من بين الخطايا العديدة التي ارتكبها الموقعون على اتفاقيات أوسلو الكارثية، حصر الشعب الفلسطيني على أولئك الذين يعيشون في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 وهي، الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة. تضمن الاتفاق التنازل أولا عن 78% من أرض فلسطين التاريخية، والتخلي عن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى التخلي عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في وطنه، التي نصّ عليها الميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968، وحصر تلك الحقوق في هدف إقامة دولة في الضفة الغربية وغزة، لم ينص عليها الاتفاق، كما أنه لم يتطرق لحقوق اللاجئين، ولا لوقف الاستيطان أو تهويد القدس، وكل ما أشار إليه تأجيل النقاش في تلك القضايا المهمة، لمفاوضات الوضع الدائم، في ما بعد. فالشعب الفلسطيني الذي جمعته منظمة التحرير الفلسطينية بعد التشتت والغياب، ووحدته حول هدف التحرير، وحق تقرير المصير عادت قيادة تلك المنظمة تشتته مرة أخرى في أوسلو وتتخلى عنه وتقر بأن الفلسطينيين هم سكان الضفة والقطاع فقط. هل هناك خطيئة أكبر من هذه؟
سنوات الضياع
نحن لا نريد العودة لتشريح خطايا أوسلو العديدة، فقد كتب فيها أطنان المقالات والكتب والتحليلات. ولكني أريد أن أعيد إلى الواجهة قضية وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان، مع تركيز على حكاية الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية، الذين عادوا إلى شعبهم وقضيته العادلة بعد غياب طويل.
تقطعت أوصال الشعب الفلسطيني بالكامل بعد النكبة الفلسطينية عام 1948. فمن بقوا في الداخل، أعطوا الجنسية الإسرائيلية، وخضعوا للأحكام العسكرية. وكانوا يجبرون على رفع العلم الإسرائيلي على بيوتهم ومدارسهم وشوارعهم، في ما سمي زورا وبهتانا بعيد الاستقلال. ومن كان في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، أو وصل إلى الضفة الشرقية كلاجئ، منح الجنسية الأردنية، كما منح سكان غزة بمن فيهم اللاجئون وفلسطينيو لبنان وسوريا، وثائق سفر خاصة باللاجئين الفلسطينيين صادرة عن وزارات الداخلية والمخابرات في كل من مصر وسوريا ولبنان، وتحولوا بعد تدمير وطنهم بحكم الواقع، إلى «بشر بدون جنسية». حتى وثيقة السفر تلك كانت أحيانا لا تشفع لحاملها أن يدخل إلى البلد الذي أصدرها. وقد عومل الفلسطينيون في لبنان بالتحديد، بطريقة غير إنسانية، حيث حشروا في مخيمات وضع على مدخل كل مخيم مكتب للأجهزة الأمنية تحت اسم «المكتب الثاني» يقرر من يدخل إلى المخيم ومن يخرج منه. كما حرمت عليهم الوظائف العامة في الدولة أو المدارس الحكومية، ومنعوا من ممارسة أكثر من 70 مهنة يدوية أو تقنية أو علمية.
أما في سوريا فقد أقر البرلمان السوري عام 1956 قانونا يعامل فيه الفلسطيني معاملة السوري في العمل والوظائف والأعمال الحرة، عدا منصب رئيس الجمهورية وقائد الجيش، ولكن بدون أن يمنح الجنسية السورية. في مصر لم يطل أمد النظام الملكي إذ أطيح به في ثورة 1952. لكن وضع الفلسطينيين في غزة لم يتغير عليه كثيرا، إلا بعد قيام جمال عبد الناصر بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة الاعتبار للكيانية الفلسطينية، بعد طول غياب وتهميش متعمدين.
ليس من حق قائد أو غيره أن يعيد تعريف فلسطين، وتحديد من هو الفلسطيني، فهذا حق فردي وجماعي لا يستطيع أحد سحبه
غابت القضية بشكل عام عن الرادار العربي والدولي، بعد النكبة الفلسطينية ولغاية إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وبدء حركات المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركة «فتح» عام 1965 وانتشار الفصائل، خاصة بعد هزيمة يونيو 1967. كان الشعب الفلسطيني المشتت المكلوم يعمل في فترة العشرين سنة تلك على ترتيب أوضاعه المعيشية، والاهتمام العالي بالعلم، واكتساب الخبرات المهنية والحرف اليدوية والمهارات الفنية، كي يجد وسيلة سليمة لكسب الرزق الشريف.
موجات الهجرة الفلسطينية
بدأت موجات الهجرة من فلسطين إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية، مع نهايات القرن التاسع عشر. وكان معظم المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية من بلدات بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا ذات الأغلبية المسيحية بينما هاجر أبناء رام الله إلى أمريكا الشمالية. وقد استقرت أعداد كبيرة من الفلسطينيين في تشيلي وهندوراس والسلفادور والبيرو وكولمبيا. لم يستطيعوا أن ينافسوا الجاليات السورية في المكسيك والبرازيل، فاختاروا تلك البلدان حيث بدأوا حياتهم باعة متجولين، ثم انتهي الأمر بهم ليصبحوا من كبار الصناعيين وأصحاب البنوك وخطوط التجارة الدولية. لقد أنشأ خوان أبو جارور في تشيلي مصنعا للأقمشة القطنية عام 1936، وأصبح أكبر مصنع في البلاد، وبلغ عدد العمال فيه عام 1948 أكثر من 3000. كما أنشأ الفلسطينيون ثلاثة بنوك هي: بنك تشيلي وكوربنكا وبنك فلسطين.
كان الاندماج في المجتمعات المحلية أمرا سهلا، خاصة بسبب ظاهرة الزواج المختلط، وبدأت علاقتهم بالوطن الأم فلسطين تتراجع منذ تحول وضع فلسطين من إقليم تابع للدولة العثمانية، إلى بلد تحت الانتداب البريطاني. فقد عقـّد هذا التحول حياتهم حيث أصبحت العودة إلى فلسطين ليست سهلة، بعد أن فقدوا صلاحيات جوازات السفر العثماني، وأصبح مطلوبا تأشيرة من القنصليات البريطانية الحصول عليها ليس سهلا. بدأ الفلسطينيون ينظمون أنفسهم، خاصة الجيل الثاني والثالث، الذين فقدوا القدرة على التحدث بالعربية، لكنهم ظلوا يتابعون أخبار الوطن، وأصدروا صحفا محلية تعنى بشؤون البلاد مثل جريدة «إصلاح» في تشيلي باللغة الإسبانية بين عامي 1930 و1942، وأنشئت النوادي الرياضية والروابط الوطنية، بل أنشئت رابطة تجمع بين فلسطينيي تشيلي وكولمبيا والأرجنتين والسلفادور وهندوراس. وبدأ راديو «صوت فلسطين» يبث بالإسبانية من سانتياغو عام 1962 لكنهم ظلوا مخلصين لأوطانهم الجديدة، وارتباطهم بفلسطين ارتباط عاطفي عن بعد وتبرعات وزيارات متناثرة. لقد فشل وفد من منظمة التحرير الفلسطينية عام 1966 لتشيلي وهندوراس وبيرو وبوليفيا من إقناع مجموعة من زعماء الجاليات الفلسطينية بالانضمام لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني.
استيقاظ الوطنية الفلسطينية
إن إنشاء منظمة التحريرر الفلسطينية عام 1964، بدعم من الزعيم القومي جمال عبد الناصر، كان له أثر كبير بعيد المدى، لم يدركه الكثيرون حينها. فقد بدأ رئيس المنظمة أحمد الشقيري يطوف أرجاء البلدان العربية كافة، ليؤسس لإطار جامع ينتمي إليه الفلسطينيون جميعا أينما كانوا. وقد تم اعتماد ميثاق قومي للمنظمة (عدل عام 1968 وسمي الميثاق الوطني) في غاية الأهمية والوضوح والإصرار على حق الشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين، وأن الشخصية الفلسطينية حقيقة ثابتة وصفة أصلية لازمة لا تزول بالتقادم، وتنقل من الآباء إلى الأبناء، وأن الاحتلال الصهيوني وتشتيت الشعب الفلسطيني، نتيجة النكبات التي حلت به، لا يفقدانه شخصيته وانتماءه الفلسطينيين. بدأت حركة النهوض الفلسطيني العام في فلسطين ودول الطوق بعد هزيمة يونيو 1967، وصعود حركات المقاومة بقيادة «فتح» التي استطاعت أن تستولي على منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968. لقد عاد الشعب الفلسطيني من الغياب والضياع، ووجد في المنظمة الخيمة الجامعة لأطيافه وفصائله وأحزابه ونقاباته واتحاداته كافة. وكما كان النهوض في منطقة الصراع الأساسية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، انتشرت موجات عودة الانتماء إلى فلسطين في كل مناطق الشتات الفلسطينية في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.
كانت هزيمة 1967 الدافع الأول لتحريك المشاعر الوطنية للجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة وكندا، بينما الذي حرك الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية هو اعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وظهور ياسر عرفات عام 1974 في قاعة الجمعية العامة، مخاطبا المجتمع الدولي عن حقوق الشعب الفلسطيني. استطاعت منظمة التحرير أن تفتح مكاتب لها في البرازيل عام 1975 وكوبا عام 1976 والبيرو عام 1979. أما في تشيلي فبعد الانقلاب على الرئيس المنتخب سلفادور أليندي، ودخول البلاد مرحلة حكم الطاغية بينوشيه، حليف الولايات المتحدة، لم يسمح للفلسطينيين، إلا بفتح مكتب إعلام عام 1978. وقد تأثر بعض الفلسطينيين بالدعاية المغرضة حول الإرهاب، وخطف الطائرات، وقتل الرياضيين ما أثر في وحدة الجاليات الفلسطينية، إلا أن مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982 أعادت الوحدة للجاليات، والتفافها حول منظمة التحرير الفلسطينية. فقد عقد مؤتمر في ساوباولو بالبرازيل عام 1984 للجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي وانتخب 11 شخصا لتمثيل فلسطينيي أمريكا اللاتينية في المجلس الوطني الفلسطيني.. تعزز انتماء الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية للقضية الفلسطينية، بعد الانتفاضة الأولى عام 1987، التي شعر الفلسطينيون في الخارج بأنهم ينتمون إليها، وأنهم جزء من الاتنتفاضة. لقد لعبت الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية دورا أساسيا في الضغط على الحكومات المحلية للاعتراف بدولة فلسطين، وفتح سفارات أو ممثليات لها في معظم هذه الدول، وأصبحت الجاليات الآن من أكبر مناصري برنامج المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات المعروف بـ BDS.
بعد كل هذا الزخم يأتي من يعرف الفلسطينيين بأنهم سكان الضفة وغزة، ويحصر الانتخابات في هذه المناطق. وأود أن أؤكد أن ليس من حق قائد أو مجموعة قيادية أن تعيد تعريف فلسطين، وتحديد من هو الفلسطيني، فهذا حق فردي وجماعي لا يستطع كائن من كان أن يسحبه من الملايين التي تعيش في الشتات، ليس بالضرورة طواعية بل لأن وطنها فلسطين تحت الاحتلال، ولا حل للمشكلة الفلسطينية إلا بزوال ذلك الاحتلال المقيت والفاشي وبناء دولة حرة وديمقراطية غير عنصرية لكل مواطنيها بدون النظر إلى الجنس أو اللون أو الدين أو العرق.
عبدالحميد صيام
القدس العربي