة الجوار الأوروبي
يشير الكتاب إلى أن مفهوم جيران الاتحاد الأوروبي يمكن أن يتسع ويمتد ليشمل دولاً لا تشترك بالضرورة مع أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي في حدود برية أو بحرية، لكنها تنتمي للإطار الجيوسياسي لسياسة الجوار الأوروبية. وهنا يمكن الأخذ في الاعتبار ثلاثة أقاليم أساسية، وهي أفريقيا والخليج العربي وآسيا الوسطى، من أجل التعرف على دول جوار الجوار الأوروبي.
وفي هذا السياق يمكن ابتاع اقترابين؛ الاقتراب الجغرافي، والاقتراب الجيوسياسي، وذلك كالتالي:
أولاً- المنظور الجغرافي؛ يضم في أفريقيا: (موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، والسودان)، وفي الشرق الأوسط يضم: (العراق، إيران، والمملكة العربية السعودية)، أما في آسيا الوسطى فيضم: (كازاخستان وتركمانستان). وتجدر ملاحظة أن كل الدول الآسيوية المجاورة لروسيا هي من حيث المبدأ دول جوار الجوار للاتحاد الأوروبي وتضم (الصين، اليابان، ومنغوليا)، لكن من الواضح أنها تنتمي إلى إطار جيوسياسي شرق آسيوي آخر.
ثانياً- المنظور الجيوسياسي؛ والذي يعمد إلى توسيع قاعدة الجوار الأوروبي، بحيث يضم ثلاثة أقاليم كبرى، وذلك على النحو التالي:
1- أفريقيا: والتي تعد إقليماً أساسياً من ناحية التعاون مع الاتحاد الأوروبي نتيجة لعلاقات الشراكة الاستراتيجية التي تربطهما خصوصاً مع الاتحاد الأفريقي، فضلاً عن أن الاتحاد الأوروبي قد أسس إطارين إضافيين للتعاون فيما بينهما، وهما سياسة الجوار الأوروبي مع دول شمال أفريقيا، والأخرى باسم “إطار كوتونو” مع بقية الدول الأفريقية، بالإضافة إلى أنه يمكن إدماج أقاليم فرعية كما يراها القائمون على الكتاب، وهما إقليما الساحل والقرن الأفريقي.
2- إقليم الشرق الأوسط: يضم داخله دول شبه الجزيرة العربية، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي واليمن، إلى جانب العراق وإيران. ففي علاقات الاتحاد الأوروبي مع الخليج العربي، نجد أن اتفاقية التجارة الحرة بينهما قد استمرت لفترة طويلة على أجندة العلاقات الأوروبية ـ الخليجية، لكن رغم تأسيس شراكة استراتيجية في يونيو 2004 مع دول المتوسط والشرق الأوسط، لم يتم تحقيق الكثير في العلاقات الأوروبية ـ العربية حتى السنوات الأخيرة، والتي تم فيها إعادة تفعيل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية.
ويؤكد الكتاب أنه يمكن تقليل حالة التماسك المفقودة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية والناتجة عن قصور النظرة الأوروبية لأعضاء الجامعة العربية والتطورات التي تحدث في دولها، عن طريق تطوير علاقات ديناميكية عربية أوروبية جديدة تضم الـ28 دولة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والـ22 دولة الأعضاء في الجامعة العربية، في إطار تعاوني مشترك.
من ناحية أخرى، يمكن العمل على إعادة تفعيل وتقوية العلاقات مع دول مثل العراق واليمن، واللذين يرتبطان مع الاتحاد الأوروبي أيضاً بعلاقات ثنائية. كما تجدر الإشارة إلى ضرورة إعطاء مزيد من الاهتمام بالدول غير العربية في منطقة الشرق الأوسط، وهي إيران وإسرائيل وتركيا عند تأسيس أية استراتيجية إقليمية، نظراً لأدوارها المحورية في معادلات المنطقة المختلفة وفي المتغيرات التي تلحق بها.
3- إقليم آسيا الوسطى: يضم كازاخستان وتركمانستان، وأيضاً منطقة بحر قزوين، إلى جانب كل من قرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان. وتعد “استراتيجية الشراكة الجديدة” بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، والتي تم تبنيها في يونيو 2007 هي إطار التعاون الأساسي بينهما.
كذلك يمكن القول إن قرار الاتحاد الأوروبي في 2004 بضم دول جنوب القوقاز إلى سياسة الجوار الأوروبية قد ساهم في تغيير تطاق تلك السياسة، حيث مكَّن الاتحاد الأوروبي من الترابط مع البحار الثلاثة: (البحر المتوسط، والبحر الأسود، وبحر قزوين). ويُضاف إلى ذلك انضمام رومانيا وبلغاريا للاتحاد الأوروبي في عام 2007 والذي جعل الاتحاد الأوروبي يصل إلى حدود البحر الأسود، فضلاً عن أنه دعَّم نفوذه أمام ظهور الاتحاد الاقتصادي الأورواسي.
من ناحية أخرى تبرز، طبقاً لهذا المنظور الجيوسياسي، بعض المصالح الاستراتيجية المتعلقة بالطاقة؛ حيث تمت دعوة دول آسيا الوسطى في عام 2010 إلى “المشاركة في البرامج الإقليمية تحت مظلة سياسة الجوار الأوروبية بالتركيز على أولوية قضايا الطاقة والنقل والتعليم والبيئة والمياه”. ويشير بعض المحللين إلى دولتي أفغانستان وباكستان، واللذين لا يمكن فصلهما تماماً عن معادلات أقاليم الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى.
“دائرة من الأصدقاء” أم “قوس للأزمات”؟
يشير الكتاب إلى أن ثمة أحداثاً أثرت على سياسة الجوار الأوروبية وأعاقت فكرة توسيع نطاقها ليشمل دول جوار الجوار الأوروبي؛ ومن أبرز تلك الأحداث كان قرار التدخل العسكري الروسي في عام 2008 في جورجيا، وبعدها إعلان شبه جزيرة القرم مستقلة عن أوكرانيا بعد الاستفتاء الأخير، حيث ساهمت تلك الأحداث في تغيير خريطة أوروبا ومثلت اختبارات حقيقة لفعالية الاتحاد الأوروبي داخل القارة وحدود تأثيره ونفوذه.
من ناحية أخرى، ساهم عدم فعالية المبادرات التي قدمها الاتحاد الأوروبي في بعض الأقاليم الفرعية مثل مبادرات الشراكة مع شرق المتوسط في التأثير على صورة سياسة الجوار الأوروبية بشكل عام، ومن ثم تتبدى الحاجة إلى تبني استراتيجيات أقوى وإعادة التفكير في الأخطاء التي تم الوقوع فيها سابقاً.
ومن ثم، فإن تبني استراتيجية للاتحاد الأوروبي تتجاوز فكرة الجوار المباشر لدول الاتحاد وتتعامل مع جيران تلك الدول، بحيث يتم توسيع نطاقها، من شأنها أن تؤدي إلى تحقيق مصالح دبلوماسية وجيوسياسية ويوسع من دور ونفوذ الاتحاد الأوروبي في العالم، كما يزيد في الوقت ذاته من قدراته العسكرية والاقتصادية.
وقد اقترح الكتاب – في جزءه الختامي – في ضوء الاستجابة للتحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي في العديد من الأقاليم، أن يتبنى الاتحاد استراتيجية أكثر واقعية في التعاطي مع دول جوار الجوار الأوروبي، لأن الحاجة أصبحت مُلحة لتحقيق هذا الأمر، ولتوسيع نطاق سياسة الجوار الأوروبية بشكل نظامي ومتسق مع طبيعة التحديات المطروحة، بحيث يمكن على المدى البعيد تحويل “قوس الأزمات” التي يمر بها العالم إلى “دائرة من الأصدقاء” يمكن تحقيق الاستفادة المشتركة فيما بينها.
ومن شأن تلك الاستراتيجية المُقترحة أن تساهم في تعزيز الاستقرار والأمن والرخاء لدول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى دول الجوار، لكنها كي تنجح لابد أن تكون استباقية للتطورات التي تحدث بالعالم وبالأقاليم التي يتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وأن تتجاوز فكرة “أوربة” العالم، بل يجب أن تقوم على احترام وتدعيم القيم العالمية لا الأوروبية الطابع فقط، وعلى احترام القانون، وهو ما سينمي ما يمكن تسميته “روح الشراكة” بين جميع الدول ويساهم في نجاح استراتيجية التوسع الأوروبي.
إعداد: باسم راشد
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة
* عرض مُوجز لكتاب: “جيران الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي: الأبعاد الدبلوماسية والجيوسياسية وراء سياسة الجوار الأوروبية”، والصادر في فبراير 2015 عن مؤسسة Ashgate.
المصدر:
Sieglinde Gstöh and Erwan Lannon (Editors), “The Neighbours of the European Union’s Neighbours: Diplomatic and Geopolitical Dimensions Beyond the European Neighborhood Policy” (Ashgate Pub Co, February 2015) pp 315