بدت الإصابة في منشأة تخصيب اليورانيوم في نطنز أمس كتخريب مقصود أكثر مما هي خلل، كما زعم في البداية. لم تفصل منشورات في إيران وخارجها حجم الضرر اللاحق بالمنشأة الحساسة التي أصيبت للمرة الثانية في غضون أقل من سنة.
بفرض أن التقارير عن التخريب صحيحة، يمكن التقدير بأن الضرر اللاحق بها كفيل بأن يكون ذا مغزى. عملية معقدة كهذه، إلى جانبها مخاطرة كبيرة، لا تنفذ على عجل، ولا أيضاً بهدف الوصول إلى إصابة هامشية فقط. فلما كانت تحتاج إلى استثمار استثنائي في الإعداد وفي التنفيذ، فمعقول أن يكون الإنجاز المطلوب، على الأقل، هو إصابة شديدة تحرمها من قدرتها لفترة زمنية طويلة.
هكذا كان في حالتين سابقتين أصيبت فيهما منشأة نطنز: الأولى في عملية نسبت لتعاون إسرائيلي – أمريكي قبل نحو عقد، وتسبب فيها فيروس الحاسوب “ستاكسند” إلى انهيار أجهزة الطرد المركزي ومنع تخصيب اليورانيوم على مدى بضعة أشهر، والثانية في انفجار كان في السنة الماضية في مصنع إنتاج أجهزة الطرد المركزي المتطورة في نطنز، والذي تضرر بشدة وأخرج عن نطاق العمل.
قد تتضح تفاصيل التخريب في غضون وقت قصير. وقوات الأمن الإيرانية أغلقت المنطقة وزعم أن الموضوع قيد التحقيق، ولكن هذه منشأة يعمل فيها آلاف الأشخاص وكل ما يجري فيها مصور ومراقب 24/7 من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. قد تكون لإيران نفسها مصلحة في نشر التفاصيل إذا ما قررت توجيه إصبع اتهام نحو جهة ما مسؤولة عن التخريب.
عدم تحمل المسؤولية
المشبوه الفوري في هذا السياق هو إسرائيل، وللدقة: الموساد – الذي سبق أن أثبت قدرة مبهرة على العمل ضد أهداف مختلفة في قلب إيران. ولا تنقص الشواهد على ذلك. فقد أخذت إسرائيل المسؤولية عن بعض قليل منها (سرقة الأرشيف النووي)، وليس عن معظمها، ولكن نسبها الآخرون لها (من الانفجار السابق في نطنز وتصفية مدير المشروع النووي محسن فخري زادة، وحتى تصفية مسؤول كبير في القاعدة وسلسلة أخرى من العمليات).
وروت منشورات مختلفة بأن أعمال الموساد هذه (وأخرى، مثل تصفية رجال حماس في تونس وماليزيا) نفذها مبعوثون. يدور الحديث عن أسلوب عمل ناجع وآمن نسبياً. بفرض أن المسافة اللازمة بين المسؤولين (الإسرائيليين) والمنفذين (الأجانب)، تبقى حتى لو فشلت العملية وأمسك بالمنفذين، فسيكون من الصعب الربط بينهم وبين من بعثهم.
إذا كانت إسرائيل بالفعل مسؤولة عن التخريب في منشأة التخصيب، فقد يكون التقرير رفع بالتوازي إلى الأمريكيين. وفي الأسابيع الأخيرة أبدت الإدارة الأمريكية في واشنطن استياء متعاظماً في ضوء النشاط الإسرائيلي ضد إيران، ولا سيما في الساحة البحرية. وأدى الأمر إلى سلسلة تسريبات لمعلومات حساسة عن بعض العمليات إلى وسائل الإعلام الأمريكية، أغلب الظن بهدف الإشارة إلى إسرائيل بأن الولايات المتحدة غير معنية بأن تعرقل إسرائيل محاولاتها فتح صفحة جديدة مع طهران.
ليس واضحاً كيف سترد إدارة بايدن على التخريب الحالي الذي يأتي في توقيت حساس بعد بضعة أيام من استئناف المحادثات بين إيران والقوى العظمى. في خطابه أمس، فور وصوله إلى زيارة عمل أولى في إسرائيل، امتنع وزير الدفاع الأمريكي الجديد لويد اوستن عن أي تناول للمسألة الإيرانية، ولكن لا شك بأن الموضوع كان على رأس جدول أعمال المحادثات المغلقة التي أجراها مع نظيره، بيني غانتس، ومع مسؤولين آخرين في الحكومة وفي جهاز الأمن.
في هذه المحادثات تطلب إسرائيل أولاً وقبل كل شيء التنسيق مع الإدارة الجديدة في المسائل الاستخبارية في كل ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. أما المرحلة التالية فهي الجدال على تفاصيل الاتفاق حين تكون إسرائيل معنية بإدخال تعديلات على الاتفاق الأصلي الموقع في 2015. وتنطبق الأمور أساساً على موعد نفاد الاتفاق، وكذا على المسائل المتعلقة بالرقابة الدولية على البرنامج النووي الأخير وعلى مسائل مختلفة ترتبط بالبحث والتطوير في مجالات النووي.
تعارض إيران كل تغيير في الاتفاق النووي الأصلي، وتطالب بأن تتضمن كل عودة إليه رفعاً تاماً وغير مشروط للعقوبات الأمريكية التي فرضت عليها. بل واتخذت طهران في الأشهر الأخيرة سلسلة خطوات استفزازية وخرقت علناً الاتفاق الأصلي الذي وقعت عليه. وجمعت إيران كمية أكبر بكثير مما هو مسموح لها من اليورانيوم المخصب لدرجة متدنية بنسبة 4.5 في المئة، بل وبدأت بتخصيب اليورانيوم إلى مستوى متوسط من 20 في المئة. وأفادت إيران أول أمس بأنها نصبت أجهزة طرد مركزي متطورة محظورة الاستخدام، وفق الاتفاق، في منشأة نطنز التي أصيبت أمس.
من غير المعقول أن يكون التخريب أمس رد فعل فوري على هذه الخروقات الإيرانية، وعلى رأسها تفعيل أجهزة الطرد المركزي المتطورة. وكما أسلفنا، فإن عمليات من هذا النوع تتطلب زمناً وإعداداً دقيقاً. وإذا كانت هذه عملية مقصودة كما ألمحت أمس جملة من وسائل الإعلام، وإذا كانت إسرائيل والموساد المقصودين فقد كانت النية إطلاق رسالة مزدوجة بوساطتها: الأولى مادية – التسبب بتخريب حقيقي يعيق البرنامج النووي الإيراني، والثانية بالوعي – الإثبات بأن إيران مخروقة وهشة، وإشارة إلى العالم بأن إسرائيل ستواصل الدفاع عن مصالحها الحيوية بنفسها.
تعيد هذه التطورات الكرة إلى الملعب الإيراني. وبعد أن تنتعش طهران من الضربة (الإضافية) التي تعرضت لها، ستكون مطالبة بأن تقرر كيف ترد. خيار واحد هو التجلد ومحاولة توريط إسرائيل مع الولايات المتحدة والقوى العظمى بصفتها هي التي تشعل المنطقة، وعملياً تخرب على إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي. وثمة خيار ثانٍ، هو الرد بواسطة مبعوثين – في لبنان (احتمال متدن جداً)، أو في غزة (احتمال متدنٍ)، أو في سوريا (احتمال متوسط زائد). أما الخيار الثالث فهو الرد بشكل مباشر. تعرف إيران كيف تعمل بالسر، ولإسرائيل في أرجاء العالم جملة ذخائر وأهداف يمكن المس بها. في إطار المعركة البحرية التي تطورت مؤخراً بين الدولتين، ضربت إيران سفينتين تعودان لرجلي أعمال إسرائيليين، ويحتمل أن تحاول مواصلة الخط ذاته.
زمن اليقظة الاستخبارية
هذا يدعو إسرائيل إلى يقظة استخبارية وعملياتية عالية، وعليها بالتوازي أن تقرر كيف تعتزم مواصلة هذه المعركة المتصاعدة التي تتعقد على خلفية العلاقات المتعثرة مع إدارة بايدن.
ولضمان سلامة السلوك في الجانب الإسرائيلي، مطلوب من الصقور في الحكومة أن يضعوا البلطات جانباً ويديروا جبهة منسقة، حتى قبل أن تقوم حكومة جديدة. وإن اجتماعات منظمة ومداولات جدية للكابينت السياسي الأمني ستكون بداية مناسبة لذلك.
القدس العربي