النقمة والعزلة لم تردعا بشار الأسد عن تكريس بقائه

النقمة والعزلة لم تردعا بشار الأسد عن تكريس بقائه

من المبكر الحديث عن سيناريوهات بخصوص انتهاء الحرب والبدء بالعملية الديمقراطية في سوريا، لكن مجمل المعطيات تشير إلى حدوث تطورات كبيرة جعلت النظام يمضي في التمسك بالسلطة، كما لا توجد دلائل على أن الضغوط الخارجية ستمنع بشار الأسد من خوض الانتخابات الرئاسية المزمعة بعد أشهر. فبعد أن تحوّل إلى رئيس “منبوذ” طيلة عشر سنوات من الأزمة، استطاع بناء تحالفات خارجية قوية جعلت المجتمع الدولي يربط أي تسوية محتملة بالمفاوضات معه.

دمشق – صمد الرئيس السوري بشار الأسد في وجه الثورة والعزلة والحرب والنقمة رغم الدمار والموت والتشرّد، الذي ضرب بلده ولا يزال. وبعد عقد من الزمن عن اندلاع تحركات شعبية ضده يستعد مجددا لخوض غمار انتخابات رئاسية بعد أشهر تبدو نتائجها محسومة لصالحه.

وقبل عقد من الزمن، انطلقت ثورات شعبية في عدد من الدول العربية ضد التسلط والقمع والفقر. وأطاح الغضب برؤساء وأنظمة دكتاتورية حكمت بلدانها بقبضة من حديد لعقود، وإن لم تأت دائما بالحرية والرخاء المنشودين.

ووحده الأسد، الذي تنبأ كثيرون بأنه سيسقط تحت ضغط الشارع بعد أسابيع من بدء الانتفاضة الشعبية ضده منتصف مارس 2011، احتفظ بمنصبه. وسيكون الأسد المرشّح الوحيد عمليا في الانتخابات القادمة بموجب دستور 2012.

يقول خبراء وسياسيون إن بشار الأسد استفاد من تقاطع عوامل داخلية أبرزها تحكّمه بالقوات الأمنية والعسكرية، وخارجية على رأسها تلكؤ الغرب في استخدام القوة ضده، مقابل دعم عسكري حاسم من إيران ثم روسيا، ليبقى. وينضاف إلى ذلك الصبر واستثمار لعامل الوقت مشهود لهما في عائلة الأسد، التي تحكم سوريا منذ بداية سبعينات القرن الماضي.

وعند انطلاق الاحتجاجات السلمية، اختار الأسد قمعها بالقوة وسرعان ما تحوّلت نزاعا مدمرا فاقمه تصاعد نفوذ التنظيمات الجهادية وتدخل أطراف خارجية عدّة ساهمت في تعقيد المشهد. وصنّف كلّ من حمل السلاح ضدّه بـ”الإرهابي”.

ويرى محللون أن الأسد، الذي خلف والده الراحل حافظ الأسد عام 2000، ورث عنه الطباع الباردة والشخصية الغامضة، وتتلمذ على يده في الصبر، ولعب ذلك دورا أساسيا في “صموده”.

ويقول السياسي اللبناني المخضرم كريم بقرادوني لوكالة الصحافة الفرنسية “بعدما طالب العالم كله برحيله قبل سنوات وظنّ أنه سيسقط، يريد اليوم أن يجد الحلّ معه. لقد عرف الأسد كيف يستثمر عامل الوقت”.

فمنذ اندلاع النزاع، لم يتوان الأسد في أي تصريح عن إبداء ثقته الكبيرة بالقدرة على الانتصار حتى في أكثر لحظاته ضعفا.

ويؤكد بقرادوني، الذي لعب لوقت طويل دور الوسيط بين النظام السوري وأطراف لبنانية خلال الأزمات التي شهدها البلدان، “لم يتراجع الأسد أي خطوة إلى الوراء. تمسّك بكل مواقفه من دون أي تعديل. وتمكّن من أن يسترجع بالقوة العسكرية معظم الأراضي السورية”.

وأثبت الجيش السوري، وفق بقرادوني، “أنه جيش عقائدي ونظامي تمكن من الاستمرار وحماية النظام في أسوأ الأوضاع ولم ينقلب عليه كما في دول أخرى، وهذا ما جعل الأسد نموذجا استثنائيا في ما يُعرف بثورات الربيع العربي”.

وبقي الجيش، الذي يشكل أبرز أسلحة الأنظمة الدكتاتورية، متماسكا ومواليا لنظام الأسد، رغم انشقاق عشرات الآلاف من العسكريين عنه في بداية النزاع، ما منح رئيس النظام السوري فرصة ذهبية للصمود، بخلاف رؤساء عرب آخرين استقال بعضهم أو فرّ أو قتل تحت ضغط الشارع.

ويرى الباحث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي توما بييريه، أنّه يمكن اختصار العوامل الداخلية التي ساهمت في بقاء الأسد في السلطة بعنوان واحد “استمرار ولاء قيادة الجيش التي تعززت خلال عقود بأقارب الأسد وأتباعه” من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها.

واعتبر أن هؤلاء شكلوا على الأرجح أكثر من 80 في المئة من الضباط في العام 2011، وشغلوا كل منصب مؤثر عمليا داخل الجيش.

ويقول باحث سوري في دمشق تحفّظ عن كشف اسمه، “لا يمكن إنكار دور شخصية الأسد في بقائه، وما يعرف عنه من إصرار وصرامة. فهو تمكّن من حصر القرارات كافة بيده وجعل الجيش معه بشكل كامل”.

في أثناء ذلك، لم تفرز بنية النظام شخصيات قيادية يمكنها أن تلعب دورا بارزا في مواجهته، لا بل “قطعت الطريق على أي شخصية حاولت أن تبني حيّزا لها” في مستقبل البلاد.

راهن الأسد على تركيبة المجتمع المعقدة مع وجود انقسام عرقي بين عرب وأكراد، وطائفي بين سنّة وعلويين وأقليات، أبرزها المسيحية، رأت فيه حاميا لها خصوصا مع تصاعد دور التنظيمات الإسلامية والجهادية.

ويعتبر الباحث السوري أن الأسد “استفاد من خوف الناس من الفوضى ومن خوف بيئته (العلوية) على وجودها في حال سقوطه، ما جعلها تستميت في الدفاع عنه دفاعا عن وجودها. كما استفاد من غياب قوى سياسية فاعلة وفقدان الأمل من دور المعارضة”.

وفي فبراير 2012، وبينما كانت قوات الأسد تخسر على الأرض، تشكلت مجموعة “أصدقاء سوريا” التي ضمّت دولا غربية وعربية داعمة للمعارضة السورية. ثمّ اعترفت أكثر من مئة دولة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كممثل شرعي وحيد للشعب السوري.

وبدا الأسد في تلك الفترة رئيسا معزولا مع تصاعد المطالبات بتنحيه، في وقت جمّدت جامعة الدول العربية عضوية سوريا فيها، وفرضت دول غربية عقوبات على النظام بسبب ممارسات القمع. بدا الأسد حينها على وشك السقوط. إلا أن خصومه لم يتمكنوا من تشكيل جبهة موحدة، لا في الداخل ولا في الخارج.

مع عسكرة النزاع، تعدّدت الفصائل المقاتلة التي كانت تتلقى دعما من جهات ودول مختلفة لها أجندات خاصة. ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وتحكمه بمساحات واسعة من البلاد، تبدّد مطلب الحرية والديمقراطية وراء الرعب. وبشكل غير مباشر، ساعد الأسد على تقديم نفسه بأنّه يخوض حربا ضد “الإرهاب”.

وفيما كانت الفصائل المعارضة تطالب حلفاءها بسلاح ودعم عسكري، على غرار تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) الجوي الذي ساعد المعارضة المسلحة الليبية على النيل من نظام القذافي، كان الغرب مرعوبا من تكرار تجربة ليبيا، حيث بدأت الفوضى تتمدد.

ومع استقطاب داعش الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق المجاور بدءا من العام 2014، وتنفيذه هجمات دامية في دول عدة، انصبّ تركيز المجتمع الدولي بقيادة واشنطن على دعم الفصائل الكردية وحلفائها في مواجهة الجهاديين، عوضا عن دعم خصوم الأسد.

وبات الأسد أكثر تيقنا من أن الطائرات الأميركية لن تحلّق في سماء دمشق بعد تراجع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن تنفيذ ضربات عقابية، إثر مقتل نحو 1400 شخص قرب دمشق في صيف 2013 جراء هجوم بغاز السارين اتهمت دمشق بتنفيذه. وانتهى الأمر باتفاق أميركي روسي على تفكيك الترسانة الكيمياوية السورية.

ويوضح بييريه أنّ أوباما “انتخب على أساس وعد بالانسحاب من العراق، ولذلك تردّدت إدارته في العودة إلى الشرق الأوسط” من بوابة سوريا.

وأشار إلى أن الإدارة الأميركية حدّدت مصالحها في المنطقة على نطاق ضيق وبطريقة انعزالية، أي مكافحة الإرهاب، ومن هنا تدخلها ضد داعش وأسلحة الدمار الشامل.

في المقابل، تلقى الأسد دعما حاسما من إيران، التي درّبت واستقدمت مجموعات مسلحة دافعت بشراسة عن النظام بينها حزب الله اللبناني، وكذلك فعلت روسيا، التي دافعت عن النظام في مجلس الأمن ودعمته اقتصاديا ثم عسكريا، لاسيما بالقصف الجوي.

ووفق بييريه، انتهزت روسيا تحديدا فرصة تاريخية لاستعادة موقعها، الذي فقدته كقوة عظمى عبر ملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه فكّ أوباما ارتباطه جزئيا عن المنطقة.

وبعدما كانت الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن تشدّد في كل مناسبة على ضرورة تنحي الأسد، انصبّ اهتمام المجتمع الدولي على التوصل إلى تسوية سياسية من بوابة اللجنة الدستورية، التي تضم ممثلين عن الحكومة والمعارضة وتعقد اجتماعات منذ 18 شهرا في جنيف.

وأملت الأمم المتحدة أن تمهد نتائج عمل اللجنة لوضع دستور جديد تُجرى الانتخابات الرئاسية المرتقبة منتصف العام الحالي على أساسه وبإشرافها. إلا أن موفدها إلى دمشق غير بيدرسن قال لصحافيين الشهر الجاري إنّ الاجتماع الأخير كان “فرصة ضائعة” وشكّل “خيبة أمل”. وأقرّ أمام مجلس الأمن “بفشل المسار السياسي”.

وتعمّدت دمشق “تقطيع الوقت” خلال اجتماعات اللجنة الدستورية، التي يصفها مصدر دبلوماسي غربي لوكالة الصحافة الفرنسية بأنها أشبه بـ”دعابة”.

ويقول بيدرسن “سنرى الأسد ينظم انتخابات هذا الصيف بموجب الدستور الحالي. يريد النظام وعرابوه (روسيا وإيران) أن يشرحوا للعالم: حسنا جرت الانتخابات وانتهت اللعبة. هل بإمكانكم رجاء فتح دفاتر الشيكات وتمويل البنى التحتية التي قصفناها خلال السنوات العشر الأخيرة؟”.

ولدى الكثير من المتابعين قناعة بأنه من المستحيل اليوم أن يكون النظام السوري مقبولا من النظام الدولي، ومن المستحيل كذلك أن يبقى خارجه. ويقول الباحث السوري “هذه المعادلة المستحيلة ستبقينا لسنوات طويلة في مرحلة اللا خيار، واللا حل واللا استقرار مع استمرار الاستنزاف البطيء الذي يدفع ثمنه الشعب السوري”.

وفي هذا الوقت، لا شيء يمنع الأسد من البقاء في مكانه والفوز بولاية رئاسية رابعة، فيما كل الناشطين الذين تجرأوا يوما على الخروج إلى الشارع للمطالبة بسقوط النظام قتلوا أو فروا من البلاد أو تشردوا داخلها، وفيما عشرات الآلاف غيرهم في السجون والمعتقلات.

العرب