خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كان كل ما يحدث في الولايات المتحدة من معارضة في كل المجالات ضد إداراته منسوبا إلى جماعة تعمل في الخفاء وفق نظرية المؤامرة وأصبحت مع الوقت فزّاعة لمقارعة خصومه. وفي الواقع فإن هذا المخدّر الذي استخدمه لم يكن إلا نتيجة لهذا الوهم الذي لطالما لازم السياسيين الأميركيين منذ عقود طويلة لتبرير أفعالهم أمام الرأي العام وأنهم لا يمارسون طقوسهم السياسية إلا وفق ما يمليه عليهم دستور الجمهورية.
واشنطن – أصبحت نظريات المؤامرة حاضرة بقوة في الأوساط السياسية الأميركية لتبرير حوادث معينة خاصة حينما تكون المعلومات حولها ضحلة وغير مفهومة، وهي تبدو كسلاح مهم لا يمكن لصناع القرار والمؤثرين السياسيين في الرأي العام الأميركي الاستغناء عنه.
ولكن هذا الوضع لم يكن وليد اللحظة، بل هو عبارة عن ثقافة راسخة منذ سنوات طويلة، ويستخدمها السياسيون تاريخيا من أجل تسجيل النقاط أمام الخصوم وكسب التأييد الشعبي أو لتحميل المنافسين المسؤولية في أي موضوع يدور السجال حوله. ومع ذلك تبقى في النهاية مجرد عمليات تمويه لأشياء ليست موجودة في الواقع.
تاريخ من وهم المؤامرات
بينما تبتعد الولايات المتحدة عن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ببطء، لا يزال الملايين من الأميركيين بمن فيهم أعضاء في الكونغرس يعيشون في الأوهام، ففي عالمهم انتصر زعيمهم، لكن أعداء الشعب الخونة منعوه من متابعة الطريق.
وتحوم قوى الشر، مدعومة من إدارة الرئيس جو بايدن، التي تُرى شيوعية في أحسن الأحوال وشيطانية في أسوئها، رغم أن الانتماءين مترادفان في هذه النظرة العالمية. وتعدّ النائبة الجمهورية في الكونغرس من ولاية جورجيا، مارجوري تايلور غرين، من أبرز الشخصيات التي تعيش في هذه الأوهام.
وتصدّق نظرية المؤامرة كيو أنون كيو آنون، الحركة اليمينية المؤيدة لنظرية المؤامرة والتي تعتبر ترامب بطلا، والتي تقول إميلي برومفيلد هيسن الكاتبة في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية إنها عبارة عن خطّة سرية للدولة العميقة في الولايات المتحدة ضدّ ترامب وأنصاره، وتعتقد أن اليهود يديرون الليزر في الفضاء.
لكن هذه الميكانيزمات التي طفت على سطح الحياة السياسية الأميركية تبقى مجرد قطرة من فيض من النظريات التي كانت تتخمر داخل الولايات المتحدة منذ عقود.
لقد خسر ترامب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكن ترويجه للمؤامرات ودعمه البارز لوسائل الدعاية اليمينية أثر لا يمحى على الثقافة الأميركية.
معظم الجماعات المتطرفة تبقى غير مستقرة وذات حياة قصيرة، حيث تنهار العديد منها بعد أن تحقق أهدافها ليتولى من يخلفها مهمة التجنيد والترويج للأكاذيب
وفي حين أن الرئيس السابق قد يكون الأبرز في هذه الممارسات، إلا أنه لم يكن أول من استخدمها، فقد فبرك السياسيون والشخصيات الإعلامية من اليمين المتطرف حقائق لعقود. وتعتقد هيسن أنهم سيواصلون ذلك لأطول فترة ممكنة بغض النظر عما إذا كان ذلك يحفز الجماعات المتطرفة أو الهجمات الإرهابية.
وليس الأعضاء الأكثر عنفا الشاغل الوحيد في هذه القضية، حيث يجري تجنيد الأشخاص العاديين المنغمسين في الحقائق البديلة، والمقتنعين بأن العالم مكان مرعب يحكمه آكلو لحوم البشر الذين يتحرشون بالأطفال ويخدمون الشياطين.
ويصبح هؤلاء معزولين عن الأصدقاء والعائلة، مما يجعلهم أكثر عرضة لتكتيكات غسل الدماغ. وكثيرا ما يتم التلاعب بهم مما يجعلهم يتجاهلون سلامتهم أثناء انتشار جائحة مميتة.
وعلى سبيل المثال، تسببت متابعة جدي المستمرة لدعاية “فوكس نيوز” في تجاهله خطر فايروس كورونا باعتباره خدعة ورفض دخول المستشفى حتى عندما كان ينهار تحت تأثيره، ولحسن الحظ، تلقى علاجا سريعا ونجا، لكن الكثيرين لم يلقوا هذه النهاية السعيدة.
وتبقى معظم الجماعات المتطرفة غير مستقرة وذات حياة قصيرة، حيث تنهار العديد منها بعد أن تحقق أهدافها ليتولى من يخلفها مهمة التجند والترويج للأكاذيب.
وعمل كل من اليمين المتطرف وبراود بويز على ترويج الدعم المفتوح للقومية البيضاء وهاجما المتظاهرين اليساريين وقد استدرجت كيو أنون الملايين، بما في ذلك نصف مؤيدي ترامب وتمثيلا في الكونغرس.
التطرف سمة طاغية
أصبحت لغة التطرف العنيف القاعدة في العديد من الكنائس الإنجيلية البيضاء، التي تستفيد من إرث الاستياء الكنفدرالي والقومية المسيحية المتطرفة لتبرير لغة الثورة ضد حكومة تزعم أنها غير عادلة.
ومع ذلك، ليس هذا جديدا، ولكن قد يرغب بعض المتحولين عن الحزب الجمهوري حديثا في تقديمه على هذا النحو، فقد كان النشاط ضد الرئيس السابق أوباما بمثابة أرض خصبة لنظريات المؤامرة والكراهية.
وزعم مصدقو مؤامرة “بيرثر” (أو بلد الولادة) أن المرشح أوباما ولد في كينيا وكان غير مؤهل للرئاسة، واستمر الكثيرون في الإشارة إلى أن رئاسته كانت غير قانونية بعد انتخابه.
واعتمد البعض اسمه الأوسط “حسين” للترويج لنظرياتهم. وقد زعم الإنجيلي اليميني وحليف ترامب المستقبلي، فرانكلين غراهام، خطأ أن أوباما ولد مسلما، وربط جيناته برواية طالما اعتمدها المعلقون المحافظون لفبركة القصص عنه. حينها، تحدث عدد قليل من الشخصيات داخل الحزب، مثل السناتور جون ماكين، ضد ما يسمى بالبيرثرية.
لكنّ كثيرين اعتنقوها أو ألمحوا إليها، وبحلول نهاية رئاسة أوباما، ذكر 72 في المئة من الناخبين الجمهوريين أن لديهم شكوكا بشأن جنسية الرئيس، وهي تقريبا نفس النسبة التي تبنت مزاعم كاذبة حول انتخابات العام الماضي، وكان هؤلاء وقود مسيرة ترامب الس
كما لا تعدّ مخططات خطف سياسيين ومسؤولي الانتخابات والاغتيال السياسي جديدة أيضا، ففي مارس 2010 نشر أعضاء حزب الشاي في منطقتنا ما اعتقدوا أنه عنوان منزل النائب الليبرالي توم بيريلو على فيسبوك. حينها دعوا خصومه إلى الحضور والتعبير عن شكرهم لتصويته على قانون الرعاية الميسرة، وقد لبّى شخص ما ذلك، وقطع خط غاز على مدخل المنزل، وتلقى السكان رسالة تهديد في البريد. وعندما علم أن العنوان لبو بيريلو، شقيق الممثل، اعتبر زعيم حزب الشاي المحلي نايجل كولمان الأمر “أضرارا جانبية”.
ولم يقلل تسامح حزب الشاي مع التطرف والروايات الكاذبة من نجاحاته السياسية، فقد خسر توم بيريلو حملته الانتخابية، وهزمه الناخبون الذين صدقوا روايات حزب الشاي. وشغل الجمهوريون المقعد منذ ذلك الحين.
وعندما واجهت الديمقراطية جين ديتمار هذا التحدي الخطير في 2016، نجح محتج جمهوري مسلح في ترويع موظفيها، وقصفها المتصيدون عبر الإنترنت بالتهديدات بالاغتصاب والقتل.
ونفى خصمها، السناتور توم غاريت، في البداية أي مسؤولية وغيّر الموضوع إلى مزاعم القيادة تحت تأثير الكحول ضدها. وفي وقت لاحق، تمكّن من أن يهزمها بسهولة.
وفي حين أن نجاحه يمكن أن يُعزى إلى الحملات الانتخابية وتأثيرات الاقتراع على فوز ترامب في ذلك العام، إلا أن انهيار حملة ديتمار بسبب وابل من التهديدات ساهم في نجاحه.
وقبل حزب الشاي كانت الإنجيلية البيضاء تدعم القاعدة الجمهورية، واندمجت منذ السبعينات في نظريات المؤامرة وتعتبر كيو أنون سليلة البحث عن التأثير الشيطاني الذي بلغ ذروته في ثمانينات القرن الماضي، عندما ادعت الرسائل المتسلسلة (أسلاف مجموعات الفيسبوك) أن شركة بروكتر وغامبل كانت متحالفة مع كنيسة الشيطان. وقبل ذلك، كانت جمعية جون بيرش تؤمن بالمؤامرات الشيوعية الواسعة التي تقود حركة الحقوق المدنية.
وتعتقد هيسن أن أيّا من هذه الأفكار لا تختفي تماما، بل تندمج في مزيج واحد بمرور الوقت وكثيرا ما ينشر السياسيون غير المسؤولين المؤامرات ويستخدمون الخطاب العنيف ويزعمون أن المعارضين ليسوا سوى دمى لأخبار مزيفة يستحضرها أعداء الشعب.
وعندما يخطو أتباعهم نحو النهاية المنطقية العنيفة، يتظاهرون بالجهل ويصدرون إدانات ضعيفة بينما يحتفل المتطرفون ويفسرون تعليقاتهم على أنها توجيهات من قادتهم. وفي حالة غياب عواقب سياسية أو قانونية حقيقية لأفعالهم، فإنهم سيواصلون استفادتهم من هذا النمط.
وتعامل ترامب مع المتطرفين قد يكون المصدر الأكثر وضوحا للمشكلة، حيث كان يفتقر إلى الانضباط الذاتي والبراعة السياسية التي تمتع بها الحلفاء الأيديولوجيون مثل السناتور ميتش ماكونيل والمدعي العام السابق بيل بار، اللذين عملا على تقويض شرعية الرئيس بايدن دون التغريد عن خططهما للعالم.
ومن المرجح أن يضبط السياسيون اليمينيون في المستقبل رسائلهم وينسقوا حملات تخويف أكثر قابلية للإنكار، وتقول هيسن إنه من الممكن أن تتضخم الحركات اليسارية المتطرفة الأصغر استجابة لتخلي الكثيرين عن المعايير الديمقراطية.
ولا يتسبب هذا في انهيار نظام الحكم الأميركي، ولكنه قد يجعل العقود القادمة غير سارة. وليست هذه النتيجة حتمية، ولكن على المسؤولين من جميع الأطياف السياسية التحرك بسرعة.
ولذلك فمن وجهة نظر هيسن لا بد أن يحاسب السياسيون المخادعون في صناديق الاقتراع، كما أن على المتشددين اليمينيين رؤية تضاؤل نفوذهم. والأهم من ذلك، يحتاج جميع الأميركيين إلى أن يكونوا على دراية بالحقائق البديلة المفترضة التي تهيمن على حياة الكثيرين.
العرب