حروب إسرائيل على الوعي في غزة: بداية العهد الرقمي كساحة قتال

حروب إسرائيل على الوعي في غزة: بداية العهد الرقمي كساحة قتال

يكشف بحث إسرائيلي عن تغيرات في آلية التفكير والأهداف المتعلقة بما يعرف بالمعركة على الوعي، مقابل حركة “حماس“ بالأساس، من أجل تحقيق عدة غايات منها كسب الدعم الجماهيري خاصة بعد الحرب على لبنان التي اعتبرت حربا فاشلة.

ويوضح معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب في دراسته أنه إذا كان الردع هو العنصر الأهم الذي حكم السياسة العسكرية الإسرائيلية إلا أنه لا يخلق وعيا ويتحقق فقط من خلال العمل العسكري المباشر، وهو ما يعني أن المس بقدرات حماس وشعبيتها ومعنوياتها وحافزها للقتال والدعم الدولي الذي تتلقاه، يتمثل في معركة على الوعي، وعي الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين ووعي العالم وبأدوات جديدة.

يوضح “المعهد“ أن المعارك الثلاث الأخيرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة كشفت عن أهمية دمج التكنولوجيا المتطورة في إدارة معارك طويلة الأمد نسبيا

ويوضح “المعهد“ أن المعارك الثلاث الأخيرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة كشفت عن أهمية دمج التكنولوجيا المتطورة في إدارة معارك طويلة الأمد نسبيا، قد تمتد لأسابيع، وتستخدم فيها قطاعات عسكرية من مختلف تشكيلات الجيش، وأنها تحتاج بجانب استخدام أدوات القوة التقليدية والمباشرة، إلى الانتباه إلى الساحة الموازية التي تزداد أهمية في ظل المساحة الواسعة التي تحتلها شبكات التواصل الاجتماعي، وهي ساحة الوعي.

وطبقا لهذا البحث التفصيلي حول هذه الساحة المستجدة تحت عنوان (حروب إسرائيل على الوعي في غزة: بداية العهد الرقمي كساحة قتال) بهدف تسليط الضوء على تجربة المعارك الثلاث الأخيرة والمتغيرات التي طرأت، وما يمكن تعلمه واستخلاصه من هذه التجارب، تحديدا في كيفية إدارة معركة الوعي في العهد الرقمي وعصر شبكات التواصل الاجتماعي شديدة التأثير، كونها محلية وعابرة للحدود في ذات الوقت- يركز البحث على التغيرات التي أدخلتها إسرائيل على أساليبها القتالية الموجهة ضد حركة حماس في غزة التي لا يزال الاحتلال يسيطر على كافة معابرها وحدودها وأجوائها ويتحكم بمصير سكانها.

تحدي حماس
وحسب البحث شكلت حركة حماس، بطابعها السياسي والديني، وبالاستناد إلى جناحها العسكري تحديا مستمرا لإسرائيل، وهو ما تطلب خوض معارك طويلة وعنيفة واستراتيجية من الصعب الانتصار بها، وما حتم على الاحتلال البحث الدائم عن آفاق جديدة تخفف عبء القتال المباشر، حيث تعتبر حرب المعلومات واحدة من هذه الأدوات وركيزة أساسية في السياسة الإسرائيلية تجاه القطاع أثناء وما بعد جولات القتال.

الإعلام الاستراتيجي
وينوه “المعهد” أن مصطلح “الإعلام الاستراتيجي” أو “الحرب على الوعي“ أو “الدعاية الموجهة“ الموجود في دول أخرى يعرف إسرائيليا بالدعاية والدبلوماسية العامة (“الهسباراه”) لكن المصطلح المتداول اليوم هو “الحرب على الوعي”.

والحرب على الوعي هو مصطلح نشأ في المؤسسة الأمنية، واللغة العملية السائدة فيها مع بداية الألفية الثالثة، وهو يصف ويختزل العمليات التي تستهدف تغيير النظرة والمشاعر والسلوك تجاه الواقع من قبل الجمهور المستهدف، وهو بذلك يعتبر مصطلحا فضفاضا يشمل أنماط عمل سرية وعلنية، وهو المصطلح الذي نشأ منه مفهوم الدعاية الموجهة التي عبر عنها وجسدها مؤسسيا الناطق باسم جيش الاحتلال. وكذلك مصطلح “الحرب النفسية“ الذي ساد في أوساط الأجهزة الاستخباراتية والهادف إلى تغيير وجهة نظر العدو وقادته من خلال تكتيكات تضليلية، وممارسة الحيل الموجهة ضد قواته على أرض المعركة وفي ميدان القتال، بالتناغم مع حركة الجيش وخطواته الميدانية. ويقول “المعهد“ إن “الهسباراه” بمعنى “الحرب على الوعي“ هو مصطلح خاص بإسرائيل ونابع من خصوصية وضعها، وهو يصف الآلية التي تتم بها عملية نقل الرسائل منها إلى العالم وإقناعه بالرواية الإسرائيلية وتحديدا في القضايا السياسية.

دور وسائل الإعلام
وهذا المصطلح لا ينحصر في أروقة أجهزة الأمن والمنظومة الأمنية، بل تنصب مهمة نقله على كاهل وسائل الإعلام أيضا والتي ترمي إلى تبرير السياسة الإسرائيلية، وصد الهجمات السياسية والإعلامية ومحاولات المس بصورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، لافتا أن هذا مصطلح تبلور في سنوات السبعينيات من خلال الافتراض بأنه من الصعب إقناع العالم المكون من قطبين، وفي ظل الصعود الكبير لمنظمة التحرير الفلسطينية والثورات العالمية، بالرواية الإسرائيلية ومن الأفضل بدل ذلك تخفيف حدة النقد الموجه لإسرائيل وبث شعور بالثقة حيال كل ما تقوم به ولذا هو موجه نحو الإسرائيليين أيضا نحو تثبيت قناعتهم بروايتها الرسمية.

وحسب البحث واجه هذا المصطلح انتقادات واسعة بسبب قلة جدواه وعدم قدرته على إحداث التغيير المطلوب، حيث تم استبداله في بداية الألفية الثانية بمصطلح جديد أكثر تركيزا وهو الدبلوماسية الجماهيرية أو العامة.

الدبلوماسية الجماهيرية
والدبلوماسية العامة التي لجأت إليها وزارة خارجية الاحتلال هي حصيلة كافة النشاطات الرامية إلى خدمة السياسة الإسرائيلية من خلال ضخ المعلومات والأفكار والتأثير على الجمهور المستهدف على المدى البعيد، من خلال التوجه إليه بشكل مباشر وبأبعاد وأنماط مرنة ومتعددة، لبناء القوة “الناعمة” الإسرائيلية على حساب خصومها.

يقول البحث إن القوة “الناعمة” الناجمة عن الدبلوماسية العامة أو الجماهيرية والتي تنشأ بفعل التواصل المباشر وغير الرسمي، وبعيدا عن الحكومات، أصبحت متاحة، لا بل وتمثل استجابة للعصر الرقمي

ويقول البحث إن القوة “الناعمة” الناجمة عن الدبلوماسية العامة أو الجماهيرية والتي تنشأ بفعل التواصل المباشر وغير الرسمي، وبعيدا عن الحكومات، أصبحت متاحة، لا بل وتمثل استجابة للعصر الرقمي وهيمنة شبكات التواصل، والتي تتيح التفاعل مع الجمهور المستهدف بدل ضخ المعلومات كما في حالة (الهسباراه) واستبدال ذلك بحملات وبناء مواقع إلكترونية ونشاطات ثقافية ومحاضرات وهكذا.

أهداف معركة الوعي على غزة
يشير البحث إلى أهداف ثابتة حاولت إسرائيل أن تحققها من خلال حروبها على قطاع غزة في الحملات الثلاث ما بين الأعوام 2008-2014 والتي دمجت فيها ما بين القوة العسكرية المباشرة والعنيفة وما بين نشر رسائل ومحاولة زرع أفكار خاصة أن غزة مكتظة وشهدت مساسا كبيرا بالمدنيين فيها. والهدف الأول الذي أرادت تحقيقه هو الردع خاصة لدى فصائل المقاومة، سواء في فترات التهدئة من أجل منعها من الإقدام على خطوات تصعيد مستقبلية، وإطالة أمد الهدوء بين جولات التصعيد، أو في فترات الطوارئ والتصعيد من أجل تقصير أمدها قدر الإمكان. الجمهور المستهدف في معركة الوعي هو بالأساس قادة فصائل المقاومة ونشطاؤها في الميدان، وبشكل غير مباشر الجمهور في غزة الذي يستطيع بشكل نظري أن يؤثر على حركة حماس.

وظيفة الردع
وحسب البحث فإن وظيفة الردع هي التلويح باستخدام القوة العسكرية وإلحاق ضرر بالغ بالجهات المستهدفة، وتقليل حوافزها للإقدام على عمل قد يلحق بها خسائر فادحة. ثانيا: إظهار أن إسرائيل تتجنب المس بالمدنيين والبنى التحتية والمناطق المأهولة بالسكان. ثالثا: محاولة التمتع بدعم دولي وشرعنة هجماتها العسكرية، وقطع الطريق على فصائل المقاومة التي تسعى لإظهار الجمهور الفلسطيني على أنه ضحية عدوان إسرائيلي عنيف لا يميز بين المدنيين، وتجنيد الرأي العام الدولي ضد إسرائيل.

لذا يقول “المعهد“ إن مصلحة إسرائيل هي إظهار حماس كـ”حركة إرهابية خطيرة“ تعرض الجمهور للخطر وأنها تلتزم بالقانون والمعايير الدولية المتعارف عليها في فترات الحروب التي تضطر لخوضها مكرهة. رابعا: تسعى إسرائيل إلى إضعاف فصائل المقاومة من خلال الدفع نحو تآكل شعبيتها في أوساط حاضنتها الجماهيرية المحلية التي تعتبر مصدرا رئيسيا يرفدها بالمقاتلين الجدد وتمويلها والتستر على نشاطاتها ومساعدتها.

ضرب المعنويات
كما يوضح “المعهد“ أن إسرائيل تسعى من خلال المعركة على الوعي، إلى جانب هذه الأهداف الاستراتيجية، إلى ضرب المعنويات لدى المقاتلين الفلسطينيين وتثبيط عزيمتهم ورغبتهم في القتال، وإظهار التفوق الاستخباراتي وتضليل الخصم. موضحا أن الدعاية الإسرائيلية غير موجهة إلى حماس ومقاتليها والمجتمع الدولي فقط، بل أيضا، وخاصة في فترات القتال، توجه إلى الجمهور الإسرائيلي والجنود، من أجل ضمان تأييدهم للحرب، واحتمال نتائجها والخسائر التي قد تترتب عليها بشريا واقتصاديا، وأيضا ضمان الالتزام بالتعليمات التي تمنع وقوع خسائر قد تنعكس سلبا على معنويات الإسرائيليين وتخدم الطرف الآخر.

إدارة معركة الوعي
ويشير معهد دراسات الأمن القومي إلى أن الجهة الأساسية التي تولت إدارة معركة الوعي تجاه غزة هي الجيش من خلال الناطقين باسمه، والمنسق والأذرع الاستخباراتية إلى جانب وزارة الخارجية ومكتب رئيس الحكومة. ويوضح أن مؤسسة الناطق باسم جيش الاحتلال هي الجهة التي تتولى تنظيم العلاقة بين الجيش ووسائل الإعلام المحلية والدولية، وقد سعت هذه المؤسسة في العقدين الأخيرين إلى تبني سياسة أكثر فاعلية، والترويج باللغة العربية من أجل التواصل ونقل الرسائل إلى متحدثي اللغة العربية بشكل مباشر، خاصة في الحرب على لبنان في عام 2006 التي نظر لها الإسرائيليون على أنها فشل كبير.

وإلى جانب مؤسسة الناطق باسم الجيش هناك جسم آخر، هو مركز عمليات المعلومات الذي تأسس في 2005 من أجل تركيز المعلومات ونشر الوعي، داخل صفوف الجيش وإعداد خطط وحملات تضليل، إلا أنه وبسبب من تبعيته للاستخبارات العسكرية بقي نشاطه سريا، وعرف عن دوره في الحرب على لبنان بأنه قام بالكشف عن أسماء عسكريين أصيبوا من بين قوات حزب الله، وتوزيع بيانات باللغة العربية داخل لبنان، والسيطرة على وسائل إعلام تابعة للحزب. وإلى جانبه وجانب الناطق باسم الجيش تنشط في هذا المضمار وزارة الخارجية التي وإن كانت لعبت دورا بارزا على الساحة الدولية وبأدواتها الدبلوماسية التقليدية في الحرب على لبنان، إلا أن دورها وصف بالضعيف والأقرب إلى الفشل.

الرصاص المصبوب
وجاء عدوان “الرصاص المصبوب” عام 2008 في أجواء من التأييد الدولي وبعد حملات مكثفة ضد الصواريخ التي تطلق من غزة، وكان يتوقع لها أن تنهي أزمة غزة وتهديداتها إلا أنها انتهت بعد 22 يوما من القصف المكثف بوقف إطلاق نار أحادي الجانب من قبل إسرائيل وتحقيق ردع جزئي”. وبرأي “المعهد“ وضعت الحملة لنفسها ثلاثة أهداف هي تغيير قواعد اللعبة بتوجيه ضربة موجعة ضد أي عمل تقوم به حماس وخلق حالة دائمة من الردع، والضغط على حماس بشكل متواصل لدفها للقبول بتسوية تفرضها إسرائيل، وفرض تسوية دولية تقوض قوة الحركة في القطاع.

اختارت إسرائيل لتحقيق الهدف الأول المتمثل بالردع أن تبدأ هجومها بشكل مفاجئ من خلال استهداف قوة شرطة أثناء حفل تخريج كانت تجريه في أحد المقرات الحكومية، وهو ما خلق حالة من الصدمة، تبعتها حملة منظمة إعلامية تمثلت بإلقاء بيانات وبث أشرطة فيديو ورسائل مسجلة تكذب رواية حماس، واتصالات هاتفية للمنازل تحذر السكان من التعاون مع الحركة. كذلك منع محطات البث التابعة لحماس من البث والتشويش عليها إلى جانب محاولات الناطق باسم الجيش الوصول إلى المؤثرين في شبكات التواصل وإيصال رسائل من خلالهم وتضخيم الأصوات النقدية التي كانت تصدر من غزة. وقامت إسرائيل بحملات دولية دبلوماسية وإعلامية بهدف مواجهة التحدي الرئيس المتمثل في الضائقة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع بفعل الحرب.

الإعلام الجديد في خدمة المعركة
برز بشكل لافت استخدام الجيش الإسرائيلي لوسائل التواصل الجديدة مثل تويتر خلال الحرب على غزة في 2008 بهدف التواصل مع العالم، فتح قناة على “يوتيوب” لنشر مقاطع مصورة من الميدان ومن كاميرات الجنود، كما أنه قام بالتواصل مع 50 ناشطا من المدونين المدنيين وتزويدهم بالمعلومات.

وقد أديرت حرب 2008 على جبهتين، واقعية وافتراضية وبرز فيها دور وسائل التواصل، وهو ما جعل الحملات العسكرية التي تبعتها في عامي 2012 و2014 والتي جاءت لتعزز القناعة أن مفهوم الانتصار الميداني والردع ضد تنظيم يعمل وينشط في وسط مدني وفي مكان مزدحم مثل قطاع غزة أمرا غير محسوم، وهو ما عزز القناعة بأهمية الساحة الرقمية ومعركة الوعي.

القدس العربي