يربط كثيرون في لبنان وخارجه بين تعثر ولادة حكومة إنقاذ تستعيد بناء الدولة والاقتصاد، والرفض الإيراني لتقديم أي تنازل في مناطق نفوذ الحرس الثوري، للغرب أو للولايات المتحدة، قبل التأكد من رفع العقوبات الأميركية والعودة إلى صيغة الاتفاق النووي الموقعة في عام 2015.
وإيران تُحْكم عبر “حزب الله” وحليفه رئيس الجمهورية اللبنانية سيطرة شبه كاملة على لبنان، لكنها تعجز عبر هؤلاء الحلفاء عن تقديم أية حلول للأزمات المتراكمة، وفي مقدمها التردي المعيشي والانهيار المالي والتسيب القانوني الذي يجعل تدمير نصف العاصمة في أغسطس (آب) الماضي حادثاً عادياً يتم التعامل معه ومع الآلاف من ضحاياه بخفة لا مثيل لها.
وفي الواقع أن احتجاجات اللبنانيين منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 تتناول في العمق تلك السيطرة الإيرانية وأدواتها المتنوعة، ولو لم تعلن ذلك صراحة. فقد باتت الدعوة لإعادة بناء الدولة والمؤسسات بالنسبة إلى إيران وجماعاتها، تهديداً صريحاً لنفوذها وحضورها، فكيف إذا كانت هذه الدعوة تحظى بدعم غربي ورعاية فرنسية صريحة.
لم تكن إيران راضية عن تحرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومبادرته تجاه لبنان، ومنذ البداية اعتبرتها محاولة لـ “استعادة النفوذ في لبنان و”لتطويق المقاومة”. غير أن هذا الخطاب الذي يلقي مسؤولية رفض مبادرات الحل على الحليف المحلي، يتبدل لدى توجيه المسؤولين الإيرانيين خطاباتهم إلى الجمهور الإيراني. فأمام هذا الجمهور يتم من جهة إبراز حجم الانتصارات التي حققتها القيادة الخمينية وتمكنها من توطيد مواقع نفوذها في بلدان المشرق العربي واليمن، ويتم من جهة ثانية تكرار الخطاب القديم ضد إسرائيل والتهديد بإزالتها من الوجود، في تسلق واستغلال دائم للقضية الفلسطينية كتبرير لتعزيز الميليشيات المذهبية والتابعة.
تضمنت التهديدات الإيرانية في هذا المجال عناوين تحولت إلى أسباب للتندر. مرة قالوا إن تدمير إسرائيل سيستغرق سبع دقائق، ومرة ثانية قبل أيام، أعلن رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية مجتبي ذو النوري أن “قدرة النظام الإيراني هي من القوة، بحيث إذا سوّل الكيان الصهيوني لنفسه التطاول على إيران، فإننا قد لا نجد أثراً لإسرائيل بعد نصف ساعة من تطاولها”.
تستفيد إسرائيل من التهديدات الإيرانية. ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو الذي يستعد لانتخابات نيابية هذا الأسبوع، يتحدث عن “نهضتين” في المنطقة، نهضة إسرائيل العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، ونهضة إيران في توسيع مناطق نفوذها، وهو يرى في ذلك فرصة لتحقيق مشاريع إسرائيل بالدرجة الأولى، مشيراً بذلك إلى الخدمة الضمنية التي تتيحها السياسات الإيرانية.
وفي الواقع لا ترى إيران سوى مصالحها الخاصة في كل ما تقوله وتفعله. وفي خطاب له قبل أيام اعتبر وزير دفاعها أمير حاتمي، أن كل ما جرى ويجري في المنطقة هدفه إضعاف النظام في بلاده. وأورد في هذا السياق تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة في العراق والحرب في اليمن ومعارك ناغورنو قره باغ والتدخلات في سوريا وانتفاضة الشعب اللبناني ضد نظام الفساد والميليشيا المسلحة، وبالكاد تذكر إسرائيل الموعودة بالإزالة عن الخارطة في نصف ساعة!
ما يعنيه لبنان في الرؤية الإيرانية ليس أكثر من منصة صواريخ، لن يتم التنازل في شأنها لمصلحة تسوية تتيح استعادة هذا البلد حداً أدنى من مواصفات البلد الطبيعي، ولو دخل الروس على خط النصح والإرشاد. فهؤلاء أيضاً خصوم في مقاييس أي سعي لقيام دولة في سوريا على قاعدة القرارات الدولية التي تعلن روسيا عزمها العمل من أجل تنفيذها، بالتعاون مع مجموعة الدول الخليجية التي تضعها إيران في رأس قائمة الأعداء.
سيكون من سابع المستحيلات أن يتقدم لبنان خطوة على طريق حل أزمته وسط هذا المناخ الإيراني الذي يجد من يعمل له بالتهديد والإرهاب في الخطابات وعلى أرض الواقع. وليس ضرورياً أن يتغير الوضع اللبناني في حال استجابت أميركا لطلبات المرشد الخامنئي برفع العقوبات أولاً. فالهدف الإيراني في التوسع باسم المذهب سيبقى ماثلاً، ووضع حد له سيحتاج مزيداً من إصرار اللبنانيين على التحرر، ودعماً ضرورياً من العمق العربي والمجتمع الدولي.
طوني فرنسيس
انبندت عربي