حولت الصناعات العسكرية المتطورة في الولايات المتحدة من نعمة تدر المليارات من الدولارات إلى نقمة تحصد معها الآلاف من الأرواح سنويا وتخلف المآسي والدمار. كما جعلت الباحثين والكتّاب يسلّطون الضوء على تلك التجارة القاتلة التي حوّلت أكبر بلد في العالم إلى آلة للقتل الجماعي داخليا وخارجيا.
واشنطن – لم يتوان توم أنغلهارت المفكر الأميركي ومؤسس موقع توم ديسباتش في تسليط الضوء على فظاعة تجارة الأسلحة وتداعياتها المدمرة على الولايات المتحدة والبشرية جمعاء، وذلك في مقال مطول عدّد فيه كل مآسي تلك التجارة الفتاكة التي تحصد الأرواح يوميا في العالم.
يقول المفكر الأميركي، صاحب العديد من المؤلفات التي تتناول أسرار وطريقة تفكير الإدارات الأميركية المختلفة، إن الأيام الـ73 الأولى من رئاسة جو بايدن للولايات المتحدة سجلت خمس عمليات إطلاق نار جماعية وأكثر من عشرة آلاف قتيل بسبب العنف المسلح.
ويرى أنغلهارت أن هذا “هو النموذج الذي وضعته الدولة الأكثر استثنائية في العالم لبقية الكوكب”، مشيرا إلى أنه في عامي 2020 و2021 كان هناك وباءان في الولايات المتحدة، كوفيد – 19 والبنادق.
ويطلق الكاتب على الولايات المتحدة اسم “إمبراطورة الأسلحة”، باعتبار أن كل القوى الأميركية وصنّاع الأسلحة الذين يرافقونها يحملون الأسلحة وينتجونها ويبيعونها محليا ودوليا بطريقة لا مثيل لها.
ويقول إن أكبر خمس شركات لتصنيع الأسلحة في العالم، وهي لوكهيد مارتن وبوينغ ونورثروب غرومان ورايثيون وجنرال دايناميكس، موجودة في الولايات المتحدة.
ويصف الولايات المتحدة بأنها “أمة قاتلة، آلة قتل جماعي، مذبحة مركزية”، معتبرا أن ذلك عُرف عنها منذ إسقاط القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي في أغسطس العام 1945، وأنه قد يكون هناك ما هو أسوأ بكثير في المستقبل.
ويعطي مثالا للفظاعة التي تنتظر البشرية ضمن خطط البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، حيث تصنع شركة نورثروب غرومان أحدث صاروخ باليستي عابر للقارات بتكلفة 100 مليار دولار على الأقل. ومن المقرر أن يكون كل من أذرع التدمير المستقبلية هذه بطول “ممر البولينغ”، وستكون الشحنة النووية التي يحملها أقوى بعشرين مرة على الأقل من القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما.
ويقول إن هذا الصاروخ، الذي سينضم نهاية هذا العقد إلى ترسانة نووية أميركية لا مثيل لها، سيكون في يوم من الأيام قادرا على السفر لمسافة 6 آلاف ميل وقتل مئات الآلاف من الأشخاص، حيث يخطط سلاح الجو الأميركي لطلب 600 نسخة منه.
لم يتوان المفكر توم أنغلهارت في الغوص في تفاصيل الإحصائيات التي تكشف عمق الخطر الذي يهدد الولايات المتحدة والعالم. ففي الأراضي الأميركية وحدها حيث يتسلح المواطنون بالمزيد من الأسلحة من كل نوع متقدم، تظهر الأرقام ارتفاع مشتريات الأسلحة إلى مستويات قياسية بحوالي 23 مليونا بزيادة 64 في المئة عن مبيعات العام 2019.
وتفيد التقارير بأن المدنيين الأميركيين يمتلكون ما يقرب من 400 مليون سلاح ناري، وهذا ما يصل إلى حوالي 40 في المئة من جميع هذه الأسلحة في أيدي المدنيين على مستوى العالم، أو أكثر من الدول الخمس والعشرين التالية مجتمعة.
ويرى أن “إصدارات تلك الأسلحة في أيدي الجمهور أصبحت أكثر عسكرة وقوة من أي وقت مضى” في تاريخ الولايات المتحدة.
وينقل ما كتب نيكولاس كريستوف كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز “لقد مات عدد أكبر من الأميركيين بسبب البنادق منذ 1975 بما في ذلك حالات الانتحار والقتل والحوادث (أكثر من 1.5 مليون)، مقارنة بجميع الحروب في تاريخ الولايات المتحدة التي يعود تاريخها إلى الحرب الثورية حيث قتل حوالي 1.4 مليون أميركي”.
مليون قطعة سلاح ناري يمتلكها المدنيون في الولايات المتحدة وتسببت في تسجيل عمليات قتل جماعي مفزعة
ويقول أنغلهارت إن الأميركيين بفضل صناعة الأسلحة غير المنظمة فهم مسلحون أكثر من أي مواطن آخر على هذا الكوكب، وأكثر حتى من المدنيين في اليمن الذي تمزقه حرب لا نهاية لها.
ويذكّر كيف دافعت الرابطة الوطنية للبنادق عن حق الأميركيين في امتلاك أسلحة، وكيف تسببت تلك الأسلحة في قتل ما يقرب من 20 ألف أميركي بسبب العنف المسلح، و24 ألفا آخرين استخدموا تلك البنادق للانتحار خلال عام 2020.
ويقول إن الفكرة القائلة بأن الرغبة الأميركية في استخدام الأسلحة بطريقة قاتلة قد تراجعت أو انتهت بأي شكل من الأشكال ولو لفترة وجيزة بفضل الوباء “أثبتت أنها خيال من الدرجة الأولى”.
ويؤكد أنه في عام 2020 سُجل رقم قياسي من الفوضى المسلحة، حيث ارتفعت عمليات إطلاق النار الجماعية بنسبة 47 في المئة.
وذكرت “يو.إس.أي توداي” أنه في العام 2020 أبلغت الولايات المتحدة عن 611 حادثة إطلاق نار جماعي أسفرت عن 513 حالة وفاة و2543 إصابة. وفي العام 2019 كان هناك 417 حادث إطلاق نار جماعي أسفر عن مقتل 465 وإصابة 1707 بجروح.
وينقل عن مكتب التحقيقات الفيدرالي أنه كان هناك ما بين 4 آلاف إلى 5 آلاف جريمة قتل بالأسلحة النارية أكثر من المعتاد، خاصة في المجتمعات غير البيضاء داخل المدن.
ويقول المفكر الأميركي إنه عند الإبلاغ عن القتل وصناعة الأسلحة التي تغذيها، يعتقد القليل في الولايات المتحدة أنه يشمل الوفيات والإصابات الأخرى التي كان الجيش الأميركي مسؤولا عنها في حروبه الأبدية خارج الحدود.
ويضيف “إنهم لا يفكرون في عمليات تسليم الأسلحة الأميركية الضخمة ومبيعاتها إلى دول أخرى والتي غالبا ما تؤدي إلى نفس الشيء” من نتائج القتل والتدمير.
يقول توم أنغلهارت إن واشنطن بلا نظير هي تاجرة الأسلحة المفضلة في معظم أنحاء العالم، وإن الأسلحة الأميركية التي تصنع للداخل الكثير منها يباع إلى الخارج.
ويوضح أنه في سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب كان إتمام مبيعات الأسلحة مثل بيع الطائرات دون طيار إلى حكومات أقل استقرارا أسهل. وأن صانعي الأسلحة في الولايات المتحدة لم يحتاجوا حتى إلى تراخيص وزارة الخارجية عندما يتعلق الأمر ببيع الأسلحة شبه الآلية مثل “أي.آر 15” والقنابل اليدوية وقاذفات اللهب.
ويشير إلى ارتفاع صادرات المسدسات شبه الآلية إلى الخارج بنسبة 148 في المئة في العام 2020.
ويؤكد أن واشنطن هي أكبر مصدر لـ20 من 40 مستوردا رئيسيا للأسلحة في العالم، وهي من الصناعات العسكرية التي تنتجها الشركات الأميركية الخمس من مقاتلات نفاثة مثل “إف – 16″ و”إف – 35” والدبابات والمركبات المدرعة الأخرى والغواصات والقنابل والصواريخ المدمرة.
ويرى المفكر الأميركي أن بلاده تقود جميع منافسيها بطريقة تاريخية خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي مزقتها الحرب المدمرة. ويشير إلى أنه بين عامي 2015 و2019 استحوذت المنطقة على ما يقرب من نصف سوق الأسلحة.
وكتب وليام هارتونغ الخبير في البنتاغون عن تلك السنوات أن شحنات الأسلحة الأميركية إلى المنطقة أضافت ما يقرب من ثلاثة أضعاف الأسلحة التي قدمتها روسيا إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخمسة أضعاف ما ساهمت به فرنسا وعشرة أضعاف ما ساهمت به المملكة المتحدة و16 ضعف ما ساهمت به الصين.
ويقول أنغلهارت إنه “كما هو الحال في العراق واليمن ينتهي الأمر ببعض هذه الأسلحة في نهاية المطاف في أيدي أولئك الذين تعارضهم الولايات المتحدة”.
ويوضح أنه في العام 2020 ارتفعت مبيعات الأسلحة الأميركية إلى الخارج بنسبة 2.8 في المئة أخرى لتصل إلى 178 مليار دولار حيث تزود الولايات المتحدة الآن ما لا يقل عن 96 دولة بالأسلحة وتسيطر على 37 في المئة من سوق الأسلحة العالمية.
ويعتبر أن ذلك هو تعريف الفوضى القادمة بنسختها الدولية بعد الارتفاع المفاجئ في مبيعات الأسلحة المحلية وعمليات القتل التي رافقتها.
يرى الكاتب والمفكر الأميركي توم أنغلهارت أن بلاده مسؤولة عن أعداد لا تحصى إلى حد كبير من القتلى والجرحى حول العالم، حيث تمتلك نحو 800 قاعدة عسكرية تاريخية في جميع أنحاء العالم، وحوالي 200 ألف من الأفراد العسكريين المتمركزين في الخارج بينهم 60 ألفا في منطقة الشرق الأوسط وحدها.
ويقول إنه على عكس الولايات المتحدة فإن هناك طرقا قليلة لتقديم أرقام عن القتلى في الخارج، حيث قدّر مشروع “تكلفة الحرب” في جامعة براون الأميركية أنه منذ بداية غزو أفغانستان في العام 2001 إلى أواخر 2019، قتل 801 ألف شخص وقد يكون 40 في المئة منهم من المدنيين في الحرب على الإرهاب في أفغانستان والعراق وباكستان واليمن وأماكن أخرى.
ويعطي مثالا آخر شديد التركيز قام به من خلال موقعه توم ديسباتش حيث أحصى بين ديسمبر 2001 وديسمبر 2013 عمليات استهداف القوات الجوية الأميركية لحفلات زفاف مدنية في أفغانستان والعراق واليمن، وتوصل إلى أن ثماني حفلات موثقة جيدا بلغ عدد القتلى فيها ما يقرب من 300 شخص بما في ذلك العرائس والموسيقيين والمحتفلين.
وينقل عن تقرير أصدرته نيتا كروفورد أستاذة العلوم السياسية والمديرة المشاركة في مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون إشارته إلى ارتفاع عدد المدنيين الأفغان الذين لقوا حتفهم في الضربات الجوية الأميركية في سنوات ترامب.
وتقول في تقريرها إن الغارات الجوية الأميركية قتلت نحو 700 مدني في عام 2019، أي أكثر من أي عام آخر منذ بداية الحرب.
وقدّر مكتب الصحافة الاستقصائية أن الآلاف من المدنيين لقوا مصرعهم جراء الضربات الجوية الأميركية في بقية أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويقول إن هجمات الطائرات الأميركية دون طيار تسببت في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن بحلول عام 2019 بمقتل ما بين 8.500 إلى 12 ألف شخص بما في ذلك ما يصل إلى 1700 مدني، 400 منهم كانوا من الأطفال.
ويقول أنغلهارت إن هذا “هو مجرد البدء في إحصاء القتلى في صراعات الولايات المتحدة في هذه الحقبة”. ويضيف بالتأكيد قتلت القوات الأميركية والمتحالفون معها أعدادا مذهلة من الناس في صراعات دمرت المجتمعات في جزء كبير من الكوكب، بينما شرد ما يقدر بنحو 37 مليون شخص.
ويعتبر أنه بالعودة إلى هؤلاء الأميركيين الذين قتلوا بالرصاص في الولايات المتحدة فإن هذا يعبر عن “ثقافة سلاح أميركية واحدة” تمتد عبر العالم، ونادرا ما يتم التركيز على الضرر الناجم عن تسليح الثقافة الأميركية وعندما يحدث ذلك تبدو الولايات المتحدة كأنها “مذبحة مركزية”.
العرب