الحشد الشعبي يفقد بريقه الاجتماعي والعقائدي وخزانه البشري يتلاشى في جنوب العراق

الحشد الشعبي يفقد بريقه الاجتماعي والعقائدي وخزانه البشري يتلاشى في جنوب العراق

ما شكّل قوّة الحشد الشعبي الذي تأسّس في العراق قبل نحو ثماني سنوات لغرض محدّد هو مواجهة تنظيم داعش ليس فقط عشرات الميليشيات التي جمعها تحت رايته وما أتيح له من مال وسلاح، ولكن أيضا بعده العقائدي وسنده الاجتماعي وإيمان الكثيرين بعدالة الحرب التي خاضها ضدّ التنظيم ما جعلهم ينضمون إليه بوعي واقتناع. لكن كلّ ذلك بدأ اليوم في التغيّر جذريا بتجاوز الحشد لمهمّته الأصلية وانغماسه في السياسة وخوضه الصراعات لأجل المال وارتداده حتى على حاضنته الشعبية دفاعا عن النظام وتخليه عمّن قاتلوا في صفوفه وقتلوا في حربه.

الناصرية (العراق) – لا يزال الحشد الشعبي منذ تشكيله في العراق سنة 2014 استجابة لفتوى دينية من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني بهدف محدّد هو قتال تنظيم الدولة الإسلامية الذي غزا في تلك السنة ثلث مساحة البلاد في ظل حالة من شبه الانهيار للقوات النظامية العراقية، يشكّل ظاهرة استثنائية ومتشعّبة ذات امتدادات أمنية وسياسية واجتماعية، أعْقَدُ من مجرّد كونه “جسما” شبه عسكري يقاتل بالوكالة عن إيران ويسهر على حراسة نفوذها.

وإذ يقوم الحشد المكوّن أساسا من العشرات من الميليشيات الشيعية بهذا الدور فعلا، فإنّ له إلى جانب ذلك أدوارا مؤثّرة في سياسة الدولة العراقية داخليا وخارجيا وفي صياغة قراراتها ومواقفها.

بل إنّ الحشد الشعبي تحوّل إلى ضمانة للنظام الذي تلعب الأحزاب الشيعية دور القاطرة فيه، وهو ما تجسّد عمليا خلال أعتى انتفاضة ضدّ ذلك النظام تفجّرت في مدن وسط وجنوب العراق معقل تلك الأحزاب ذاتها، وتصدّت لها ميليشيات الحشد بقوّة.

التعبئة الجماهيرية الكثيفة أتاحت للميليشيات المنتصرة في حرب داعش الارتقاء إلى مستويات عليا في السلطة

ويُرجع تقرير لصحيفة واشنطن بوست ما بلغه الحشد من مكانة إلى ما عاشه العراق في تاريخه المعاصر من ظروف مضطربة أتاحت للفصائل الشيعية التي يشكّل المعطى العقائدي والطائفي العمود الفقري لهويتها تجذّرا في المجتمع.

ويعطي ذلك تفسيرا للتجاوب الكبير في مناطق جنوب العراق مع حملة التجنيد السريعة والواسعة التي نظمتها الميليشيات عندما صدرت فتوى الجهاد الكفائي عن السيستاني، حيث اندفعت مجاميع من الرجال القادرين على حمل السلاح إلى التطوّع لقتال داعش ضمن صفوف ميليشيات الحشد، وذلك بدوافع عقائدية وتحت تأثير شعور حقيقي بعدالة المعركة ومصيريتها.

لكن التقرير نفسه يلفت إلى أنّ علاقة الحشد بالمجتمع وامتداداته داخل فئاته بدأت تتغيّر جذريا وتسير نحو الانحسار مع انغماس الميليشيات بشكل متزايد في السياسة وتداخل نفوذها مع سلطة الدولة وانخراطها بقوّة وعنف في حماية النظام وقمع أي دعوة للتغيير، إضافة إلى دخول الاعتبارات المالية والاقتصادية على خطّ العلاقة بين الميليشيات والخزّان البشري الذي كان في أوقات سابقة سخيا في رفدها بالمقاتلين من دون حسابات.

من الحماس إلى الندم
تقول لويزا لوفلوك ومصطفى سليم في تقريرهما عن الحشد الشعبي إنّه عندما صدرت الدعوة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية امتدت طوابير المتطوعين في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار بجنوب العراق، بينما انخرطت مجموعات من الأصدقاء في جمع الأموال لدفع تكاليف النقل إلى مكاتب تجنيد الميليشيات المحلية. وكان الشبان يتدافعون بالفعل في حافلات متجهة إلى الخطوط الأمامية في الحرب ضد تنظيم داعش التي كانت وقتها قد اندلعت في مناطق شمال وغرب العراق، وجزئيا في مساحة محدودة بجنوب العاصمة بغداد.

وفي ظل انهيار مفاجئ للجيش العراقي أتيح للميليشيات الشيعية القيام بدور حقيقي في مواجهة تنظيم داعش ومنع احتلاله العاصمة بغداد، ومثّل ذلك بالنسبة إلى الكثيرين في مدينة الناصرية سببا قويا للإيمان بـ”قدسية” المهمة التي أوكلت للحشد الشعبي.

ويتذكّر ثامر الصافي المقاتل السابق في صفوف الحشد معارك 2014 التي قتل فيها اثنان من إخوته قائلا “في ذلك الوقت كان الأمر يتعلق بشيء واحد فقط.. القتال لأجل مستقبلنا ودفاعا عن العراق”.

غير أنّ هذه التعبئة الجماهيرية أصبحت لها لاحقا عواقب بعيدة المدى حيث أتاحت للميليشيات المنتصرة في حرب داعش الارتقاء إلى مستويات عليا في السلطة بالعراق والدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة لحساب إيران تجسّدت في شنّ هجمات صاروخية على مرافق عسكرية ودبلوماسية أميركية.

وقد أثبتت تجربة تشكيل الحشد الشعبي والحرب التي خاضها ضدّ داعش أنّ للميليشيات الشيعية في العراق امتدادا داخل نسيج جزء من المجتمع العراقي وأنّ لها جذورا في تاريخه المضطرب، فلولا الدعم واسع النطاق في أنحاء الجنوب العراقي الشيعي واستجابة عشرات الآلاف لفتوى السيستاني ونداء رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، لما كان للحشد أن يتشكّل.

أما الآن وبعد استكمال الحشد الشعبي لمهمّته الأصلية وهي حرب داعش وانتقاله إلى مهام وأدوار أخرى، فالأمور تغيّرت جذريا والدعم الشعبي للحشد يكاد ينعدم بعد أن ارتدّت الميليشيات على المجتمع وذلك من خلال انخراطها في قمع احتجاجاته المحقّة على الفساد والبطالة والفقر وسوء الخدمات، ناهيك عن تخلّي تلك الميليشيات عن كثيرين ممن قاتلوا في صفوفها وإخلافها وعودها لهم وتركهم مع أسرهم في مواجهة مصيرهم، وذلك على الرغم من تحوّل الحشد إلى قوّة سياسية واقتصادية.

وعندما اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية ضد الحكومة في أكتوبر 2019 قامت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران بقمع المحتجين بقوة مميتة وانخرطت في أنواع شتّى من الانتهاكات بحقّهم من مطاردتهم واعتقالهم وتعذيبهم وإخفائهم قسريا، إضافة إلى شنّها حملة اغتيالات طالت العديد من النشطاء البارزين في الحراك الاحتجاجي.

لقد تحوّلت فورة الحماس التي شاعت في صيف سنة 2014 وما بعده للالتحاق بالحشد الشعبي والقتال في صفوفه إلى ندم لدى الكثيرين من أبناء المكوّن الشيعي في العراق. وينقل تقرير واشنطن بوست عن عبدالله أحد سكّان الناصرية البالغ من العمر ثمانية وخمسين عاما قوله إنّه نادم على السماح لأخيه الأصغر سنّا بالالتحاق بالحشد. ويضيف المتحدّث الذي أخفى هويته الحقيقية مخافة التعرّض لانتقام الميليشيات أنّه يتمنّى أن يعيش طويلا كي يعتني بأطفال أخيه حيدر الذي قتل أثناء قتاله في صفوف الحشد في كمين نصبه عناصر تنظيم داعش في خريف سنة 2014.

في الناصرية ذات الغالبية الشيعية التي تحوّلت منذ أكتوبر في 2019 إلى أحد أكبر مراكز التظاهر والاحتجاج ضدّ النظام العراقي الذي أصبحت ميليشيات الحشد الشعبي جزءا أساسيا من نسيجه بل ضمانة لحمايته من السّقوط، تصطف وجوه المجندين القتلى مثل حيدر في الشوارع على لوحات إعلانية باهتة توثّق مقدار التضحية التي بذلتها الطبقة المرهقة اقتصادية واجتماعيا لأجل هزيمة الدولة الإسلامية.

ولم تعد صور هؤلاء القتلى تحيل لدى الكثيرين على البطولة والتضحية ونجاح الحشد الشعبي في تعبئة المجتمع الشيعي خلف معركة داعش بقدر ما أصبحت تذكّرهم بالخذلان. ففي البداية تلقت عائلات من قتلوا أثناء مشاركتهم في القتال ضمن صفوف الحشد الشعبي قطع أرض ورواتب شهرية من الهيئة الجامعة التي تدير شؤون الحشد. لكن تلك المزايا سرعان ما بدأت تجفّ وتتلاشى تاركة تلك العائلات الفقيرة لمصيرها بعد أن اعتمدت على الحشد في توفير شبكة أمان اجتماعي.

عائلات قتلى في الحرب قُطع عنها الدعم المالي وتركت لمصيرها لأنها لم تعد مفيدة لميليشيات الحشد

ومثلما هي الحال في الناصرية يعمّ الشعور بالخيانة والخذلان شرائح واسعة في مدن جنوب العراق التي مثّلت ذات يوم خزّانا بشريا ثريا لإمداد الميليشيات بالمقاتلين. لكنّ تضحية الكثيرين من أبناء تلك المدن ذهبت سدى وبعضهم قتل تاركا أسرته دون عائل.

ويقول ستّار البالغ من العمر تسعة وخمسين عاما “لقد وعدونا بالتعويض، وفي المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى مكاتبهم أخبرتهم أنني أتمنى لو لم أرسل ابني ليُقتل في الحرب”.

وكان مشتاق ابن ستّار يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما عندما انضم إلى القتال في صفوف منظّمة بدر، أحد أقوى الفصائل ضمن الحشد الشعبي، وقد أصيب بجروح خطرة أثناء إحدى المعارك سنة 2015 وقضى وهو في طريقه إلى المستشفى.

وتقول عائلة ستّار إنها تلقت حتى العام الماضي مبلغ 900 ألف دينار عراقي شهريا أي ما يعادل حوالي 600 دولار من منظمة بدر، وبعد ذلك لم تتلقّ أي تفسير لسبب توقّف الدفع.

وعلى الرغم من أن شبكة الميليشيات في العراق تضم مجموعات من معظم الطوائف الدينية في البلاد إلاّ أن الميليشيات الشيعية هي المهيمنة والعديد منها مدعوم من إيران.

وشكلت أبرز الميليشيات مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وحركة النجباء ومنظمة بدر مصدر قلق كبير للمسؤولين الأميركيين الذين اتهموا العديد من تلك الفصائل في الأشهر الأخيرة بالوقوف وراء شن هجمات صاروخية على المرافق العسكرية والدبلوماسية الأميركية في العراق. وأدت هذه الهجمات إلى مقتل أميركيين وأجانب آخرين، فضلا عن مواطنين عراقيين، وفي عدة مناسبات شنت الولايات المتحدة ضربات انتقامية، وقتلت البعض من عناصر الميليشيات.

لكنّ أبرز عمل عسكري قامت به الولايات المتّحدة ضدّ الميليشيات الشيعية في العراق في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب يظلّ اغتيال قائد فيلق القدس ضمن الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في غارة جوية قرب مطار بغداد مطلع العام الماضي أودت أيضا بالقائد الميداني للحشد الشعبي أبومهدي المهندس.

وتكمن أهمية سليماني في كونه المشرف الحقيقي على الحشد الشعبي بينما المهندس يلعب دور المنسّق بينه وبين الحشد. وقد صعّدت حادثة الاغتيال حدّة التوتّر بين طهران وواشنطن ودفعت المواجهَة بينهما على الأراضي العراقية إلى منعطف جديد. فالحشد الذي يمتلك كتلة داخل البرلمان كما يتمتّع بدعم كتل شيعية أخرى تمكّن من إصدار قرار يحث الحكومة على إخراج القوات الأميركية من العراق. ومع إعلان بعض الميليشيات عزمها على تنفيذ القرار بالقوة، تصاعدت مخاطر تصعيد العنف ونُذر سقوط المزيد من الضحايا.

مقاتلون فمتظاهرون
مارست مجموعات مثل منظمة بدر التي تأسست سنة 1982 في إيران دورا فاعلا في السياسة العراقية قبل فترة طويلة من الصراع الأخير. وكانت تلك المجموعات في وضع جيد لتجنيد المقاتلين في أيام الحماس الفيّاض عندما غزا مقاتلو الدولة الإسلامية المدن العراقية الكبرى مثل الموصل وتكريت شمالي البلاد. وكان لدى بدر شبكة واسعة من المكاتب أقامت عن طريقها روابط قوية عاطفية وعقائدية مع المجنّدين.

ومع ذلك فقد انضمّ عراقيون إلى الحشد الشعبي لأنهم كانوا قلقين فعلا من تنظيم داعش وكانت مقاطع الفيديو الدعائية تحث الشيعة على القتال إلى جانب الحشد من أجل بلدهم ومراقدهم المقدّسة. وكانت مكاتب بدر هي الأقرب لكثيرين في الناصرية.

ويقول أحد المقاتلين السابقين في صفوف الحشد “كان الأصدقاء يجمعون المال وكان مكتب بدر هو الأقرب، لذلك وافقت على التسجيل هناك”، ويضيف “أخذونا على الفور دون تدريب إلى الخطوط الأمامية”.
وتستخدم قوات الحشد الشعبي أموالا من الميزانية الفيدرالية العراقية لدفع أموال لعائلات قتلى الحرب. لكن هناك القليل من المساءلة بشأن أوجه صرف الأموال؛ فإدارة المجموعات المسلّحة التي يتم تمويلها موكولة للجنة من كبار قادة الميليشيات غير خاضعة لإشراف الحكومة بحسب ما توضّحه ورقة بحثية أعدتها مؤسسة تشاتام هاوس.

ويتمّ تخصيص حوالي 68 مليون دولار من ميزانية الدولة العراقية لشراء الأراضي لأسر قتلى الحشد، لكن لم يتم منح هؤلاء سوى 3500 قطعة منذ عام 2014 وفقا لـ”مؤسسة الشهداء” العراقية.

وتقول بعض العائلات إنها تعتقد أن التعويضات قطعت عنها لأنها لم تعد مفيدة للميليشيات، وتؤكّد أنّها لم تتلقّ أي تفسير لذلك.

وينكر مسؤولون من “مؤسسة الشهداء” مشرفون على إدارة المدفوعات علمهم بوجود أي قضايا ويلقون باللائمة على التعقيدات البيروقراطية. وقال كفاح حيدر الناطق باسم المؤسسة “ربما لا يفهم الناس حقوقهم أو ربما توجد مشاكل في البيروقراطية، ومع أسر شهداء الحشد الشعبي ليس لدينا مشكلة لأنه تم اتباع جميع الإجراءات الخاصة بالدفع لها”.

فورة الحماس التي شاعت في 2014 وما بعدها للالتحاق بالحشد والقتال في صفوفه تحوّلت إلى ندم لدى الكثيرين من شيعة العراق

وفي منزل صغير على أطراف الناصرية مبني على أرض مخصصة لتعويض أسر قتلى الحشد تعلق صورة قتيل آخر يدعى علي. يبتسم وجهه من لوحة تعبر عن سعادته بالتضحية. وهو يرتدي زيا أخضر اللون ويظهر في الصورة بجانب أحد المزارات الشيعية المقدسة في العراق.

ويقول والده عماد إنّه تشاجر مع علي بشأن قراره إغلاق شركته المزدهرة في مجال الإلكترونيات للانضمام إلى حركة حزب الله النجباء التي تولّت التجنيد محليا.

ويضيف “قلت له إن العراق لا يستحق أن تموت من أجله فكل ما يطلبه منك هذا البلد هو واجبات ولن يمنحك حقوقا. لكنه قال أريد الدفاع عن بلدي”. وقُتل علي عام 2016 وهو في أوائل العشرينات من عمره أثناء محاولته نزع فتيل عبوة ناسفة في مدينة سامراء شمالي بغداد.

وتبدو الأرض التي تعيش فيها أسرة عماد قاحلة ومنفصلة عن شبكة الصرف الصحي في المدينة. ويؤكّد والد علي “هناك إحباط بشكل عام بين العديد من العائلات مثلنا”.

أما حسين شقيق علي فيقول إنه انضم إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة في محاولة على طريقته الخاصة لإنقاذ العراق، ويضيف “انضم شقيقي إلى القتال لنفس السبب الذي جعلني انضمّ إلى الاحتجاجات”.

العرب