سعى تدخل القوى الفاعلة في سوريا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف بعضها سياسي بحت، وغالبا ما قامت في جزء كبير من تصرفاتها ببعث إشارات للتعبير عن القلق أو امتعاضها بشأن الأحداث أو لتحسين موقفها في الداخل أو المجتمع الدولي، لكن في كل الأحوال، برزت في طيات العديد من التقارير الدولية بعض الأشياء المسكوت عنها ولم تظهر للعلن، خاصة وأن الجميع يلعب على وتر حماية المدنيين الذين كانوا وقود الأزمة.
واشنطن – يعي أطراف الصراع في سوريا وحلفاؤهم الدوليون أن من يسيطر على السماء يكسب الأرض ولذلك احتدم التنافس على المجال الجوي في السنوات الماضية ما أدى إلى انتشار مختلف أنواع الطيران الحربي، وحوّل الدولة الغارقة في الفوضى منذ عشر سنوات إلى مختبر لتجربة قدرات الحرب الجوية الحديثة.
ولأن القوى المتدخلة في الأزمة السورية لديها أسباب للتعامل مع “القوات المعادية”، وفي كثير من الأحيان ينكرون استهدافهم للمدنيين، لكن أحدث تقارير منظمة “آيرويز” البريطانية، والتي تتعقب الخسائر المدنية في سوريا والعراق وليبيا واليمن الناجمة عن الهجمات الجوية والمدفعية، يرصد مدى اللامبالاة في حماية المدنيين ولولا ذلك لما تم الاعتراف بوفاتهم أو إصابتهم.
عملية مراقبة مضنية
ازدحمت سماء سوريا في السنوات العشر الماضية بكل أنواع الأسلحة، ويرصد تقرير آيرويز الذي نشرته مؤسسة “غلوبال أجنس” الخسائر التي تسببت فيها أربع جهات فاعلة، وهي روسيا وتركيا والتحالف بقيادة الولايات المتحدة والقوات الكردية.
ورغم انخفاض معدل الإضرار بالمدنيين بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إلا أن التقرير يفصح عن إحصائيات متشائمة. ومع ذلك تبقى العديد من الأدلة مغيبة حول العدد الحقيقي للضحايا، مما يجعل حتى مسألة ملاحقة المتسبب في تلك العمليات أمرا صعبا بسبب اتباع سياسية الإنكار.
ويقول كريس وودز، المؤسس المشارك لمنظمة “آيرويز”، إن المهمة الرئيسية للمنظمة، التي بدأت عملها أواخر 2014، هي مراقبة تصرفات القوى الأجنبية. وبالتالي، فإن الإحصائيات التي تجمعها لا تشمل الخسائر المدنية التي تسبب فيها المقاتلون المحليون.
وبينما هناك منظمات دولية كثيرة تراقب عن كثب ما يحصل مثل المرصد السوري لحقوق الإنسان، يؤكد وودز أن أكثر من 20 قوة أجنبية قصفت سوريا جوا وبرا منذ 2011، وأن المنظمة شعرت بضرورة محاسبة تلك القوات الأجنبية.
وبدأت المنظمة عملية المراقبة في سوريا عندما بدأت واشنطن وحلفاؤها في شن غارات جوية وضربات بصواريخ كروز مرة أخرى في سبتمبر 2014. ومع دخول روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل، قامت بتغطية الخسائر المدنية التي تسببت فيها وتعقبت الأضرار التي تلحق بالمدنيين باستثناء الحالات التي تكون فيها القوات الأجنبية جزءا فعليا من القوات المحلية.
ولم يتم إدراج إسرائيل في هذه المرحلة، لكن آيرويز ستصدر تقريرا في وقت لاحق حول المئات من الضربات على أهداف عسكرية منذ بدء الحرب، معظمها مرتبط بالقوات الإيرانية وحزب الله.
في خضم الفوضى التي تعيشها الساحة السورية، يبدو اتباع سياسة الإنكار في قصف المدنيين، سيد الموقف، مع أن الدلائل الحقيقية تشير إلى أن القوى الموجودة داخل البلاد هي من تحرك طائراتها ومدرعاتها.
ومنذ مطلع 2020، واصلت روسيا حملتها الجوية دعما لقوات نظام الأسد بهدف تدمير محافظة إدلب، آخر معاقل المعارضة في شمال غرب سوريا. كما نفذ الروس ضربات في محافظة حماة وريف محافظة حلب الجنوبي.
ويشير تقرير آيرويز إلى أنه “رغم ذلك، شهد العام الماضي انخفاضا ملحوظا في إصابة المدنيين بتسجيل 251 حادثا بانخفاض بنسبة 65 في المئة مقارنة بنحو 710 حوادث تم تسجيلها في العام السابق”.
وتقول آيرويز إنه قبل وقف إطلاق النار قتلت الهجمات الروسية 364 مدنيا على الأقل ووقع أسوأ حادث في منتصف يناير 2020 عندما تم قصف سوق خضار مزدحم في إدلب، مما أسفر عن مقتل 22 مدنيا وجرح أكثر من 50.
لكن الروس، كما فعلوا في كل هذه الحوادث، ينكرون تورطهم في الهجوم. وقال وودز “لم تعترف روسيا قط بمقتل مدني واحد خلال أكثر من خمس سنوات من الحرب في سوريا”.
وبحسب التقرير، فإنه منذ بدء التدخل الروسي في سوريا في سبتمبر 2015 إلى ديسمبر الماضي، سجلت آيرويز 4500 حادثة إضرار بالمدنيين مرتبطة بالقوات الروسية.
وزُعم أن ما بين 15 ألفا و25 ألف مدني قُتلوا في هذه الحوادث. ومن بين القتلى، كان خمسة آلاف من الأطفال وثلاثة آلاف من النساء، فضلا عن 40 ألف مصاب.
وفي حين أن الجهات الأجنبية الفاعلة الأخرى، وعلى الأخص الأميركيين، تتعاون إلى حد ما مع آيرويز، إلا أن روسيا ترفض هذا التعاون بينما تتشبث بمزاعم أنها ليست مسؤولة عن أي مقتل مدني.
وحفز القصف الذي شنته قوات النظام السوري على رتل تركي في إدلب في فبراير 2020، والذي أسفر عن مقتل 34 جنديا وأدى لهجوم مضاد مدمر من قبل الأتراك على قوات الأسد، الأطراف على وقف إطلاق النار والذي صدر في مارس الماضي.
ولم يرغب الروس ولا الأسد في رؤية المزيد من التصعيد مع الأتراك وخلال الهدنة انخفض عدد القتلى المدنيين المنسوبين إلى الروس إلى 34 خلال الفترة المتبقية من العام الماضي.
ولم تكن تركيا بعيدة عما يحصل، إذ تسببت قواتها في قرابة 60 حادثا ألحقت الأضرار بالمدنيين، مما أدى إلى مقتل 37 شخصا على الأقل وإصابة ما يصل إلى 152 مدنيا آخر.
وكان أسوأ حادث منفرد هو قصف قريتين شمال منبج في منطقة تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد. وأسفر الهجوم عن مقتل ستة مدنيين وإصابة عشرة على الأقل. وكان من بين القتلى ثلاثة أطفال.
في المقابل، سجلت آيرويز انخفاضا ملحوظا في العدد الإجمالي للمدنيين الذين قُتلوا بسبب الأعمال الكردية في سوريا، فمع نهاية العام الماضي تم تسجيل 14 حادثا مقابل 55 اعتداء قبل عام وانجر عن ذلك انخفاض في عدد القتلى.
لكن أسوأ حادثة وقعت كانت في بلدة عفرين الخاضعة لسيطرة القوات التركية عندما تم قصف سوق محلي في مارس الماضي، مما أسفر عن استشهاد خمسة مدنيين وجرح ما لا يقل عن 15 في هجوم صاروخي ومدفعي، لتخمد البنادق والمدافع منذ سبتمبر الماضي.
مع انهيار خلافة داعش في مارس 2019، استمرت ضربات التحالف في التراجع بشكل ملحوظ. وفي العام الماضي، سجلت آيرويز 12 حادثا ألحق الضرر بالمدنيين نفّذته قوات التحالف، مقارنة بقرابة 75 حادثة تم الإبلاغ عنها في عام 2019.
وقال وودز إن “التعاون من الجانب الأميركي كان جيدا مع المنظمة في ظل كل من إدارتي الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب”. ويأمل أن يستمر هذا الاتجاه مع الرئيس بايدن.
وأعلن الأميركيون مسؤوليتهم عن الأضرار التي لحقت بالمدنيين حيث أقروا بوفاة أكثر من 1400 مدني الآن في الحرب ضد داعش، وهو أمر غير مسبوق، لكن المنظمة تختلف معهم بشكل كبير حول عدد المدنيين الذين قتلوا في تلك الحرب.
أما فرنسا، التي نفذت الآلاف من الغارات الجوية في الحرب ضد داعش، تواصل إصرارها، مثل الروس، على أنها لم تتسبب في وقوع إصابات بين المدنيين. أما بالنسبة إلى البريطانيين فإن وودز يصفهم بالتزامهم ببعض الشفافية من حيث أنهم يوفرون معلومات حول هجماتهم.
لكنهم لا يتحملون المسؤولية كاملة، حيث “نفذوا أكثر من ألفي غارة جوية في أنحاء العراق وسوريا، العديد منها في مدن مكتظة بالمدنيين باستخدام ذخائر كبيرة”. ومن وجهة نظر وودز، تسبب حتما أضرارا بالمدنيين. لكن البريطانيين اعترفوا بمقتل مدني واحد فقط في ريف سوريا خلال أكثر من خمس سنوات من الحرب، وهو ما اعتبرته المنظمة غير منطقي.
العرب