تخوض السلطات الهندية معركة شاقة قد تطول ضد تفشي فايروس كورونا وظهور سلالات متحوّرة منه في البلد المكتظ بالسكان. ودفع الإهمال الحكومي في تنفيذ الإجراءات الصحية، في ظل نظام صحي متقادم وعاجز عن توفير اللقاحات، إلى إطلاق صفارات الإنذار من أن البلد سيدخل متاهة لن يستطيع الخروج منها بعد أن تحوّل على ما يبدو إلى بؤرة عالمية لانتشار الجائحة.
نيودلهي – تفشى فايروس كورونا في الهند منذ ظهوره لأول مرة ببطء، ولكن بعد ستة أشهر فقط من الكشف عن أول حالة إصابة مؤكدة، تجاوز البلد روسيا من حيث عدد الإصابات ليحتل المركز الثالث بين الدول التي سجلت أعلى عدد للإصابات في ذلك الوقت.
وبعد ظهور الموجة الثانية للوباء خلال خريف العام الماضي في عدد من البلدان، وضع المراقبون والمختصون في الرعاية الصحية الهند تحت الأنظار، وتساءلوا حول ما إذا يمكن أن ينتهي بالبلد في نهاية المطاف لأن يكون نقطة ساخنة لتفشي الفايروس على مستوى العالم رغم أنها تحتل المركز الرابع بعد الولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك في عدد الإصابات والوفايات، ويبدو أن توقعاتهم تحققت، لكن كيف حصل ذلك.
إهمال وسوء تقدير
المؤكد أن دوافع ما يحصل في الهند الآن كثيرة. ومع أن السبب الرئيسي لتفشي العدوى ارتبط بكونها تضم ثاني أكبر عدد للسكان بعد الصين ويعيش معظمهم في مدن مكتظة، لكن اتضح بالملموس أن قصور نظام الرعاية الصحية ونقص توزيع اللقاحات وقلة الوعي مثلت الأسباب الجوهرية ليتحول البلد إلى بؤرة عالمية لتفشي الوباء أكثر من الولايات
المتحدة.
لكن حتى الحكومة كان لها دور في مساعدة وتحفيز السلالات المتحورة على الانتشار بسبب رفعها للبروتوكولات الصحية رغم التحذيرات مع تراخيها في عمليات الفحص، التي نجحت فيها مع بداية ظهور الوباء وعدم اهتمامها بتوفير الأوكسجين للمصابين، فالنظام الصحي المتقادم يعاني أصلا من نقص التمويل.
وكدليل على ذلك، فقد أعلن عن دخول معظم المستشفيات “العناية المركزة” بعد أن عجزت عن مواجهة الوضع وأطلق الكثير منها استغاثات للحصول على الأوكسجين، مع تفاقم أزمة كوفيد – 19 في البلاد إلى مستويات مروعة في الوقت الذي يضغط فيه تفشي المرض بشكل كبير على أنظمة الرعاية الصحية حول العالم، في ظل غياب أي مؤشرات على قرب السيطرة على الوباء.
وتعد نيودلهي الأكثر تضررا من بين مدن الهند، حيث أبلغت العديد من المستشفيات عن نقص متزايد في الأوكسجين والأسرة والأدوية وسط ارتفاع في الحالات، وطلبت المساعدة من المحاكم. ووصفت المحكمة العليا أزمة الصحة العامة بأنها حالة طوارئ وطنية ووجهت الحكومة لإعداد خطة وطنية.
نقص الأوكسجين دفع معظم المستشفيات إلى الاستنجاد بالمحاكم من أجل الضغط على الحكومة لتوفيره وإنقاذ المصابين
وكتب أحد أكبر المستشفيات الخاصة في العاصمة على تويتر نداء استغاثة قال فيه إن “هناك إمدادات أوكسجين لأقل من ساعة في مستشفى ماكس سمارت وماكس ساكيت وأن أكثر من 700 مريض تم استقبالهم يحتاجون إلى مساعدة فورية”. ومنذ أيام تنشر مستشفيات خاصة أخرى رسائل فيديو وتطلق نداءات مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقال مدير مستشفى دي.أس رانا في نيودلهي، إنه كان هناك عدد كبير من الوفيات جراء الإصابة بكوفيد – 19، لكنه لم يربط تلك الوفيات بنقص الأوكسجين. ومع ذلك أخبر أطباء كبار شبكة أن.دي.تي.في الهندية أن نقص الأوكسجين يمكن أن يكون “عاملا مساهما” في الوفيات.
ولمواجهة المشكلة، تقوم شاحنات صهاريج لنقل الأوكسجين الطبي بتزويد ولايات عديدة في كافة أنحاء البلاد على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. وبدأت طائرات شحن تابعة للقوات الجوية الهندية في توصيل ناقلات الأوكسجين الكبيرة إلى الأماكن التي تعاني من نقص، كما غادر أول قطار “أوكسجين إكسبرس” المركز الصناعي في فيزاغ جنوب البلاد الخميس الماضي، متوجها إلى ولاية ماهاراشترا محملا بشاحنات أوكسجين.
وقبل عام، تمكنت الهند من تجنب نقص الأوكسجين الطبي الذي أرهق نقصه قارتي أفريقيا وأميركا اللاتينية بعد أن حولت أنظمة تصنيع الأوكسجين الصناعي إلى الاستخدامات الطبية لكن المصانع عادت لتزويد الصناعات بالأوكسجين. والآن تواجه العديد من الولايات الهندية نقصا مما دفع وزارة الصحة إلى حث المستشفيات على تطبيق نظام الحصص التموينية.
وكانت الحكومة المركزية قد بدأت في أكتوبر الماضي في بناء مصانع جديدة لإنتاج الأوكسجين الطبي، ولكن بعد ستة أشهر لا يزال من غير الواضح ما إذا كان أي منها قد بدأ في العمل فعليا، حيث تقول وزارة الصحة إنها لا تزال تخضع للمراجعة الدقيقة لاستكمالها مبكرا.
نضوب اللقاحات
ركزت الهند منذ البداية على فحص الكشف عن الإصابات وتتبع صلات المصابين في وقت مبكر، وقد اقتصر الأمر على أولئك الأكثر عرضة للخطر والمتصلين بهم، وقد امتنعت عن التوسع في ذلك ليشمل عموم السكان.
ومن هنا رأى المحللون أن استراتيجية الفحص والتتبع لم تكن كافية ما إن بدأت العدوى في الانتشار بسرعة، ورغم أن ذلك ساعد في احتواء الوباء، لكنه لا يكتشف حالات جديدة. ولتحقيق مبتغاها كان يجب على الحكومة الهندية القيام بإجراء اختبارات لعدد أكبر من الناس قبل أن تصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم.
ومع ذلك، فإن المختصين يعتقدون أن مقارنة أعداد فحوص الكشف التي تجرى بين الدول أمر صعب نسبيا لأن بعض الحكومات تقوم بإحصاء عدد الأشخاص الذين خضعوا لفحوص الكشف، بينما يحصي البعض الآخر عدد فحوص الكشف التي أجراها. وبالتالي قد يحصل لبس في عملية المتابعة إن لم تكن وفق أسس علمية وعملية مدروسة وواضحة.
الهند ركزت منذ البداية على فحص الكشف عن الإصابات وتتبع صلات المصابين في وقت مبكر، وقد اقتصر الأمر على أولئك الأكثر عرضة للخطر والمتصلين بهم
ويرجع البعض الموجة الوبائية التي تشهدها الهند الآن إلى نسخة متحوّرة جديدة للفايروس وهي تعد “طفرة مزدوجة” وسماح الحكومة بالتجمّعات الكبيرة التي تحوّلت إلى مناسبات شهدت انتشار الفايروس على نطاق واسع، حيث بلغت عدد الإصابات الجمعة 332.7 ألف إصابة، في أعلى حصيلة يومية يسجلها أي بلد في العالم لتبلغ في الإجمال 16 مليون إصابة فيما بلغ عدد الوفيات قرابة 170 ألف حالة.
وتفاقمت المأساة مع مصرع 13 مصابا بكوفيد في مدينة بومباي إثر اندلاع حريق في المستشفى حيث كانوا يتلقون العلاج، في آخر حلقة ضمن سلسلة الحرائق التي تشهدها منشآت الهند الصحية. ولا يبدو أن حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي التي ستعقد ثلاثة اجتماعات أزمة لمناقشة إمدادات الأوكسجين ومدى توافر الأدوية الأساسية ستتمكن من التصدي لهذه الموجة الخطيرة.
ومع مطلع 2021 سرت آمال بأن تكون الهند تجاوزت الأسوأ. ودفع ذلك الحكومة إلى السماح بعودة معظم الأنشطة إلى طبيعتها، بما في ذلك الأعراس ومباريات الكريكت والتجمعات الدينية، حيث شارك نحو 25 مليون حاج هندوسي، معظمهم من دون كمامات، في مهرجان كومبه ميلا، الذي يعد أكبر تجمّع ديني في العالم وجرى في مدينة هاريدوار.
ووسط الموجة الجديدة والمتسارعة من الجائحة، ومع سعي معظم دول العالم لتطعيم مواطنيها ضد الفايروس، تواجه الهند، أكبر منتج للقاحات في العالم، مشكلة مع إنتاج لقاحات كوفيد – 19، حيث تشير التقديرات إلى أنها تنتج 60 في المئة من جميع اللقاحات ضد شتى الأوبئة، فضلا عن أنها تحتضن “معهد المصل”، الذي يعد أكبر مصنع للقاحات حول العالم.
وبسبب قدرتها الهائلة على تصنيع اللقاحات، اختيرت الهند لإنتاج لقاحات مضادة لكورونا لصالح مبادرة كوفاكس، التي تشرف عليها منظمة الصحة العالمية لتوفير قرابة 200 مليون جرعة من اللقاح لصالح سكان 92 دولة بما فيها الفقيرة. لكنها الآن تجد نفسها مضطرة إلى أن تتعامل مع أسوأ أزمة تواجهها على الإطلاق بعد أن قامت بتطيعم عدة ملايين من أصل 1.3 مليار نسمة هم تعداد سكانها.
العرب