منذ حصلت على الجنسية الأمريكية قبل عقد من الزمان، وأنا أحرص على زيارة فلسطين المحتلة مرتين أو ثلاث مرات في السنة، للتعويض عن سنوات الغياب القسري. كنت حريصا على مراقبة التطورات على الأرض، التي جاءت نتيجة مباشرة لاتفاقيات أوسلو الكارثية، حيث رأيت بأم عيني توسع الاحتلال أفقيا وعموديا في أرجاء الوطن كافة، بما في ذلك قريتي التي أحاطتها المستوطنات من كل جانب، ولم تبق إلا مدخلا واحدا تستطيع قوات الاحتلال إغلاقه متى شاءت لتحول القرية إلى سجن حقيقي وليس بالمعنى المجازي.
شاهدت الوطن يضمحل ويصغر، ويتمزق ويتعثر، رغم التضحيات الكبرى للشعب الفلسطيني المناضل لأكثر من 100 عام، التي فاقت نسبيا تضحيات أي شعب آخر. كنت أرصد ظاهرة النضال والصمود على المستوى الشعبي، خاصة في المخيمات من جهة، وظاهرة الانهيار على المستوى الرسمي من جهة ثانية. هناك من يعمل على بناء الوطن، وهناك من يستغل الوضع الحالي والتشابك مع الكيان الصهيوني، من أجل المصالح الشخصية، وتوزيع المكاسب على دائرة المقربين والمريدين. ومع مرور الوقت بدأت دائرة العمل الوطني تضيق، وبدأ الشعب الفلسطيني يبتعد عن السياسة والشأن العام، وينخرط أكثر في قضايا معيشية وحياتية وأمور ثانوية كالرياضة والفن والتراث الشعبي، حيث أصيب الناس بحالة من اليأس والإحباط وهم يرون التغول الإسرائيلي، ومصيبة الانقسام العميق بين نهجين، واحد يرفع شعار المفاوضات ولا يفاوض، وثان يرفع شعار المقاومة ولا يقاوم.
ورغم أنني لم أتمكن من العودة إلى الوطن لأكثر من عام بسبب جائحة كورونا، إلا أنني أتابع التفاصيل وأستطيع أن أقول بدون مواربة إن الأوضاع الفلسطينية تمر الآن في أسوأ مراحلها من كل النواحي، لدرجة أن هناك خطرا حقيقيا على المشروع الوطني الفلسطيني برمته. ودعني أنقل صورا مؤلمة للأوضاع في فلسطين المحتلة من بحرها إلى نهرها.
أولا- انتخابات تعمق الانقسامات
من يتابع الانتخابات الفلسطينية للمجلس التشريعي يصاب بالغثاء. نسبة التسجيل بلغت 93% وكأن الانتخابات ستكنس الاحتلال، وتوحد الشعب الفلسطيني، وتعيد اللاجئين إلى بيوتهم. سر هذا الإقبال لا علاقة له بالاحتلال، ولا بمقاومة الاحتلال، بل بالتعصبات التنظيمية والفزعات القبلية. لكننا لا ننكر أن هناك فئات قليلة يشدها الأمل في تغيير ما على الأقل، تغيير بعض الوجوه التي ملّها الناس ويتمنون اختفاءها عن المسرح، فقد أصيب الشعب الفلسطيني في الخمس عشرة سنة الماضية بحالة من اليأس والإحباط، في ظل الانقسام وتراجع المشروع الوطني، وتغول الاستيطان وتهويد القدس، وبناء الجدار العازل وزج الآلاف في السجون، وشن الحروب على القطاع المحاصر، ووقوف السلطة مع المهاجمين لا مع الصامدين، وتمادي انتهاكات الأجهزة الأمنية، وانتشار الفساد وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، ثم جاءت جائحة كورونا لتنشر الرعب وتصيب الآلاف وتقتل نحو 2500 شخص. في ظل هذه الأوضاع الصعبة، لا حديث للناس إلا الانتخابات والقوائم، وفصل ناصر القدوة ودور محمد دحلان، وتأثير الإمارات على الانتخابات الفلسطينية عن طريق المال، وقوائم حماس وفصائل اليسار. حماس وفتح يتفاوضان للنزول في قوائم مشتركة، لكن رئيس الشاباك الإسرائيلي يصل إلى المقاطعة في رام الله، ويجتمع مع الرئيس عباس ويحدد له المسموح والممنوع في الانتخابات، بل يطلب منه تأجيل الانتخابات. كيف لانتخابات حرة تجري تحت الاحتلال وبشروطه؟ يستطيع الحاكم العسكري أن يلغي الانتخابات في اللحظة الأخيرة، وأن يعتقل الفائزين كافة، فما الجدوى من هذه الانتخابات التي جاءت بناء على استحقاقات خارجية لتجديد شرعية مفقودة أصلا؟ فالشرعية التي لا يصنعها النضال تبقى موضع شك والشرعية التي يمنحها عدوك تنتهي عندما تتوقف خدماتك له. وأي تمديد أو تجديد للشرعية الآن لا تتم إلا إذا كانت في خدمة الاحتلال.
الأمور تسير على غير هدى، لقد فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها البوصلة فلا أحد يعرف أين تتجه الأمور
ثانيا ـ التطهير العرقي في الشيخ جراح وبلدة سلوان
بينما ينشغل الفلسطينيون بالانتخابات والقوائم والمنافسة بين الفصائل والأحزاب، تتغول إسرائيل في ممارساتها القمعية بشكل غير مسبوق، ولا أحد يتكلم أو يندد أو يدعو لمظاهرة، أو يضع التصدي لهذه الممارسات في برنامجه الانتخابي. المحكمة الإسرائيلية أقرت إخلاء أربعة بيوت في حي الشيخ جراح، وتسليمها للمستوطنين في موعد أقصاه يوم 2 مايو. والبيوت التي سيتم الاستيلاء عليها تعود لعائلات مقدسية عريقة هي «الكرد والجاعوني والقاسم والإسكافي». كما فرضت على كل عائلة غرامة مالية بقيمة 70 ألف شيقل مقابل أتعاب محامي المستوطنين. هل هناك ظلم وقهر وعنصرية أكثر من هذا؟ وسيلحق الدور بنحو 30 عائلة في الحي الملتصق بالقدس بالحجج نفسها. كما أن حي البستان في بلدة سلوان الملتصقة بالقدس مهدد بالكامل، الذي يضم 100 بيت يقطنها نحو 1550 مواطنا أكثر من نصفهم من الأطفال، للتحضير لإقامة «حديقة توراتية». في شهر فبراير الماضي وحده، صادرت قوات الاحتلال أو هدمت 153 مبنى أو بيتا من الممتلكات الفلسطينية، ما أدى إلى نزوح 305 أشخاص من بينهم 172 طفلا، وقطعت بهذا سبل عيش 435 شخصاً آخر. وقد طالت عمليات الهدم في منطقة غور الأردن ـ منطقة البقيعة وشملت تدمير الملاجئ ومرافق المياه والصرف الصحي وهياكل المعيشة، التي أدت إلى نزوح 60 شخصاً على الأقل، من بينهم 35 طفلاً. ولا أستطيع إلا أن أذكّر بقيام قوات الاحتلال بإطلاق النار على عاطف يوسف حنايشة (45 سنة) من قرية بيت دجن يوم الجمعة 19 مارس الحالي، فأردته شهيدا وهو يدافع عن أرضه تاركا وراءه زوجته وأطفاله الثلاثة. لقد ارتفعت نسبة هدم البيوت والمنشآت إلى 65% مقارنة مع حجم الهدم في الفترة نفسها من العام الماضي. الزعماء الفلسطينيون والأمناء العامون مشغولون بما هو أهم طبعا من التصدي لمصادرة الأرض، وهدم البيوت والتطهير العرقي، ولا وقت لديهم للابتعاد عن حمى الانتخابات التي ستحسم الصراع لصالح قيادتي رام الله وغزة.
ثالثا – تصدع القائمة المشتركة
هذا الأداء الضعيف في القائمة المشتركة والقائمة الموحدة، لا يلقي باللوم فقط على الحركة الإسلامية الجنوبية، التي انسحبت من القائمة المشتركة، فساهمت في تصدعها، بل اللوم أيضا على القائمة نفسها التي لم تطور مشروعها الوطني الشامل الذي يلتف حوله فلسطينيو الداخل، ويكون ذا طبيعية نضالية في مواجهة نظام الفصل العنصري الذي حول هذه العنصرية إلى قانون أساسي عام 2017. قانون القومية كان فرصة لفلسطينيي الداخل أن يصعدوا نضالهم المنظم والسلمي والمتواصل، ضد نظام ينكر وجودهم ويحولهم إلى أفراد زائدين عن الحاجة، مطلوب اجتثاثهم أو تدميرهم كمجتمع. لقد وجد منصورعباس مبررا لانشقاقه ووقوفه إلى جانب نتنياهو تحت ذريعة البرنامج المطلبي. فإذا انخفض سقف المشتركة لتكون برامجها مطلبية وليست وطنية، وأعلن ايمن عودة في انتخابات مارس 2020 دعمه لغانتس الذي رفض هذا الدعم، فلماذا يلام منصور إذن؟ فموقف المشتركة إذن براغماتي وليس وطنيا، بل مبني على رد الفعل على الأحزاب الصهيونية، فالأولى أن يبحث زعماء الواقعية المطلبية عن تحالف يحقق لهم أوسع المطالب ضمن يهودية الدولة والمساواة النظرية أمام القانون. إن تصدع القائمة المشتركة قد أدى إلى عزوف الناخبين العرب عن المشاركة في الانتخابات، حيث انخفضت النسبة إلى نحو 42% مقابل 65% في انتخابات شهر مارس 2020 بزيادة 5% عن الانتخابات التي سبقتها في سبتمبر 2019. لقد نجح نتنياهو في شق الصف العربي في الداخل، الذي كان يمكنه أن يشكل رافعة وطنية لدعم النضال الفلسطيني بمجمله، ومدافعا عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وطليعة متقدمة لمجابهة عنصرية الكيان كونه يتحرك على أرض صلبة مسلحا بالحقائق والممارسات العنصرية اليومية.
رابعا – البوصلة الضائعة
في هذه الظروف التي نمر بها الآن، لا أحد يستطيع أن يجيب عن السؤال إلى أين نحن سائرون؟ ماذا تنتظر هذه القيادة التي تجاوزت فترة الصلاحية، وماذا تريد أن تحقق أكثر من بقائها على الكراسي؟ وهل لديها أي خطط أو رؤية للمستقبل؟ لماذا لا تراهن هذه القيادة التي عفا عليها الزمن إلا على الآخرين، إما الأمريكيين أو الاسرائيليين، أو المجتمع الدولي، أو الجامعة العربية؟ لماذا لا تراهن على شعبها؟ القيادة لا تريد مقاومة سلمية واسعة، ولا تريد حل السلطة وتسليم المفاتيح لنتنياهو كما أعلن مرة أبو مازن، وما دامت القيادة عاجزة الآن عن تحقيق أي إنجاز على طريق الدولة المستقلة إذن ماذا بعد؟ لا أحد يعرف.. لا أحد لديه إجابات. الأمور تسير على غير هدى، لقد فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها البوصلة فلا أحد يعرف أين تتجه الأمور. وسأحاول في مقالات لاحقة أن أتحدث عن البديل الوطني لعلنا نساهم في فتح نقاش واسع حول مصير قضية فلسطين.
عبدالحميد صيام
القدس العربي