أين نحن من الثورة الصناعية الرابعة؟

أين نحن من الثورة الصناعية الرابعة؟

تبدو المملكة جاهزة للدخول إلى مجال الثورة الصناعية الرابعة والتميز بها، وهي الثورة، التي تعتمد بشكل أساس على توظيف التقنية وذكاء الآلة والروبوتات وإنترنت الأشياء وغيرها من بنى تحتية تقنية متقدمة، في سبيل الارتقاء بالعملية الصناعية ورفع كفاءتها، وهذا الرهان يأتي انطلاقا من “رؤية 2030″، التي من خلالها تولدت فرصة لدى المملكة في استثمار بعض من مقدراتها المالية في عملية الدخول إلى الثورة الصناعية الرابعة من أوسع أبوابها.

بعض الشواهد على جاهزية المملكة
هناك عدة شواهد ودلائل على جاهزية المملكة ومضيها في ذلك، من أبرزها أن المجال الصناعي يقع في قلب برامج “رؤية المملكة 2030″، حيث نجده في برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية، المكلف بتحويل المملكة إلى قوة صناعية رائدة ومنصة لوجستية عالمية في عدد من المجالات الواعدة، مع التركيز على الثورة الصناعية الرابعة. هذا البرنامج يهدف بشكل مباشر إلى توفير فرص عمل مهمة للمواطنين، وتحسين الموازين التجارية في المملكة، وزيادة المحتوى المحلي.

شاهد آخر هو تأسيس مركز مختص بتقنيات الثورة الصناعية الرابعة في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وهو فرع لمركز الثورة الصناعية الرابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي تم تأسيسه باتفاق بين حكومة المملكة والمنتدى الاقتصادي العالمي. وقبل ذلك قامت شركة أرامكو السعودية بإنشاء مركز خاص بها للثورة الصناعية الرابعة من أجل تطوير التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة والبيانات الضخمة، كذلك تم إدراج منشأة خريص التابعة لأرامكو ضمن قائمة “المنارات الصناعية” العالمية، وهي المنشأة الثانية لأرامكو، التي تنضم إلى هذه القائمة المعترف بها من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي. وفي سياق آخر تم اختيار منطقة “نيوم” في شمال غرب المملكة كساحة عالمية لتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة في مختلف مناحي الحياة.

أما في مجال الابتكار، فقد أنشأت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مركز الابتكار للجيل الرابع للصناعة، الذي يحتوي على عدد من التقنيات الحديثة مثل معدات تصنيع يتم التحكم بها عن طريق الحاسبات، وأخرى تختص بالهندسة العكسية الرقمية والواقع المعزز والطباعة ثلاثية الأبعاد.

المجال الصناعي ساحة كبيرة للمنافسة بين الدول
المقصود بالثورة الصناعية الرابعة هي تلك الثورة، التي تلت ثلاث ثورات صناعية في تاريخ البشرية، بدءا من استخدام حركة الماء والبخار لتوليد الطاقة، ثم استخدام الكهرباء في العمليات الصناعية، ثم استخدام الحاسب وتقنية المعلومات في ميكنة الأعمال. وباستثناء عدد قليل من دول العالم، التي شقت طريقها في مجال التميز الصناعي، تواجه معظم دول العالم صعوبات وتحديات في المنافسة في مجال الصناعة على المستوى العالمي، وهذا لم يكن يوما غائبا عن أذهان متخذي القرار الاقتصادي في المملكة. فبعد إطلاق “رؤية 2030” تبين أن المملكة تراهن على التميز في المجال الصناعي بنسخته الرابعة، لا على المنافسة في المجال التقليدي للصناعة، الذي يرتكز بشكل كبير على وفرة الأيدي العاملة والمهارات الفنية المتوارثة والموارد الطبيعية المحلية.

تتنافس الدول في مقدرتها على التصنيع والإنتاج والتجارة وجذب رؤوس الأموال الأجنبية لرفع الناتج الاقتصادي للدولة، والمساهمة في تنمية البلاد ورفاهية المواطن، غير أن أهم مصادر ديمومة الثراء لأي دولة نجده في القطاع الصناعي، الذي من خلاله يتم تحويل المواد الخام أو المكتملة جزئيا إلى منتجات متنوعة للاستهلاك المحلي وللتصدير لدول العالم.

الصين هي أكبر دولة في العالم في مجال الصناعة، حيث تستحوذ على 28 في المائة من حجم الصناعة العالمية بقيمة نحو أربعة تريليونات دولار، كما في الجدول المرفق. وبذلك فالصين حاليا أكبر من أمريكا في المجال الصناعي، على الرغم من أن الناتج المحلي الأمريكي لا يزال الأكبر في العالم، وذلك بسبب ضخامة قطاع الخدمات في أمريكا. وقطاع الخدمات مهم جدا، لذا نجد أن مجال تطوير الخدمات اللوجستية، الواقع من ضمن برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية في برامج “رؤية 2030″، يصب بشكل كبير في تطوير قطاع الخدمات، وبالتالي فمن الممكن أن يؤدي هذا البرنامج إلى رفع الناتج المحلي الإجمالي خارج النطاق الصناعي ذاته إلى مجالات أخرى كالتجارة الإلكترونية.

إذن الفرصة كبيرة وسانحة لدى المملكة للتميز في هذا المجال، حيث تعد المملكة من أكبر الدول المنتجة للنفط وأهمها على الإطلاق، حيث يستخدم النفط في جملة من المنتجات تقوم شركات وطنية بالاستفادة منه ومن مشتقاته في صناعات متنوعة، إلا أن جميع هذه الصناعات، النفطية وغير النفطية، تعتمد بشكل كبير على أساليب تقليدية في العمل وتستخدم أجهزة وآليات محدودة الذكاء، ولذا ستجد هذه الشركات أنفسها مضطرة إلى الانتقال إلى عالم الجيل الرابع الصناعي، وإلا سيكون من الصعب عليها، وبالتالي على المملكة منافسة الدول العريقة والمتميزة في هذا المجال.

ما الصعوبات والتحديات المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة؟
مصادر التحديات والصعوبات هي تلك الجزيئات، التي تطرق إليها برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية، التي من خلالها يتم التمكين والتيسير والدعم للصناعة، وتشمل تطوير الأنظمة والتشريعات والتمويل وتطوير البنى التحتية اللازمة وإيجاد الأراضي الصناعية وتجهيزها، وإنشاء المناطق الاقتصادية والبحث والتطوير والابتكار وبناء القدرات والمهارات وغيرها. ويعد التحول الرقمي، الذي هو في حد ذاته واحد من أهم برامج الرؤية، الداعم الأبرز للانتقال إلى الثورة الصناعية الرابعة، ويشمل عددا من الخطوات التطويرية لتسريع تحول عدد من مناحي الحياة إلى العالم الرقمي من خلال تبني أنظمة الاتصالات وتقنية المعلومات وتفعيل استخداماتها للوصول إلى مجتمع معلوماتي واقتصاد رقمي.

يمكننا الإشارة هنا إلى أحد الأمثلة لبعض الجهود الرامية لدعم التحول الرقمي والثورة الصناعية الرابعة، وهو موافقة مجلس الوزراء الشهر الماضي على تقديم تخفيض كبير في تكلفة الكهرباء للشركات العاملة في نشاط الحوسبة السحابية، وهي التقنية، التي تعتمد على توحيد الجهود الفنية وأتمتة آليات تقديم خدمات تقنية المعلومات، وذلك من خلال مراكز بيانات مشتركة باستخدام طرق وأساليب متقدمة لتبسيط تبني تقنية المعلومات وإتاحتها لجميع الفئات، أفراد ومؤسسات.

ما دلالات طبيعة واردات المملكة الحالية وصادراتها؟
كما ذكرنا، فإن أمامنا مشوارا طويلا لنصل إلى مستهدفات الرؤية، وننتقل إلى الجيل الصناعي الرابع، لذا فعندما ننظر إلى طبيعة واردات المملكة على مدى الأعوام الماضية من حيث هيئة المواد المستوردة، نجد أننا لا نزال نعتمد على استيراد المنتجات الجاهزة، التي في حقيقتها تعني الاستهلاك المباشر، وليس الصناعة والإنتاج.

في الشكل المرفق، نجد أنه خلال شهر كانون الثاني (يناير) 2021، تشكل المنتجات الجاهزة 76 في المائة من إجمالي الواردات، بينما تشكل المواد الخام، التي تعطي دلالة على حجم النشاط الصناعي المحلي، فقط 3 في المائة من إجمالي الواردات. وهذه النسب تقريبا ثابتة على مدى الأشهر والأعوام الماضية، غير أن هناك بصيص أمل في هذه البيانات، وهي أن المواد المكتملة جزئيا تشكل نحو 21 في المائة من الواردات.

هذه المواد المكتملة جزئيا تشير إلى جانب مهم من العملية الصناعية وهو نشاط التجميع، الذي يعني استخدام أنظمة مكتملة كأجزاء فرعية لبناء منتجات كاملة، ومن أمثلة ذلك مصنع سيارات “ايسوزو” في المملكة، الذي يقوم بتجميع الأجزاء المكونة لشاحنات ايسوزو لإنتاج شاحنات مكتملة. وكثير من المنتجات الصناعية حول العالم تتم بأسلوب التجميع، الذي لا يقل صعوبة ولا أهمية عن مجال التصنيع المباشر للجزيئات أو للمنتجات الكاملة، حيث نجد في بعض التصنيفات أن عملية التجميع تعد تصنيعا وتحسب من ضمن الجهود الصناعية.

يلاحظ في جدول الواردات لشهر يناير 2021 أن استيراد المملكة من الأسلحة والذخائر يأتي في المركز الثالث بنسبة 10 في المائة من الواردات، ما السبب؟

أحد أبرز الأسباب يعود لإنشاء الهيئة العامة للصناعات العسكرية عام 2017 التي تهدف إلى تنظيم قطاع الصناعات العسكرية في المملكة وتطويره ومراقبة أدائه، حيث ظهر من ضمن أهدافها ومهامها إدارة عمليات المشتريات العسكرية من الأسلحة والذخيرة والمعدات والتجهيزات، إلى جانب إصدار تراخيص التصنيع للقطاعين العام والخاص المحلي والخارجي لإنشاء الصناعات العسكرية والصناعات المكملة لها في المملكة.

ومع ذلك فقراءة طبيعة الواردات لا يعطي الصورة الكاملة لواقع التصنيع في المملكة بسبب وجود عمليات صناعية محلية كبيرة لا تعتمد على المواد الخام الخارجية، مثل الصناعات البتروكيمياوية، التي تعتمد على منتجات النفط والغاز المحلية. لذا نستطيع أن نقدر حجم نشاط التصنيع الموجه للخارج من خلال بيانات التصدير المتوافرة، وهي كما نرى في جدول الصادرات تشكل المنتجات الخام فيها نحو 83 في المائة من الصادرات، وهي المبوبة لدى هيئة الإحصاءات العامة باسم المنتجات المعدنية، إضافة إلى اللدائن ومصنوعاتها، وهي المواد الخام المستخدمة في الصناعات البلاستيكية والكيمياوية وغيرها. أي أنه حتى عند النظر إلى طبيعة الصادرات لا يظهر لدينا ما يشير إلى وجود نشاط صناعي قوي ومنافس، والدليل تدني نسبة المنتجات الجاهزة المصدرة.

برنامج “صنع في السعودية”
تم قبل نحو أسبوعين إطلاق برنامج “صنع في السعودية”، الذي يهدف بشكل أساس إلى دعم المنتجات المصنوعة في المملكة على المستويين المحلي والعالمي، بحيث يكون هناك ثقة وولاء للمنتج السعودي داخليا وخارجيا. ويبدو أنه الوقت المناسب لإطلاق هذا البرنامج تزامنا مع النشاطات والتطورات الكبيرة التي نراها محليا في مجال الثورة الصناعية الرابعة، والسعي الحثيث نحو تحقيق أهداف برامج الرؤية، وكذلك لتنمية السمعة التراكمية الطيبة للمنتج السعودي، حيث بدأنا منذ عدة أعوام نلحظ تحسن هذه السمعة وجاذبية المستهلك نحوها في دول قريبة وبعيدة.

هل تغير الثورة الصناعية الرابعة من وجهة الصادرات السعودية؟
بالنظر إلى جدول وجهة الصادرات السعودية في يناير 2021، وهي شبيهة إلى حد كبير بالشهور الأخرى والأعوام الأخرى، نجد أن معظم صادرات المملكة– بنسبة 56 في المائة – تتجه إلى دول آسيوية، وهذه الدول، كما هو معروف ليست دولا استهلاكية، ما يعني أن ما يصلها منا ليست منتجات جاهزة، الدول الاستهلاكية التي يمكن قياس مدى نجاح القطاع الصناعي الوطني عليها هي الدول الأوروبية، التي حاليا تستقبل فقط 10 في المائة من صادرات المملكة. أما الجهة الأخرى، فهي أكبر سوق استهلاكية في العالم- أمريكا الشمالية- التي يصلها أقل من 5 في المائة من صادرات المملكة.

النقطة الرئيسة هنا أن المملكة، من خلال “رؤية 2030” والثورة الصناعية الرابعة تعول على نهوض القطاع الصناعي في المملكة بشكل قد نجد فيه قريبا أن هذه النسب الظاهرة في جدول وجهة الصادرات قد تغيرت بشكل يجعل معظم صادرات المملكة تتجه إلى الدول الاستهلاكية، لا أن تكون معظم الصادرات مواد خام أو مواد وسيطة.

كيف نقيس النشاط الصناعي؟
لدى الهيئة العامة للإحصاء مؤشر مخصص لقياس النشاط الصناعي، يسمى الرقم القياسي للإنتاج الصناعي، وهو يأتي حسب منهجية وبرنامج مسح شامل يتم فيه أخذ بيانات ميدانية من نحو ثلاثة آلاف منشأة صناعية، تتم معالجتها واستخراج قيمة هذا المؤشر منها. فمن خلال المسح الميداني يتم رصد عدد من البيانات المهمة مثل عدد الموظفين وكمية المواد الخام المستخدمة وكمية الإنتاج ونوعه، وحجم الأصول الثابتة، وحجم الإنفاق، وغير ذلك.

من الشكل المرفق نرى أن قيمة المؤشر وصلت إلى 112.6 نقطة في نوفمبر 2020، وهذا المؤشر هو المؤشر العام وهو عبارة عن المتوسط الموزون لثلاثة مؤشرات هي: مؤشر التعدين واستغلال المحاجر بوزن نحو 75 في المائة، ومؤشر الصناعات التحويلية بوزن 23 في المائة، ومؤشر إمدادات الكهرباء بوزن 3 في المائة.

ما وسيلة تصدير المنتجات الرقمية؟
ملاحظة موجهة لهيئة الإحصاءات العامة، التي بالمناسبة تقوم بجهود جبارة في جمع وإدارة ونشر بيانات وطنية مهمة، وهي أنها تقوم برصد وسيلة نقل صادرات المملكة على أنها واحدة من ثلاثة طرق: عن طريق البحر (75 في المائة)، وعن طريق البر (15 في المائة) وعن طريق الجو (10 في المائة). وهذا أمر جميل ومنطقي غير أن علينا البدء في رصد صادرات المملكة الرقمية عن طريق الإنترنت، وذلك بسبب جهود التحول الرقمي والتطورات القائمة في مجال الثورة الصناعية الرابعة وغيرها من النشاطات الرقمية المتوقع أن تكون إسهاماتها كبيرة في الناتج المحلي والصادرات على وجه الخصوص.

بالطبع هناك صادرات مادية ملموسة تتم تجارتها عن طريق الإنترنت، وهذه في النهاية سيتم نقلها من خلال أحد الطرق الثلاثة المذكورة، وهي تقع في مجال التجارة الإلكترونية، ويتم نقلها من خلال هذه الطرق. ولكننا نتحدث عن منتجات رقمية كثيرة، كالكتب والمستندات والوثائق الرقمية، وخدمات رقمية تتم بشكل كامل عبر الإنترنت، التي من المتوقع أن تتزايد بشكل كبير في الأعوام المقبلة.

الاقتصادية