في وقت لا تزال فيه الكثير من دول العالم تنظر للعملات الرقمية المشفرة والبتكوين (bitcoin) بشيء من الريبة والشك، وتوصف أصول المضاربة بهذه العملة -وفق الكثير من الخبراء الاقتصاديين- بأنها وسيلة للمجرمين وتجار المخدرات لنقل وتبييض الأموال، نظمت فرنسا المزاد العلني الأول والتاريخي يوم 17 مارس/آذار الجاري، لبيع 611 وحدة بتكوين.
وقالت جيسلين كاباندجي التي نظمت وأشرفت على المزاد ضمن دار مزادات “كاباندجي مورشينج”، في تصريحات إعلامية سابقة، إن “وكالة إدارة واسترداد الأصول المحجوزة والمصادرة هي التي استعادت وحدات البتكوين هذه من طرف الدولة التي تقوم بتصفية هذا الحجز القضائي”. ومع ذلك -وفقا للمعلومات التي نشرتها صحيفة لوبارزيان (leparisien) نقلا عن موقع نوميراما (numerama)- فقد تمت مصادرة الغالبية العظمى من عملات البتكوين هذه من فرنسيين متورطين في قرصنة منصة غاتهوب (Gatehub) عام 2019.
نيكولاس بيسوني، فأكد لبعض وسائل الإعلام أن “قاضي التحقيق الباريسي -وكجزء من تحقيق قضائي فتحه قسم الجرائم الإلكترونية بمكتب المدعي العام في باريس- عهد إلينا بأوامر صادرة بين مارس/آذار وسبتمبر/أيلول 2020، تفويض بيع 610 بتكوين، ويأتي بتكوين آخر من مصادرة نهائية”.
وبعد أن تم استرداد 611 بتكوين من قبل وزارة العدل، وتحت إشراف وكالة إدارة واستعادة الأصول المصادرة، تم تنظيم هذا المزاد الأول من نوعه والتاريخي في فرنسا، واجتذبت عملية البيع التي أجرتها دار المزادات “كاباندجي مورشينج” عبر الإنترنت أكثر من 1600 مشارك، معظمهم من الفرنسيين، وهناك أيضا بلجيكيون وبريطانيون.
جيسلين كاباندجي: وكالة إدارة واسترداد الأصول المحجوزة والمصادرة هي التي استعادت وحدات البتكوين هذه من طرف الدولة التي تقوم بتصفية هذا الحجز القضائي (رويترز)
وقالت مديرة المزاد “لقد أحسنا حين تريثنا وأخذنا وقتنا في التحضير للمزاد. فحينما بدأت الاستعدادات في سبتمبر/أيلول 2020، كان سعر البتكوين حول مستوى 10 آلاف دولار، بعيدا عن 55 ألف دولار التي حققتها خلال هذا الأسبوع”، مما وضع بيع 611 وحدة منها في مستوى مختلف تماما من حيث العائد.
وقد أقيم المزاد على مرحلتين، حيث قدم 437 عقدا من 0.11 إلى 2 بتكوين في الصباح، ثم 42 عقدا من 5 إلى 20 بتكوين في فترة ما بعد الظهر.
وبدأت المزايدة على الوحدات الأولى في الساعة التاسعة صباحا، وبِيع معظمها بحلول منتصف النهار مقابل 40 ألف يورو لكل بتكوين، وهو سعر قريب من سعر السوق العالمي البالغ 55 ألف دولار لكل عملة.
وبحلول نهاية فترة ما بعد الظهر، بلغت قيمة العطاء التراكمي 24 مليون يورو، أي 27.4 مليون يورو بإضافة الرسوم. و”الذي يتوافق مع سعر السوق لعملة البتكوين”، بحسب ما أكدت كاباندجي التي أضافت أن “كل شيء سار على ما يرام… لقد سجلنا أكثر من 100 من مقدمي العطاءات الناجحين، ولكن يجب القول إنه كان هناك 6 من كبار المشترين الذين تراكمت لديهم عدة عقود.. وبعد البيع، سننقل عملات البتكوين إلى حسابات المشترين”.
بينما ستذهب عائدات البيع -باستثناء عمولات دار المزادات- إلى ميزانية الدولة الفرنسية، أو الضحايا المحتملين أو المنظمات الخيرية.
وبحسب وكالة إدارة واسترداد الأصول المحجوزة والمصادرة، فإن هذا المزاد الأول ستعقبه مزادات أخرى في المستقبل، حيث تتوقع الوكالة جمع المزيد من عملات البتكوين من جيوب المجرمين.
كميل الساري: من أكبر إشكاليات هذه العملة الرقمية أنها لا تمتلك سندا ماديا على أرض الواقع (الجزيرة)
كيف ولدت ومتى ظهرت البتكوين؟
لعل من الأسئلة البديهية الأولى، هو: كيف ولدت هذه العملة الرقمية المشفرة؟ ومن أين تستمد قيمتها؟ وما السر في ارتفاع أصولها وقيمتها الجنوني كل يوم؟
حملنا هذه الأسئلة إلى الباحث الأكاديمي والخبير الاقتصادي كميل الساري الذي قال للجزيرة نت “في البداية لا بد من تدقيق أن هذه العملة الرقمية، هي عملة متنوعة ومتعددة، وليس هناك نوع واحد من هذه العملات، ولكن طبعا هناك أنواع معروفة وتتبادل وعندها صيت، وأشهرها طبعا البتكوين وأنواع أخرى غير معروفة”.
حقيقة البتكوين أنها عملة غريبة ولا يعرف من أين أتت أول مرة، ولكن يقال إن الشخص الذي كان وراءها ياباني، ولكننا لا نعرف شيئا عنه، ويقال إنه اسم مستعار. ولكن هذه العملة الرقمية محددة من الناحية الكمية، وهذا ما يعطيها مجالا للمناورات والمضاربات، وهو ما يكسبها زخما وقيمة أكبر وارتفاعا جنونيا. حيث إنه لو كانت هذه العملة موجودة وتتبادل بشكل طبيعي ومتوفرة بالشكل الكافي من حيث الكمية، لكانت قيمتها معتدلة وعادية.
ومن ناحية أخرى، هذه العملة هي نتيجة الوسائل الإلكترونية أو ما يسمى الأرضية الإلكترونية، ولذلك فهي مراقبة ويتحكم بها عن بعد، ولا يمكن لأي إنسان أن يدخل إليها دون مراقبة.
ويضيف الساري “لعل من أكبر إشكاليات هذه العملة الرقمية كونها لا تمتلك سندا ماديا على أرض الواقع. كل عملة تمتلك قيمة وسندا ماديا، فمثلا عملة الدولار لديها سند مادي واقعي وهو الاقتصاد الأميركي القوي الذي يملك كل مقومات الضمانة لعملة الدولار، فنحن حينما نشتري كمية معينة من الدولارات إنما نشتري جزءا من الاقتصاد الأميركي. وإضافة لذلك هناك ضمانة البنك المركزي الأميركي الذي يعطي هذه العملة قيمتها الحقيقية، ولذلك لا أحد يستطيع أن يقول إن عملة الدولار لا قيمة لها على أرض الواقع”.
ويضيف “عكس هذا كله، فإن عملة البتكوين الرقمية لا تملك قيمة حقيقية، أو ما أسميه أنا القيمة الباطنية. فمثلا الذهب له قيمة باطنية ولذلك كل الدول تحتفظ بمخزون معين من الذهب، لأنه يبقى هو الملاذ الأخير في الأزمات، وفي حال انهارت كل الاقتصادات يبقى مخزون الذهب هو الضامن الوحيد. كما العائلات التي تشتري الذهب وتحتفظ به لزمن الأزمات”.
ومن هنا تكمن أهمية القيمة الباطنية الواقعية للعملات الحقيقية، عكس عملة البتكوين الرقمية. ولكن لماذا هذا الطلب الكبير والمضاربات على البتكوين والعملات الرقمية، إنها سياسة العرض والطلب، بحسب المتحدث نفسه.
ومن هنا يمكن أن نفسر أن الارتفاع الكبير للبتكوين راجع إلى كثرة الطلبات العالمية عليها، في مقابل محدودية العرض والكمية المعروضة من هذه العملة في السوق.
الشركات المستثمرة
وعن أهم الشركات التي وراء عملة البتكوين والعملة الرقمية، أكد الخبير الاقتصادي كميل الساري أن البتكوين هي عملة كل الشركات التي ليست لها أصول على أرض الواقع، وليس لها اقتصاد واضح وشفاف.
وقال “بحسب رأيي، تبقى هذه العملة عملة تجار المخدرات والدعارة والإرهابيين والأثرياء الذين لا يريدون الإفصاح عن مصدر ثرواتهم. من هنا فأغلب من لديه أنشطة مشبوهة وغير معلن عنها وغير رسمية، يتاجر بالبتكوين”.
أما الباحث المتخصص في أسواق المال الخبير الاقتصادي دانيال ملحم، فقال للجزيرة نت “هناك نوعان من الشركات الذي تستثمر في البتكوين. شركات الاستثمار أو صناديق التحوط (المضاربة) مثل بلاك روك (BlackRock)، وغولدمان ساكس (Goldman Sachs) وغيرها، والتي وجدت في هذا المشتق المالي فرصة لتحقيق عوائد مهمة، مستفيدة من إغراق الأسواق في السيولة النقدية من قبل المصارف المركزية والشركات الصناعية مثل تسلا (Tesla)، ومن الممكن أن تلحق بها شركة آبل (Apple) التكنولوجية وغيرها من الشركات التي وجدت في هذه العملة فرصة ليس هدفها الأولي الاستثمار، بل حماية أصولها النقدية من مخاطر التضخم، لأن البتكوين هي العملة الوحيدة التي لا تتضمن تضخما، أيضا للاستفادة من خفض كلفة التحويلات المالية ومدتها الزمنية. وهناك شركات التكنولوجيا المالية مثل باي بال (PayPal) وفيزا (Visa) التي وجدت في البتكوين فرصة للتجدد وزيادة معروضها من الخدمات المالية، بالتالي زيادة عائداتها المالية”.
موقف رسمي حذر من العملات المشفرة
وعما إذا كان المزاد المنظم في فرنسا اعتراف رسمي من السلطات هناك بهذه العملات، أكد ملحم أن “بيع الأصول في المزاد العلني بفرنسا لا يعني اعترافا رسميا من قبل السلطات المالية الفرنسية، وعلى رأسها المصرف المركزي الفرنسي. هذه العملية لا تتعدى أن تكون عملية بيع أصول غير اعتيادية في مزاد علني”.
وأضاف “الاعتراف بالبتكوين عملة رسمية يأتي من المركزي الفرنسي أو المركزي الأوروبي، مع العلم أن إدارة الرقابة على أسواق المال الفرنسية أتاحت التعامل بالمشتقات المالية للعملات الرقمية، ومنها البتكوين. أعتقد أن من المبكر الحديث عن اعتراف رسمي، نظرا للتقلبات الحادة بأسعار هذه العملة مما يرفع مخاطره على المديين القصير والطويل”.
وبخصوص وجود إحصاءات رسمية عن حجم تداول هذه العملات المشفرة في فرنسا، والموقف الرسمي الفرنسي والأوروبي من تداول هذه العملات، قال الخبير الاقتصادي كميل الساري “حقيقة ليس لدينا أية إحصاءات دقيقة بخصوص هذه العملات، لأنها ليس لها معطيات حقيقية وأرقام على أرض الواقع، وليس لها مركز محدد مثل العملات المتداولة في البورصات العالمية”.
وأضاف “أعتقد أن الموقف الرسمي الفرنسي والأوروبي سيبقى دائما حذرا تجاه هذه العملات. ولكن ما أستطيع أن أؤكده هو أن الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي يفكر جديا في خلق عملة رقمية قوية”.
ملحم: بما أن البنك المركزي الأوروبي لم يعترف بالعملات الرقمية، فسيبقى التعامل على أساس أنها مشتقات مالية لا عملة رقمية (الجزيرة)
وأما مستقبل العملات الرقمية والبتكوين في فرنسا وأوروبا، خاصة بعد أن تم إطلاق عريضة مؤخرا على موقع مجلس الشيوخ على الويب لتغيير النصوص والسماح لبنك فرنسا بشراء العملات المشفرة والاستثمار فيها، أشار المحلل والخبير الاقتصادي دانيال ملحم إلى أنه طالما أن البنك المركزي الأوروبي لم يعترف بالعملات الرقمية مثل البتكوين عملة رسمية، فسوف يبقى التعامل بها فقط على المستوى الاستثماري الخاص عن طريق شركات أو صناديق تحوط، أي أن يبقى التعامل على أساس أنها مشتقات مالية لا عملة رقمية.
أما الدكتور كميل الساري، فأوضح للجزيرة نت أنه “لا توجد سلطات تدافع عن هذه العملة مثلما ما هو معمول مع بقية العملات، كاليورو الذي يدافع عنه البنك المركزي الأوروبي، والدولار الذي يدافع عنه البنك المركزي الأميركي، بينما ليس هناك بنك مركزي يدافع عن البتكوين في حال انهيارها. وهنا يكمن ضعف وخطر هذه العملة على أي مستثمر”.
وختم قائلا “هذه الخطوة البراغماتية من قبل الدولة الفرنسية، هي لمجرد المنفعة الحينية، وكأن السلطات الفرنسية تقول: من يود أن يستعمل هذه العملة ويضارب بها فهو حر، ويمكن للمضاربين استعمالها بشكل قانوني، ولكن الدولة لا تحمي المضاربين من الانهيار ولا تتحمل الخسارة في حال ما وقعت”.
مخاطر كبيرة للعملة الرقمية المشفرة
وعن خطر المضاربة الرقمية والتعامل بهذه العملات المشفرة، والتوصيف الذي يمكن أن نطلقه على سوق المضاربة هذا، وهل نحن أمام سوق واقتصاد مواز؟ وما التوصيف العلمي الدقيق؟ قال ملحم “بما أن الفضاء الإلكتروني تخطى محدودية الدولة ليصبح عالمي المفهوم، أعتقد أن العملات الرقمية والتكنولوجيا القائمة عليها هي مستقبل العلاقات الاقتصادية والتجارية المحلية والدولية، خصوصا إذا ما تبنت الدول هذه التكنولوجيا وأصدرت عملاتها الخاصة. وبالتالي يمكن للنظام الاقتصادي والتجاري العالمي الجديدين أن يتبنيا العملات العامة والخاصة، وأن تصبح البتكوين عملة محكمة (Arbitrage) كالذهب”.
وتابع ملحم أنه في انتظار هذه اللحظة والخطوة، تبقى للعملات الرقمية الحالية مخاطر جمّة تهدد وجودها، منها السياسات النقدية العالمية. حيث إن السياسات النقدية العالمية تغرق الأسواق بالسيولة النقدية التي تستفيد منها البنوك الاستثمارية وصناديق الاستثمار التي غالبا ما تبحث عن عوائد كبيرة، فتجد العملات الرقمية ضالتها، وكذلك التقلبات الحادة في الأسعار التي غالبا ما تتخطى 100% سنويا.
هذه المخاطر، كما تعطي عوائد مهمة، فإنها قادرة على إلحاق الخسائر الهائلة بحاملها. وأيضا هناك المخاطر التشغيلية، إذ إن أي عطل في الخوارزميات التي تقوم عليها العملة، أو إذا نسي مالك العملة كلمة مرور حسابه فإنه يخسر أمواله الرقمية، يضاف إلى ذلك خطر القرصنة الرقمية الذي يهدد الإيداعات.
ويختم ملحم بأن العملات الرقمية كما لها حسناتها، فإن لها أيضا العديد من المخاطر، فمن المبكر الحسم بمستقبلها في ظل الظروف الحالية على الرغم من أهميتها، خصوصا مع غياب الحلول الجذرية لبعض المخاطر الوجودية لهذه العملات.
المصدر : الجزيرة