استقرار محافظة الأنبار يمنح الولايات المتحدة فرصة استخدام قوّتها الناعمة لكسب معركة النفوذ في العراق

استقرار محافظة الأنبار يمنح الولايات المتحدة فرصة استخدام قوّتها الناعمة لكسب معركة النفوذ في العراق

ما تشهده الفلوجة والرمادي المدينتان الرئيسيتان في محافظة الأنبار من إشعاع مفاجئ بعد فترة وجيزة نسبيا من انتهاء حرب داعش الدامية والمدمّرة، يلفت الانتباه لفاعلية الحكم المحلّي في العراق وقدرته على تجاوز ثقل السلطة المركزية وفسادها، وهو بالنسبة إلى الولايات المتحدة فرصة لتجديد الرهان على المجتمعات المحلية العراقية لمدّ نفوذ أقوى وأكثر رسوخا عبر تسخير قوّتها المالية وقدراتها الاستثمارية في دعم استقرار تلك المجتمعات ومساعدتها على الازدهار.

واشنطن – تتيح حالة الاستقرار النسبي في مناطق غرب العراق وشماله، وملامح التنمية العائدة على استحياء إلى محافظة الأنبار بعد سنوات الحرب الدامية ضد تنظيم داعش، للولايات المتّحدة فرصة الحدّ من التعويل على القوّة العسكرية لتركيز موطئ قدم لها في تلك المناطق ذات القيمة الاستراتيجية العالية، والتعويل بدلا من ذلك على القوّة المالية لملء الفراغ الاستثماري والتنموي هناك وتشجيع الحكم المحلّي الذي كان دائما موضع اهتمام استثنائي أميركي.

وتضع هذه الوصفة التي اقترحها باحث أميركي بين يدي الولايات المتّحدة أداة فعّالة لمواصلة خوض الصراع ضدّ إيران للتحكّم بمناطق الربط بين العراق وسوريا، حيث تعوّل طهران على نشر الميليشيات الشيعية الموالية لها في تلك المناطق، بينما لم تنقطع واشنطن عن محاولتها فرض رقابة مستمرة على تحرّكات الميليشيات في تلك المناطق من خلال الإبقاء على حدّ أدنى من الوجود العسكري هناك.

ورصد مايكل روبين الباحث بمعهد أميركان أنتربرايز رغبة قوية ومحاولة جادّة من قبل المجتمع المحلّي في الأنبار لإعادة إطلاق عملية تنموية تتجاوز التلكؤ والفساد اللذين يميّزان الحكومة الاتّحادية، ما يعني أن لدى الولايات المتّحدة فرصة جديدة لربط علاقة وثيقة بذلك المجتمع عبر الزج بالقدرات المالية والاستثمارية الأميركية في المحافظة.

وقال الباحث في تقرير له حول زيارة قام بها إلى مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار إنّ هناك مناطق في العراق تبدّل حالها كثيرا عمّا كانت عليه منذ حوالي سبعة عشر عاما ومن أبرزها المدينة المذكورة التي تقع غربي العاصمة بغداد وتبعد عنها بحوالي 108 كيلومترات.

وكانت علاقة مضطربة ومتوتّرة قد ربطت بين القوات الأميركية والمناطق السنية في غرب العراق والتي رفضت التسليم بالغزو الأميركي للبلاد كأمر واقع وحاولت التصدّي له.

ويورد التقرير الذي نشرته مجلة ناشونال أنتريست نماذج عن تلك العلاقة الصدامية حيث يقول إنّه منذ سبعة عشر عاما كان الطريق إلى الرمادي من مدينة أبوغريب بمحافظة بغداد مرورا بالفلوجة من بين أخطر الطرق في العراق. ففي الـ12 من فبراير عام 2004 أطلق من وصفهم روبين بالمتمردين قذائف صاروخية على قافلة كانت تقل الجنرال جون أبازيد قائد القيادة المركزية الأميركية في ذلك الوقت والميجور جنرال تشارلز سواناك قائد الفرقة 82 المحمولة جوا في الفلوجة.

وفي وقت لاحق من ذلك الشهر هاجم المسلحون ثلاثة مراكز شرطة في وقت واحد وأطلقوا سراح نحو 100 سجين. وبحلول مارس من العام نفسه كان المسلّحون قد عززوا سيطرتهم على الفلوجة. وأصبحت الهجمات ضد القوات الأميركية والقوات العراقية المتحالفة معها تحدث يوميا في المدينة، وكذلك الأمر في الحبّانية المجاورة وفي الرمادي. وفي الـ31 من الشهر نفسه نصب المسلحون كمينا لقافلة تابعة لشركة بلاك ووتر الأمنية وأشعلوا النار في أفرادها، وسحلوا الجثث عبر الشوارع.

وبعد ذلك بأسبوع حاصرت القوات الأميركية المدينة لكن بعد 24 يوما أنهى جيمس كونواي قائد مشاة البحرية الحصار ونقل السلطة لما يسمى بلواء الفلوجة، الذي لم يستطع السيطرة على الأوضاع. ومع نهاية العام عادت القوات الأميركية و”سوّت الفلوجة بالأرض”. وعانت المدينة كثيرا بعد ذلك.

لكن كل ذلك تغيّر اليوم وبات بإمكان الولايات المتّحدة إقامة علاقة مختلفة تماما مع المجتمع والحكومة المحلّيين في الأنبار إذ أصبحت الفلوجة والرمادي، حسب روبين، مدينتين مختلفتين تماما والطرق التي تربط بينهما من أفضل الطرق في العراق والاهتمام بمظهرهما واضح للغاية وفي كل يوم تظهر شركات جديدة وقام السكان بإعادة بناء مساكنهم وتزدهر الجامعات المحلية ويتباهى سكان الرمادي بأن مدينتهم سوف تشهد في القريب العاجل إقامة أول فنادق من صنف خمسة نجوم في العراق. ويعترف العراقيون من خارج المنطقة بأن محافظة الأنبار هي المنطقة الأكثر أمنا بعد كردستان العراق وأنها تتقدم سريعا.

ويتفاخر سكان الأنبار وهم محقون في ذلك، بحسب روبين، بأنهم حققوا نهضتهم بقدر ضئيل من المساعدة الخارجية. فالحكومة العراقية مازالت مقيدة ببيروقراطيتها وعجزها وافتقارها إلى المال. ويُرجع كثيرون من سكان الأنبار الفضل فيما حققوه لمحافظهم علي فرحان الدليمي ونخب شيوخ القبائل ورجال الأعمال لتعاونهم فيما بينهم وتحقيق ما لم تستطع ولن تستطيع بغداد تحقيقه.

وموضع اهتمام الباحث الأميركي في كلّ ذلك هو الحكم والمجتمع المحليين اللذين يصفهما بأنّهما “أمر مهم”، مجريا مقارنة بين الرمادي والفلوجة اللتين تشعّان بقوّة والموصل مركز محافظة نينوى التي ما تزال أغلب أجزائها مهدّمة وقد تم إلقاء القبض العام الماضي على محافظها السابق نوفل العاكوب لدوره في مخطط فساد واختلاس بقيمة عدة ملايين من الدولارات.

ويضيف روبين أن الرمادي تظهر ما هو ممكن في العراق. ففي الوقت الذي ساهم فيه مواطنو المدينة في إحيائها، يحقق المستثمرون الأجانب في العراق غالبا أرباحا كبيرة. فمواطنو هذا البلد شباب إذ أن أكثر من 40 في المئة من السكان ولدوا بعد حرب 2003 والسوق في حالة توسع.

وأوضح روبين أنه بعد لقائه بعدد كبير من الأكاديميين وشيوخ القبائل والسياسيين في الرمادي اتفقوا جميعا على شيء واحد وهو أنه حان الوقت لأن تغير الولايات المتحدة مسارها وأن تعطي الأولوية لقطاع الأعمال.

ويرى الباحث أنّ هؤلاء محقّون في ذلك إذ أن المساعدات الأميركية للعراق يتم استهلاكها بدل استثمارها وتتحوّل إلى عمل مشجّع على الفساد والحدّ من المساءلة، لكن استثمار القطاع الخاص مختلف فهو يبقى لفترة أطول ويفيد كثيرا من الأشخاص ويوفر الحوافز للاستقرار المحلي ويعزز المشاركة الدولية السلمية.

ويفوق مفعول الاستثمار وتمويل التنمية في العراق ما يمكن أن تقوم به الدبلوماسية بحدّ ذاتها، فبينما يقوم الرؤساء ووزراء الخارجية الأميركيون بملء طائراتهم بالصحافيين والمساعدين، يملأ الرؤساء الآخرون طائراتهم برجال الأعمال.

ويقول روبين إن إدارة بايدن متباطئة في انتهاز الفرصة وأن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان كتب مقالا أثناء الحملة الرئاسية قال فيه إنّ “الدبلوماسية يمكن أن تنجح في ما فشلت فيه القوة العسكرية”.

وفي حقيقة الأمر كان مقاله للاستهلاك المحلي بدرجة كبيرة. فالأمر لا يقتصر على الدبلوماسية والقوة العسكرية، فقد تجاهل أهم قوّة للولايات المتّحدة وهي القطاع الخاص.

وأشار روبين إلى أنّ الولايات المتحدة والعراق أصدرا في السابع من أفريل الجاري بيانا مشتركا بعد مناقشات حول حوارهما الاستراتيجي الثنائي. ورغم أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره العراقي فؤاد حسين أكدا على “الشراكة الاقتصادية القوية بين الدولتين، إلا أنّهما لم يقدما أيّ تفاصيل بخلاف تسهيل نظام التأشيرات بالنسبة إلى العراق “لتعزيز التجارة والاستثمار الدوليين”.

واختتم روبين تقريره بالقول إنه إذا كان بلينكن وسوليفان يريدان فعلا إظهار نموذج جديد للدبلوماسية الأميركية، فإنه يتعين عليهما تجاوز البيانات الرسمية وتشجيع الاستثمار الجاد في العراق وفقا لطاقة كل محافظة عراقية.

العرب