الباحثة شذى خليل*
جاء إدراج العراق من قبل الاتحاد الأوروبي في مايو 2020 في قائمة الدول عالية الخطورة لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، تحذيرات سفير الاتحاد الأوروبي في بغداد، مارتن هوت، حول خطورة الوضع، أكد أن هناك قوى أجنبية تستخدم العراق كساحة قتالٍ بالوكالة لتنفيذ أجنداتها الإقليمية، مما يزيد من عدم الاستقرار الداخلي والإقليمي، وعلى الجميع أن يدرك أن عراقاً ضعيفا وغير مستقر لا يملك إلا أن ينتهي به الأمر بالفشل مع تداعياتٍ كارثية في المنطقة وخارجها.
بينما تكافح حكومة مصطفى الكاظمي لضمان استمرار دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من شبكة الحماية الاجتماعية، بعد التراجع الحاد في إيرادات الخزينة العامة بسبب تراجع أسعار النفط تحت ضغط مع تفشي فيروس كورونا، تلقت تلك الجهود خيبة أمل كبيرة بعد إعادة إدراج العراق من قبل الاتحاد الأوروبي في مايو 2020 في قائمة الدول عالية الخطورة لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب ، إلى جانب كوريا الشمالية وإيران وأفغانستان وسوريا واليمن، مما شكل تداعيات اقتصادية ومالية كارثية على العراق.
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ، أصبح العراق أرضًا خصبة لظهور شبكات غسيل الأموال التي استفادت من تداعيات التغيير الجذري للنظام السياسي وما رافقه من فوضى سياسية واقتصادية وأمنية أججها التنافس المحموم بين الفصائل السياسية وممثلي المكونات العرقية والطائفية لامتلاكهم أكبر قدر ممكن من السلطة والنفوذ، مما يسهل استغلال موارد الدولة وتحصيل الأموال التي وجدت طريقها إلى الخارج من خلال عمليات غسيل أموال منظمة ومغطاة سياسياً، وكان هذا هو السبب الرئيس وراء تعطيل آليات الرقابة على حركة الأموال والتجارة مع الدول الأخرى في ظل حالة الانفتاح الشامل على الاقتصاد العالمي، على الرغم من إنشاء العديد من الهيئات التنظيمية، مثل الهيئة الفيدرالية للنزاهة (CoI) ، ومكاتب المفتشين العامين في الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية ، وكذلك ديوان الرقابة المالية الاتحادي (FBSA) ، ومديرية الجرائم الاقتصادية في وزارة الداخلية ودائرة الأمن الاقتصادي بجهاز الأمن الوطني ، كل تلك الهيئات لم تتمكن من مكافحة هذه الظاهرة بسبب التدخلات السياسية التي اتخذت من انعدام الأمن والحرب الطائفية غطاءً وذريعة للتهرب من المزيد.
أكثر من عقد من الضغط الذي مارسه البنك الدولي والمؤسسات المالية العالمية التي هددت مرارًا وتكرارًا بوضع العراق على القائمة السوداء إذا لم يسن قانونًا لمكافحة غسيل الأموال ، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى عام 2015 عندما أقر مجلس النواب القانون رقم 39 بشأن مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ، والذي ينص على إنشاء مجلس مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ، الذي يمنح صلاحيات واسعة ، فضلا عن تشكيل مكتب داخل البنك المركزي العراقي (CBI) يسمى مكتب مكافحة غسيل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب.
وضع التقرير الأول لمؤشر “بازل” لمكافحة غسيل الأموال (AML) لعام 2012 العراق في المرتبة السادسة بين أسوأ الدول في مجال مكافحة غسيل الأموال، وقد دعا ذلك الاتحاد الأوروبي في يوليو 2016 إلى وضع العراق على قائمة الدول التي لا تطبق المعايير الدولية، بينما قام الاتحاد الأوروبي -في بادرة حسن نية، بإزالة العراق من قائمته السوداء في عام 2018 على الرغم من احتلاله المرتبة الأولى في تقرير مؤشر بازل لمكافحة غسيل الأموال لعام 2017 باعتباره أخطر دولة في هذا المجال، إلا أن الحكومة العراقية فشلت في الاستفادة من ذلك، وخسرت فرصة لتحسين صورة البلاد من خلال اتخاذ خطوات في اتجاه تهدئة مخاوف شركائها الدوليين.
منذ 2003 والعراق يدخل ضمن قائمة فساد مرعبة تشمل جميع مفاصل البلد، وتتوزع مصادر غسيل الاموال إلى ما يلي:
الموازنات الاستثمارية: تم تخصيصها من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003 ، وتتراوح تقديراتها ما بين 300 إلى 500 مليار دولار أمريكي ، لغرض إعادة تأهيل البنية التحتية وتطوير المرافق العامة، كانت مصدر ربح رئيس للأحزاب الحاكمة من خلال تخصيص عقود فاسدة ومناقصات لشركات وهمية أو غير مؤهلة أو غير كفؤة مقابل عمولات ضخمة يعتقد أنها لا تقل عن خمس قيمة كل عقد، وكثيرا ما كانت تلك العقود تنفذ بطريقة غير مطابقة، أو تم تمديد فترات تسليمها لسنوات إضافية بحجة عدم الاستقرار الأمني.
تهريب النفط: اضافة الى بقاء منصات تصدير النفط الجنوبية من دون عدادات حتى نهاية عام 2017 واستخدام طريقة ullage (الانقطاع) لقياس حجم حمولات ناقلات النفط التي كانت تكلف العراق الآلاف من براميل النفط في كل شحنة لكل سنتيمتر غير محسوب، وتستمر خطوط أنابيب النفط الممتدة بين الحقول والموانئ، والتي تعمل حتى يومنا هذا من دون عدادات، بما في ذلك على مستوى الحقول النفطية ومحطات الضخ الثانوية والمصافي، وأن يكون الهدف المفضل لسرقة النفط الخام ومشتقاته، وتقدر هذه الممارسات بما يتراوح بين 100 ألف و 250 ألف برميل يوميا من إنتاج النفط العراقي ، إضافة إلى جوانب أخرى من الفساد الإداري في حساب كميات النفط الداخلة والخارجة من المصافي، في المناطق الوسطى والشمالية، لا تزال حقول النفط وشبكات تهريب النفط التي كانت تمول داعش بعد سقوط مدينة الموصل منتصف 2014 تعمل كالمعتاد ، وإن كان ذلك لصالح الشيعة الموالين لإيران، فالمليشيات وبالتعاون مع الاحزاب الكردية التي تنشط هي نفسها في تهريب النفط المنتج في اقليم كردستان، يؤدي هذا إلى تراكم الأموال الضخمة التي يجب غسلها من أجل تسهيل اندماجها في النظام المالي العالمي.
تجارة وتهريب المخدرات وتجارة الأسلحة: قبل 2003 كان العراق خالٍ من هذه التجارة المسمومة وقوانين الدولة صارت الى ابعد حد ممكن، حيث كان من انظف دول المنطقة لهذه الآفه ؛ بعد هذا التاريخ أصبح استهلاك المخدرات المحلية من أكثر الأعمال ربحًا وأسرعها نموًا بسبب تورط الميليشيات الشيعية والعشائر المسلحة فيها ، خاصة في محافظة البصرة التي تشهد صراعًا شرسًا حولها. احتكار طرق تهريبهم من إيران إلى العراق، والذي غالبًا ما يتجلى في صراعات عشائرية مسلحة.
مشكلة المعابر الحدودية الخارجة عن السيطرة، حتى بداية تموز / يوليو 2020 ظلت المعابر الحدودية البرية والبحرية والجوية خارج سلطة الدولة بشكل كامل بسبب سيطرة القوى الخارجة عن القانون والمليشيات عليها ، ناهيك عن معابر كردستان، المنطقة التي رفضت حكومتها منذ 2003 تمكين الحكومة الاتحادية من الإشراف عليها وفق الدستور، وهذا يكلف الخزينة العامة خسائر تقدر ما بين 5 و 10 مليارات دولار سنويا نتيجة التهرب الجمركي والتهريب المنظم الذي يمارس هناك.
انعكاس القرار على الاقتصاد العراقي:
عقب قرار المفوضية الأوروبية ، أصدر وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين بيانا أعرب فيه عن دهشته من إدراج العراق على قائمة الدول ذات المخاطر العالية في غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وذكّر بالإجراءات التي اتخذها العراق خلال العامين الماضيين ، حيث يعد العراق مستوفيا لجميع شروط الرفع من القائمة السوداء. إلا أن حالة الإنكار التي كشف عنها بيان الوزير تكشف عن عدد من المؤشرات أهمها ما يلي:
ترسخ غسيل الأموال في بنية النظام السياسي كأحد مظاهر الفساد المالي التي وضعت العراق على رأس قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم.
غسيل الأموال له أهمية إستراتيجية فيما يتعلق بخطط إيران لتأمين الدعم المالي لحلفائها ووكلائها في سوريا ولبنان واليمن والبحرين ، من خلال الاستفادة من حالة العراق غير المؤكدة من منظور الإدارة الأمريكية ، والتي لا يبدو أنها في طور الانقسام الكامل مع بغداد لحين نضج عناصر الداخل العراقي الرافض للهيمنة الايرانية على البلاد.
بسبب تورط الجميع في عمليات غسيل سواء كانوا داعمين لحكومته أو محايدين أو غير محايدين.
غياب وتخلف النظام الضريبي والأنظمة المصرفية في العراق مما جعل من الصعب مواكبة حركة الأموال والتحقق من أصحابها وتسوية وضعهم الضريبي ، وعدم وجود ضوابط واضحة للمصارف ومكاتب الصرافة التي يتم اختيارها للمشاركة في مزاد العملة الصعبة، خاصة تلك التي لا تقدم خدمات مصرفية فعلية والتي تكون سجلاتها محفوفة بالمخالفات، وفشل المؤسسات الرقابية والقضائية في تعقب الأشخاص الذين تكشف بيانات البنك المركزي العراقي عن قيامهم بتحويل مليارات الدولارات بتصاريح استيراد مزورة.
عدم وجود غطاء قانوني لمتابعة الأشخاص الذين يظهرون مظاهر ثروة لا تتناسب مع الوظائف والأعمال التي يقومون بها ، أو لا تتناسب مع أسعار الخدمات والسلع التي يبيعونها ، خاصة إذا كانت أقل من سعر التكلفة أو لا تغطي حتى تكاليف النقل ، مثل الفاكهة والخضروات المستوردة من إيران ، كما حدث في يونيو 2020 عندما استورد العراق ما قيمته 70 مليون دولار من الطماطم الإيرانية ، حتى عندما كان المزارعون العراقيون في إقليم كردستان يلقون بمنتجاتهم في الشوارع لأنه لم يكن هناك من يشتريها.
والاهم من ذلك، التأثير الكبير الذي تلعبه الفصائل الموالية وداعمها حزب الله داخل المؤسسات الحكومية، مما يجعل من الصعب إيقاف عمليات غسيل الأموال التي تمارسها داخل العراق والمرتبطة بأنشطة مختلفة غير مشروعة، من تهريب النفط والمخدرات والأسلحة إلى عمليات الخطف وفرض رسوم على رجال الأعمال والمستثمرين وخاصة في المحافظات السنية.
في يوليو 2020 أعلن العراق عن حملة سياسية ودبلوماسية مع الدول الأوروبية لشطب اسمه من قائمتها للدول عالية الخطورة التي تشهد عمليات غسيل للأموال وتمويل للإرهاب، لما يشكله ذلك من خطورة على الاقتصاد العراقي والاستثمارات الأجنبية على أراضيه، كون تداعيات هذا الإدراج فرض مزيدا من القيود على التحويلات المالية من العراق وإليه، فهو يعطي علامة عدم الثقة من قبل المؤسسات المالية العالمية، ومنها البنوك العشرة التي تسمى بالأمهات، والتي تسيطر على رأس المال في العالم، والتي ستضع العراق أمام عقوبات مالية خطيرة، تصعب على المستثمرين العراقيين والأوروبيين العمل في البلاد التي تعاني أصلا من أزمة مالية خانقة. وسيكون له تأثير اقتصاديّ واجتماعيّ ضارّ على التعاون مع الدول الأوروبية وعلى الوضع الائتماني والاستثمارات الاجنبية في البلاد.
مصلحة الجميع أن يسهم الجميع في قيام دولة عراقية مزدهرة ومستقرة داخليا وخارجيا وقوية وذات سيادة كشرط أساس لاستقرار المنطقة.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية