الانتخابات العراقية المبكّرة تضع القضاء العراقي أمام مسؤولية تاريخية

الانتخابات العراقية المبكّرة تضع القضاء العراقي أمام مسؤولية تاريخية

سلّط الاهتمام المتزايد في الساحة العراقية بالانتخابات البرلمانية المقرّرة للخريف القادم والتي توصف بالمحطّة المفصلية في مسار البلد، الضوء مجدّدا على القضاء العراقي نظرا لدوره الضروري في ضمان انتخابات مستجيبة لمقتضيات النزاهة والشفافية التي يطمح إليها دعاة التغيير وخصوصا الشباب الذين فجّروا انتفاضة عاتية كانت سببا مباشرا في إقرار انتخابات مبكّرة.

وتجد الدعوات الكثيرة الموجّهة للقضاء لأخذ دوره في تأمين المناسبة الانتخابية من التلاعب والتزوير، سندها في تجارب انتخابية سابقة عجز القضاء العراقي عن القيام بدوره خلالها بفعل الضعوط الكبيرة المسلّطة عليه وتسرّب الاعتبارات غير المهنية إلى صفوفه، فجاءت مشوّهة وأفضت إلى نقص في شرعية المنتَخبين الذين كثيرا ما أنكر الشارع تمثيلهم له، وهو ما ينطبق بوضوح على الانتخابات التي جرت في 2018 وشابتها خروقات واسعة وأنتجت البرلمان الحالي الذي مثّل إسقاطه مطلبا صريحا للمحتجين.

ورغم الانتقادات الموجّهة للقضاء العراقي فقد بدا مؤخّرا أنّه بصدد القيام بإصلاح ذاتي مستندا إلى الكفاءات والخبرات الكبيرة التي يمتلكها والتي لم تسنح لها فرصة القيام بدورها ووضع بصمتها بفعل الظروف المعقّدة التي عاشها العراق لسنوات طويلة وحالة التداخل الشديد بين السلطات وتسلّط قوى غير دستورية على المشهد العراقي بمختلف تفاصيله السياسية والاقتصادية والأمنية، وحتى القضائية.

ويرى متابعون للشأن العراقي أنّ القضاء في البلد يمرّ حاليا بحالة من ارتفاع المعنويات، بفعل وجود حكومة يقودها مصطفى الكاظمي الذي أظهر رغبة في إصلاح بعض القطاعات في حدود المتاح ورغم ضغوط قوى متنفّذة تمانع الإصلاح حفاظا على مصالحها، ومن ذلك إصلاحاته في القطاع الأمني والعسكري حيث تمكّن من تحييد بعض الأشخاص المسقطين في مواقع مهمّة بحسب معيار الولاء، وتعيين آخرين مشهود لهم بالمهنية والكفاءة.

كذلك اعتُبرت إعادة تشكيل المحكمة الاتّحادية العليا خطوة مشجعّة خصوصا بعد المصاعب التي واجهها إقرار قانون لها في ظل خلافات حادّة حول مقترح بضمّ فقهاء الشريعة الإسلامية إلى تركيبتها.

واعتبر القضاة أنّهم كسبوا جولة مهمّة في معركة تحقيق استقلاليتهم بسقوط المقترح الذي وقفت وراءه قوى إسلامية خدمة لأهدافها السياسية.

كذلك شكل اختيار رئيس جديد للمحكمة هو القاضي جاسم محمود عبود، خلفا للقاضي مدحت المحمود الذي أحيل على التقاعد مدعاة تفاؤل نظرا للسمعة التي اكتسبها الرئيس السابق للمحكمة كـ”صديق للسياسيين” الأمر الذي لطالما مثل مدعاة للتشكيك في حياديته.

كفاءات كبيرة وخبرات وازنة في صفوف القضاء العراقي لم تسنح لها فرصة القيام بدورها في ظل الوضع الشاذّ بالبلد

فقد ارتبط اسم مدحت المحمود بتفسير المادة الدستورية المتعلّقة بتحديد الكتلة البرلمانية الأكبر المخوّلة تشكيل الحكومة. وخلال انتخابات سنة 2010 كان إياد علاوي يستعد لتشكيل حكومة جديدة باعتباره الفائز بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، عندما فوجئ بتفسير المحكمة الاتّحادية برئاسة المحمود للكتلة الأكبر على أنّها الكتلة التي تتشكّل من خلال تحالف أكبر عدد ممكن من النواب خلال أول جلسة يعقدها المجلس بعد انتخابه. وبذلك ذهبت رئاسة الحكومة آنذاك لنوري المالكي على الرغم من أنّ فترة حكمه السابقة التي انطلقت سنة 2006 كانت مليئة بالاضطرابات الأمنية وبالفشل الاقتصادي والتنموي، بينما كانت فترته الثانية التي استمرت حتى سنة 2014 كارثية بكل المقاييس حيث انتهت بشبه انهيار القوات المسلّحة وسيطرة تنظيم داعش على ما يقارب ثلث مساحة العراق.

وقد مثّل ذلك نموذجا على الدور الخطير الذي يمكن أن يقوم به القضاء. وهو دور أهم حاليا في حالة العراق الباحث عن الخروج من أوضاعه السيئة وتحقيق الاستقرار وإعادة إطلاق التنمية شبه المتوقّفة، إضافة إلى واجب محاربة الفساد الذي تحول إلى مطلب أساسي لا يحتمل التأجيل نظرا للتأثيرات الخطرة للظاهرة على مختلف مظاهر الحياة في البلد.

ولن يكون بالإمكان تحقيق أي خطوة في محاربة الفساد المتغلغل في جميع مفاصل الدولة العراقية من دون توفّر قضاء ناجز ومستقل وغير خاضع لأي نوع من أنواع الضغوط والإغراءات.

ويقول عراقيون إنّ المحكمة الاتحادية بتركيبتها السابقة لم تقم بالدور الذي كان منتظرا منها في مراحل عصيبة مرّ بها العراق خلال السنوات السابقة.

ويرى البعض أنّه لا يمكن النظر إلى المحكمة الاتحادية بمعزل عن أوضاع ومشكلات القضاء العراقي الذي تتجاذبه ثلاث قوى لا يمكن أن يتحقق الانسجام في ما بينها، وهي القانون والدين والسياسة.

وقد كان القانون هو الخاسر دائما لأنه لا يمثل مصالح القوى المهيمنة على القرار. لذلك كان القضاء مسيسا، بحيث تعطل العمل بالكثير من القوانين المتعلقة بمحاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين لأنها قد تمس أطرافا في العملية السياسية. وإذا ما كان الإسراع في تأليف المحكمة الاتحادية قد جاء بسبب دنو موعد الانتخابات، فذلك يكشف عن مدى سيطرة العامل السياسي على الحاجة إلى القانون.

فالطبقة السياسية تحتاج إلى تلك المحكمة لتضفي على وجودها في السلطة طابعا شرعيا. ولولا تلك الانتخابات لما سارع مجلس النواب إلى المصادقة على قانون المحكمة التي تظل مشدودة إلى عوامل كثيرة تخرجها من الإطار القانوني الذي يُفترض أن تلتزم به.

وتختصّ المحكمة الاتحادية بحسب ما نص عليه الدستور العراقي بفض النزاعات القانونية بين الرئاسات الثلاث ونقض القوانين المتعارضة مع الدستور وإلغاء القرارات غير الدستورية والتصديق على نتائج الانتخابات.

العرب