تكتيكات داعش الجديدة: خلايا عائلية للتمدد في إندونيسيا

تكتيكات داعش الجديدة: خلايا عائلية للتمدد في إندونيسيا

بدأ تنظيم داعش في تغيير استراتيجياته العسكرية التي كان يتبعها سابقا، وذلك عبر تجنيد خلايا إرهابية أصغر حجمًا، فضلًا عن الاعتماد على ما يُعرف بـ”الخلايا العائلية” المشكّلة من بعض الأسر التي يتبنى أفرادها الأفكار الإرهابية في محاولة لتعزيز قوته والظهور مجدداً عبر اختراق إندونيسيا وتكثيف عمليات التجنيد داخلها.

تنفذ فصائل مسلحة موالية لتنظيم داعش في إندونيسيا جملة من التكتيكات المبتكرة على الأرض للإفلات من القبضة الأمنية الصارمة، في محاولة منها لتأمين نجاح عملياتها الإرهابية، وذلك بهدف فرض نفسها على التوازنات الجديدة عقب حظر العديد من الكيانات المتشددة في البلاد.

وتصدّر هذا النشاط مؤخرًا تنظيم أنصار الدولة الذي أعلن مبايعته لداعش عام 2016 وينوع في تكتيكاته بين تنفيذ هجمات مخططة على مستوى فردي باستخدام خلايا إرهابية أصغر حجمًا، فضلًا عن الاعتماد على ما يُعرف بالخلايا العائلية المشكلة من أفراد داخل الأسرة الواحدة.

ويوظّف تنظيم أنصار الدولة شبابا وصبية صغارا في تنفيذ الهجمات، إضافة إلى إشراك العنصر النسائي، ما جعل اكتشاف تلك الهجمات على مدار السنوات الماضية في الوقت المناسب أمرًا صعبًا، وهو ما مكّنه من لعب دور بارز خلال هذه المرحلة في مشهد الإرهاب في إندونيسيا.

وبعد أن نفذت خلية عائلية مصغرة تابعة للتنظيم مشكّلة من زوجين تزوجا حديثًا هجومًا انتحاريًا باستخدام دراجة نارية مفخخة على كاتدرائية مدينة ماكاسار أكبر المدن في إندونيسيا الشرقية والواقعة على جزيرة سولاويسيما أوقع عشرين قتيلًا مسيحيًا مؤخرا، شن عنصر تابع للتنظيم هجومًا عندما اقتحم المقر العام للشرطة الإندونيسية في جاكرتا مطلقًا وابلًا من الرصاص.

بالنظر إلى نشاطات الفصائل الثلاث الموالية لداعش في إندونيسيا خلال الأعوام الخمسة الماضية وهي: أنصار الخلافة ومجاهدو إندونيسيا الشرقية وأنصار الدولة، نجد حيازة فصيل أنصار الدولة الذي يُعدّ أقواهم وأكثرهم نفوذًا النصيب الأكبر من تنفيذ العمليات الإرهابية النوعية التي جرى التخطيط لها لإحداث صدى يلفت لحضور التنظيم بقوة في إندونيسيا.

ويحاول التنظيم إيجاد موطئ قدم له في البلاد من خلال جملة من الممارسات، وفي مقدمتها استهداف المسيحيين لخلق حالة صراع طائفي، واختراق الحالة الجهادية والإسلامية في إندونيسيا لتكثيف عمليات التجنيد من داخلها.

يكمن العامل المشترك بين العمليات التي نفذها تنظيم أنصار الخلافة منذ العام 2016 وصولا إلى العمليتين الأخيرتين هذا العام، في الحرص على البقاء في صدارة مشهد الإرهاب عبر عمليات تتكرر بين الحين والآخر لا يصيبها الفتور والتوقف، فضلًا عن صبغها بما يحقق الدور الدعائي الخارجي، وهو ما يظنه المخططون لعمليات التنظيم كفيلًا بفتح أبواب الاستقطاب والتجنيد من خارج إندونيسيا أو من داخل الحالة الإسلامية والجهادية عموما في البلاد المفككة، والتي تعاني إحباطات ما بعد الحظر وترزح تحت وطأة التضييق الأمني.

أنصار الدولة لجأ إلى نمط العائلة في تنفيذ الهجمات على الكنائس وغيرها من الأهداف لتجنب الوقوع في فخ تصفية التنظيم

ففي يناير 2016 استهدف التنظيم عبر سلسة تفجيرات مكتب الأمم المتحدة في العاصمة جاكرتا ما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، وفي مايو من العام التالي نفذ زوجان وأربعة من أطفالهما هجمات انتحارية بفي ثلاث كنائس ما أدى إلى مقتل اثني عشر شخصًا، بعدها مباشرة نفّذ أربعة من عناصر التنظيم هجومًا مشتركًا ضد حاجز أمني باستخدام سيارة وسط مدينة سومطرة. وفي مايو 2018 نفذت عائلة مكونة من خمسة أفراد هجومًا انتحاريًا بأحزمة ناسفة ضد ثلاث كنائس بمنطقة سورابيا أوقع العشرات من القتلى والجرحى. وقامت عائلة أخرى بهجوم ضد مركز شرطة المدينة ما أدى إلى إصابة العديد من رجال الشرطة ومقتل أفراد العائلة ما عدا طفلة تبلغ ثمانية أعوام.

ونجا وزير الداخلية الإندونيسي ويرانتو في أكتوبر 2019 من محاولة اغتيال عندما طعنه شاب في الثلاثين من عمره وهو أحد أعضاء تنظيم أنصار الدولة في مدينة بانديجلاند في جاوا الغربية.

مضت العمليات بنفس الوتيرة وبذات التكتيكات خلال العام الماضي عبر الهجوم على قرية تقطنها أغلبية مسيحية في جزيرة سولاويسي الوسطى وجرى خلاله ذبح أربعة مسيحيين وحرق كنيسة القرية وستة منازل، فيما تنوعت العمليات وتضاعفت مع نهاية العام 2020 وبدايات العام 2021 بين استهداف قادة أمنيين ومراكز شرطة ودور عبادة مسيحية.

ويتبين من خلال هذا التسلسل العملياتي حرص تنظيم أنصار الدولة الموالي لداعش، والذي يضم تحالف 24 جماعة تكفيرية منشقة، مراكمة الانطباعات لدى طيف الإسلاميين والجهاديين في إندونيسيا أو في محيطها الإقليمي للإيحاء بأنه صار الرقم الأول في المعادلة الجهادية في جنوب شرق آسيا.

وقال الخبير الأمني أسعد سعيد وكيل جهاز المخابرات الإندونيسي الأسبق في تصريح خاص لـ”العرب” إن الدافع وراء تلك العمليات المتسلسلة التي تستهدف الكنائس ونقاط الأمن هو إثبات الحضور من قبل خلايا تنظيم أنصار الدولة ككيان قادر على الانتقام والتعويض نيابة عن الفصائل الجهادية الأخرى التي فشلت في تحقيق أهداف شبيهة.

تبنى تنظيم أنصار الدولة الذي يقوده أمان عبدالرحمن الغسلامي، والمحكوم عليه بالإعدام لتورطه في التخطيط لهجمات دامية في جاكرتا وقعت في يناير 2016، أساليب وتكتيكات جديدة لتحقيق أهداف سعت لها تنظيمات سابقة ومعاصرة باستخدام وسائل أخرى.

وأمان عبدالرحمن المعروف أيضا باسم عمان روشمان أو أبوسليمان سوداني الأصلولد عام 1972.

وتعتبر تفجيرات الكنائس وسيلة قديمة اعتمدتها الجماعة الإسلامية خاصة الجناح الموالي للقاعدة داخلها، أما الجديد فهو استحداث أنصار الدولة لنمط العائلة الكاملة في تنفيذ الهجمات، فمنفذو العملية الواحدة هم أفراد من عائلة واحدة، بحيث تبدأ العملية وتنتهي عند حدود تلك العائلة دون أن تتمكن أجهزة الأمن من تتبع امتداداتها وارتباطاتها الحركية.

و الأجهزة الأمنية في السابق من تقويض نشاطات مماثلة لجماعات جهادية مسلحة من خلال اختراق الهيكل الحركي للتنظيم وتكثيف الضربات الأمنية التي أحدثت الانشقاقات التي قادت في النهاية إلى معرفة رؤوس التنظيم ومدبري العمليات ومموليها.

وظهر ذلك في النجاح السريع الذي حققته الأجهزة الأمنية الإندونيسية في أعقاب تنفيذ الجماعة الإسلامية هجمات أمبون الطائفية بترتيب خطة الهجوم المتزامن على الكنائس في جميع أنحاء إندونيسيا فيما عرف إعلاميًا بتفجيرات أعياد الميلاد في ديسمبر من العام 2000، عندما حيدت الأجهزة الجناح المرتبط بالقاعدة داخل الجماعة بقيادة حنبلي (رضوان عصام الدين) وصولًا إلى إضعاف موقف قادته والتمكن من القبض عليهم أو القضاء عليهم.

ولجوء تنظيم أنصار الدولة إلى نمط العائلة في تنفيذ الهجمات على الكنائس وغيرها من أهداف الغاية من ورائه عدم الوقوع في فخ تصفية التنظيم وتقويضه بعد تنفيذ الهجمات عبر تتبع تسلسله الحركي العنقودي وصولًا إلى القيادات والمخططين والممولين؛ فالعائلة في هذه الحالة هي التنظيم وعائلها هو قائدها، ولا مجال للتوصل لمخططين أو ممولين ومدبرين خارج نطاق العائلة التي غالبًا ما يموت أفرادها أثناء تنفيذ العملية الإرهابية.

أتاح هذا التكتيك للتنظيم، ليس فقط الاستعصاء الأمني من جهة قطع خيط التسلسل التنظيمي عند حدود العائلة المخططة والمنفذة للعملية، وإنما أيضًا من جهة التمكن من التواجد وإثبات الحضور في المدن الكبيرة مثل العاصمة جاكرتا ومدينة سورابايا التي تعد ثاني أكبر مدن إندونيسيا، وهو ما لا تحظى به فصائل أخرى تعتمد على التكتيكات القديمة التقليدية حتى تلك الموالية لداعش، حيث تحاصرها قوات الجيش والأجهزة الأمنية بالمناطق النائية والغابات.

وقال مصعب مقدس الباحث الإندونيسي في شؤون الحركات الإرهابية إن تكتيكات تنظيم أنصار الدولة المبتكرة – خاصة تلك المتعلقة بنمط العائلة الواحدة – سمحت له بإعلان وجوده وممارسة نشاطاته الإرهابية داخل المدن، بعكس فصيل إرهابي آخر موال لداعش مثل جماعة مجاهدي إندونيسيا الشرقية والذي لا تقدر عناصره على الخروج من الغابات في محافظة سولاويسي الوسطى حيث تحاصرهم عناصر من مكافحة الإرهاب بجهاز الشرطة وعناصر من القوات الخاصة بالجيش الإندونيسي.

وأكد مقدس في تصريح خاص لـ”العرب” على مسؤولية تنظيم أنصار الدولة عن العمليات الأخيرة، ويهدف بذلك إلى مضاعفة نفوذه واستقطاب عناصر جديدة وتجنيدها، فضلًا عن سعيه للثأر من الحكومة الإندونيسية، خاصة بعد العملية الأمنية التي جرت في أواخر يناير الماضي والتي أدت إلى القبض على عدد من قادة التنظيم وعناصره عقب مواجهة مسلحة وتبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن بمحافظة سولاويسي الجنوبية.

الإلحاح من قبل تنظيم أنصار الدولة على استخدام تكتيك نمط العائلة الواحدة في تنفيذ الهجمات جعله الأقرب بين مختلف الفصائل المبايعة لداعش في البلاد لجذب عناصر من داخل الأحزاب السياسية الشعبوية التي جرى حظرها في إندونيسيا وحرمانها من العمل السياسي المعلن.

وبعد أن استفادت الحالة الجهادية في إندونيسيا من زيادة مدّ أسلمة المجتمع بجهود سنوات طويلة قضتها أحزاب وكيانات تعتنق الأفكار التكفيرية وتتبنّى المشاريع الأممية العابرة للحدود، مثل حزب التحرير الذي جرى حظره في العام 2017، ضاعفت الفصائل الجهادية المسلحة من الاستفادة بعد حظر تلك الأحزاب من خلال تكريس بعض القناعات المستوحاة من مناهج وأفكار الأحزاب المحظورة وجعلها نمطًا متبًعا داخلها.

استوحى تنظيم أنصار الدولة نمط العائلة الواحدة في تنفيذ الهجمات وما يُعرف بالجهاد الأسري من المناهج التربوية لحزب التحرير الذي اعتمد في الأساس على انضمام أسر بكاملها ومشاركة أفرادها في فعالياته، معتبرًا ذلك من قبيل قتال الكافرين كافة وفق تصوّراتهم الخاصة للآيات القرآنية، وهو ما أوصله إلى مستوى واسع من الحضور والنفوذ في المدن الرئيسية وفي العديد من المؤسسات والجامعات.

ولاقى إسناد مهام تنفيذ العمليات للعائلة الواحدة انجذابًا وقبولًا من عناصر حزب التحرير التي نشأت على هذا المنهج، وهو ما يفسر انضمام العديد من شباب الحزب المحظور إلى تنظيم أنصار الدولة.

يراهن تنظيم أنصار الدولة على اختراق الحالة الجهادية في إندونيسيا عبر تأجيج الاستقطاب مجددًا بين فصائلها بشأن الخلاف القديم بين أجنحتها حول مباشرة صراع مسلح ضد المسيحيين في إندونيسيا من عدمه.

واستغل جناح داخل الجماعة الإسلامية التي أعلنت مبايعتها لداعش في العام 2014 صراعًا طائفيًا بين مسلمين ومسيحيين بدأ عام 1999 وراح ضحيته ستة آلاف شخص في جزيرتي أمبون وساباروا شرقي جاكرتا، منفذًا أشهر عمليات الجماعة إلى جانب تفجيرات جزيرة بالي وهي تفجيرات أعياد الميلاد في ديسمبر عام 2000 التي استهدفت كنائس في العديد من مدن إندونيسيا في وقت واحد منها جاكرتا وباندونج وباتام وبيكانبارو وغيرها.

ورفضت أجنحة أخرى داخل الجماعة استهداف الكنائس على اعتبار أن المشكلة محلية الطابع خاصة بمنطقة أمبون ولا تستدعي التوسع في القيام بأعمال ثأرية طائفية تشمل جميع أنحاء إندونيسيا.

وأحيا تنظيم أنصار الدولة مؤخرًا هذا الجدل لتنشيط حالة الاستقطاب داخل الفصائل الجهادية في ضوء المستجدات التي تشهدها الساحة، خاصة المتعلقة بمبايعة العديد من الفصائل الإندونيسية لتنظيم داعش.

تنظيم الدولة يجند شبابا وصبية صغارا في تنفيذ هجماته، إضافة إلى العنصر النسائي، ما جعل اكتشاف تلك الهجمات أمرًا صعبًا

فنقل قناعات التنظيم وتصوراته التي طبقها في بلدان الشرق الأوسط والمنطقة العربية إلى دول جنوب شرق آسيا، ما من شأنه إضعاف الأجنحة الرافضة للتوسع في الصراع الطائفي واستهداف المسيحيين ودور عبادتهم في إندونيسيا بهدف تهيئة الأرضية هناك لداعش تمهيدًا لما يُطلق عليه عناصره “الخلافة البعيدة”.

ويخطط تنظيم أنصار الدولة الموالي لداعش في إندونيسيا لاستغلال الفرصة المواتية بعد انتكاسة تيار الإسلام السياسي والفصائل الجهادية في المنطقة العربية ليصبح جنوب شرق آسيا وجهة مثالية ومفضلة للإرهاب العالمي ومركزًا بديلًا لخلافة داعش، بالنظر إلى مؤهلاتها البشرية الضخمة ولقابليتها للتوظيف الطائفي.

ويراهن قادة أنصار الدولة بغرض تحقيق أهدافهم في الساحة الإندونيسية على حرص تنظيم الدولة على توسيع نفوذه في أفغانستان وتكريسه من خلال تأمين ما يسند نشاطه هناك في دول جنوب شرق آسيا، مثل إندونيسيا وماليزيا والفلبين، حيث تنتشر قناعة بين الجهاديين مفادها أن الفائز في النهاية بأفغانستان هو من يقدر على الهيمنة على عمقه الاستراتيجي والجغرافي في الدول الآسيوية التي لعبت دورًا مشابهًا في السابق كعامل إسناد ودعم لحضور القاعدة ونفوذها في أفغانستان.

العرب