د. معمر فيصل خولي*
مع إحياء الذكرى السنوية التي تصادف 24 نيسان/إبريل من كل عام، لما بات يعرف إعلاميًا ” إبادة الأرمن”، حسم الرئيس الأمريكي جوزيف يايدن موقف الولايات المتحدة الأمريكية منها، حينما وصف الممارسات التي وقعت على الأرمن من قبل الدولة العثمانية في عام 1915م، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، بأنها ” إبادة جماعية”. وهو أول رئيس أمريكي يستخدم عبارة “الإبادة الجماعية” من بين جميع الرؤساء الذين سبقوه، والذين كانت لهم علاقات مع الدولة التركية.
لا يتم الوصول عبر بيانات السياسية للدول، حتى لو كانت تلك البيانات صادرة عن دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية أو الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إلى حقيقة ما جرى عام 1915م، وإنما كما اقترحت الحكومة التركية الرجوع إلى أرشيف الدولة العثمانية، ولكي تستقيم الأمور أكثر، لا يقتصر الأمر على ذلك الأرشيف، وإنما يمكن اللجوء أيضا إلى أرشيف روسيا القيصرية الداعمة للأرمن، والمملكة المتحدة، اللتين كانتا دولتين رئيسيتين ومتحالفتين معا ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، من أجل الوقوف على الأسباب الحقيقية لتلك الإبادة، ومعرفة الدولة أو الطرف المسؤول عنها.
لكن ما يثير الإستغراب هنا، لماذا يتم فقط التركيز على إبادة الأرمن عالميا وكأنها الإبادة الوحيدة التي وقعت في القرن العشرين، بينما هناك دول أوروبية إستعمارية ارتكبت ممارسات قتل ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ولا يتم تسليط الضوء عليها و لا اختيار يوم في العام للتذكير بها، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، ارتكب الإستعمار الفرنسي العسكري الإستيطاني خلال فتره احتلاله للجزائر والتي امتدت إلى 132 عاما، إبادة جماعية مادية ومعنوية في نفس الوقت بحق الشعب الجزائري.
فعلى الجانب المادي لم تتوانى فرنسا عن استخدام أبشع الأساليب في قمع الحركات الوطنية الجزائرية، كالمجزرة التي وقعت في 8 أيار/ مايو عام 1945م، من قبل الجيش الفرنسي المتحالف مع قوى الشرطة ومليشيات المستوطنين الأوروبيين والتي راح ضحيتها ما يقارب 45 ألف جزائري، وهو رقم يقترب من الرقم الذي ذكره القنصل الأميركي في الجزائر تاريخ وقوع المجازر (40 ألف قتيل). أما المؤرخون الفرنسيون فيتحدثون عن 15 ألفا إلى عشرين ألف قتيل. وهذه الإبادة ما هي إلا دليل بسيط على نهج الإبادة المادية الوحشية المتبعة من قبل الإحتلال الفرنسي – آنذاك- ضد الشعب الجزائري.
وكانت الإبادة المادية منسجمة تماما مع الإبادة المعنوية “الهوية” للشعب الجزائري، ففرنسا الإستعمارية حاربت بشراسة اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية، لكنها في المقابل دعمت بقوة نشر الثقافة واللغة الفرنسية في الجزائر. وهذه الإبادة بشقيها المادي والمعنوي حاولت إيطاليا الإستعمارية الإستيطانية تطبيقها في ليبيا لكنها لم تنجح في نهاية المطاف.
أما ما يثير الدهشة حقًا، هو أن يصدر الإعتراف بإبادة الأرمن من قبل جوزيف بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الدولة من خلال ممارساتها غير مؤهلة من الناحية الأخلاقية في إصدار ذلك الإعتراف. والشاهد على ذلك، سجلها التاريخي في القرن العشرين فقط الحافل بالإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فمن أجل إنهاء الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس هاري ترومان بإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، ليسقط أكثر من مئتي ألف قتيل، ومئات الآلاف من المصابين. ولما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام بين عامي 1962ـ 1975، حيث وصف الإعلام الأمريكي ممارساتها هناك، بأنها بشعة وغير إنسانية التي راح ضحيتها مليون قتيل، وثلاثة ملايين جريح، وإثنى عشر مليون لاجىء.
أما العراق وبعد حرب تحرير الكويت في عام 1991م، استمرت الولايات المتحدة الامريكية في فرض حصار شامل أسفر عن موت ما لا يقل عن مليون مواطن عراقي معظمهم من الأطفال، وعندما سئلت مادلين أولبرايت وزيرة الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق عن هذا الموت، أجابت بغطرسة إستشراقية إستعمارية «أعتقد أن الأمر يستحق تلك التكلفة». ولم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بذلك وحسب، بل بذريعة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل أقدمت على احتلاله في 9 نيسان/ إبريل عام 2003م، دون الحصول على موافقة الأمم المتحدة، ليتحول العراق من قوة إقليمية إلى دولة فاشلة، وبقية قصة المعاناة العراقية من قتل وتشريد مستمرة ليومنا هذا، ويعلمها القاصي والداني.
بعد هذا الفيض من غيض الممارسات الأمريكية، ناهيك عن انحيازها المطلق لجرائم الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، هل بعد ذلك، هل يمكن لنا الاقتناع بأن إعتراف إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بإبادة الأرمن مردها الاعتبارات الأخلاقية، بالطبع لا. وإنما مرده تباين الرؤى والمواقف بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا حول جملة من القضايا الإقليمية والدولية.
فتركيا في عهد حكومة العدالة والتنمية رسمت لنفسها طريق في تحديد خياراتها السياسية على المستوى الإقليمي والدولي بما ينسجم مع المصالح العليا للدولة التركية، وهذا الأمر إن جاز لنا التعبير سبب ” صداع سياسي” لبعض الدول الغربية والأوروبية،التي تتناقض مع تلك التوجهات، لذالك على الدولة التركية إنهاء هذا الجدل- كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا- حول تلك القضية من خلال إيجاد مخرج تاريخي وقانوني حصيف لها، هذا المخرج سيقطع الطريق على الابتزاز والمساومة في المزاد السياسي السنوي الذي يمارس ضدها.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الستراتيجية