إيران والصين.. انتصار أم انتحار؟

إيران والصين.. انتصار أم انتحار؟

المألوف عن الصين أنها في كل مواجهة في مجلس الأمن الدولي حول أي نظام حكم مارق يرتكب رئيسه الدكتاتور ألوانا من الجرائم ضد شعبه وجيرانه وضد الإنسانية، أن تجعل كل جلسة من جلسات المجلس ساحة سمسرة تَعقِد خلالها الصفقات، وتقوم فيها بتسلم الرشاوى، نقدا أو نفطا أو أشياء أخرى.

فقد اعتاد العالم على دعم الصين الدائم والمتشدد لأنظمة فاسدة دكتاتورية مجرمة لتمنع يد العدالة الدولية من المساس بها أو برؤسائها، فقط حين تجد فيها مصلحة من نوع ما بغض النظر عن المبادئ والقيم التي خلفها لها ماوتسي تونغ، وخصوصا إذا كانت الولايات المتحدة هي الساعية إلى معاقبة أحد تلك الأنظمة.

مناسبة هذا الكلام هو اتفاق الشراكة الإستراتيجية الذي عقدته الحكومة الإيرانية مع الصين، لمدة خمس وعشرين سنة.

ومما تسرب من مضمون ذلك الاتفاق يمكن القول إن النظام الإيراني قد اختار نهائيا ألا يقع فريسة في شبكة النظام المسيحي (الكافر) الأميركي الأوروبي، ولكن ليسقط فريسة في شبكة النظام (الكافر) الآخر، الشيوعي اللاديني الصيني. فقد قرر أن يهب نفسه للتنين الأصفر، ويرهن عنده الشعب الإيراني لربع قرن قادم من الزمان.

وقد كانت له سابقة مثلُها في سوريا. فحين عجز، بكل أمواله وأسلحته وضباط حرسه الثوري وجنوده وميليشياته، عن إنقاذ رقبة بشار الأسد من قبضة الشعب السوري لم يمانع من طلب النجدة من نظام “كافر” آخر، شيوعي روسي يديره ضابط مخابرات، ليجعل من نفسه ومن حليفه الدكتاتور بشار قطعتي شطرنج يُلاعب بهما الدب الروسي أنداده الأميركان والعرب الآخرين.

بعبارة أوضح، إن الاتفاق الأخير الذي وقعه النظام الإيراني مع الصين لا يمكن اعتباره تبادل مصالح بين دولتين سليما وعاديا كما يحدث دائما بين دول العالم المختلفة، وذلك لأنه تمّ بين دولة مهزوزة معزولة مريضة هي إيران، وبين فيل تجاري صناعي سياسي ضخم بكامل قوته وجبروته هو التمساح الصيني المتمرس في الاصطياد في مياه البرك الراكدة.

فدوافع النظام الإيراني معروفة، وتتلخص في “زنقته” المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وعزلته الخانقة، بعد أن خاب أمله في رفع قريب للعقوبات الأميركية عن بيعِه وشرائه، الأمر الذي لا يتحمل كلفة انتظاره سنة أخرى، أو سنوات، ودوافع الصين تجارية ونفطية وتوسعية دون ريب.

لقد علق سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأميرال علي شمخاني على تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن التي أعرب فيها عن قلقه من الاتفاق، فقال “إن قلق بايدن في محله تماما، فازدهار تعاوننا الاستراتيجي يُسرع أفول الولايات المتحدة”.

إذن فالنظام الإيراني يتخيل أن تكون الصين ذراعَه الدولية الضاربة التي تدخل معه في المواجهة السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية مع الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج العربي وتركيا. وهو وهم وقد يكون عمى بصر وبصيرة بلا حدود.

فإن للصين مصالح ضخمة هائلة في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج العربي وتركيا لا تجعلها تغامر بفقدان أي جزء منها.

نعم، قد تشجع الاتفاقية الجديدة نظام الملالي الإيرانيين على الامتناع عن التفاوض حول ملفها النووي. ولكنْ لهذا الامتناع أثمانٌ باهظة بالمقابل. فالولايات المتحدة وحليفاتها قد تختار المواجهة الحاسمة لمنع النظام الإيراني من امتلاك سلاح نووي، والصين أذكى من أن تقع في فخ من هذا النوع.

وقد حدث فعلا وعبر الرئيس الأميركي بايدن عن قلقه من الاتفاق.

شيء آخر. فحتى لو تقاعست دول المنطقة العربية عن الدخول في سباق نووي مع إيران، فإن تركيا أردوغان لن تتأخر عن ذلك، وربما بموافقة أميركية ومباركة إسرائيلية، لمواجهة الخطر الإيراني الجديد.

خصوصا وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منهمك أخيرا في تصفية عداواته السابقة العابرة مع مصر ودول الخليج العربي، والعودة إلى مغازلة إسرائيل. وهو ما يؤكد حتمية الاصطفاف التركي مع جبهة المواجهة السياسية والاقتصادية والأمنية الأميركية العربية الإسرائيلية مع النظام الإيراني، لعرقلة الاتفاق الأخير.

فبرغم ما ساد المرحلة السابقة، بين إيران خامنئي وتركيا أردوغان، من تهادن وتبادل مكاسب تجارية فإن الواقع الذي كان ومازال يحكم العلاقة بين الجمهوريتين الجارتين الكبيرتين للعراق وسوريا هو العداء المستحكم المخفي ذو الجذور التاريخية القديمة المليئة بالأحقاد القومية والطائفية التي لم تهدأ ولن تهدأ ولا تنام.

أردوغان يعلم علم اليقين أن الحرس الثوري الإيراني يدعم، سرا وعلانية، أعداءه المتمردين الأكراد، ويؤمّن لهم القواعد الآمنة في جبال قنديل في شمال العراق.

وبأن النظام الإيراني يدعم أحزابه العراقية ويُمكنها من فرض هيمنتها الكاملة على مفاصل الدولة العراقية، بينما تقدم تركيا كامل دعمها للقوى والتنظيمات والأحزاب السنية المعادية للوجود الإيراني.

وفي سوريا أقدم أردوغان على احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي في الشمال، ومازال يمنع جيش الأسد المدعوم إيرانيا وروسيا من تصفية المعقل الأخير للمعارضين الإسلاميين السوريين في محافظة إدلب.

وفي لبنان يدعم الرئيس التركي السياسيين اللبنانيين المعارضين لحزب الله الإيراني، ويتخذ الأتراك، بشكل أساسي، من مدينة طرابلس منطلقا لنفوذهم ومعقلا للتجمعات المعادية لإيران.

كما أن علاقات التقارب المتصاعد بين تركيا وباكستان، وبدعم كامل من الحكومات العربية السنية، تهدد بحرمان النظام الإيراني من حلم طريق الحرير الصيني.

أما الشيء الوحيد الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة فهو أن إسرائيل هي الرابحة الأكبر في هذه المعمعة. فهي تعلم بأن الاتفاق الصيني – الإيراني الأخير قد وضعها في مركز القيادة في جبهة الحلفاء المتفقين على التصدي لخطر الإيرانيين في المراحل القادمة، وهو ما جناه المرشد علي خامنئي، ومن قبله الخميني، على شعبه وعلى شعوب المنطقة العربية وعلى فلسطين، عمدا أو غباء. والله أعلم.

العرب