حياة الشباب في العراق محكومة بسلطة العشيرة

حياة الشباب في العراق محكومة بسلطة العشيرة

تنص الأعراف والتقاليد عند العشائر والقبائل على نصرة الضعيف والمظلوم، لكنها مقولة قديمة لا وجود لها اليوم في العراق، بل أصبحت أحكام العشائر سيفا مسلطا على الجميع لم يستطع الشباب العراقي الإفلات منه لسطوتها ونفوذها الذي يفوق سلطة القانون والأجهزة الأمنية.

بغداد – تحكم العادات والتقاليد العشائرية الراسخة معظم شؤون العراق، وتؤثر على مختلف نواحي حياة الشباب المنقسمين بين رافض ومؤيد له، لكنهم في كلا الحالتين غير قادرين على الإفلات من قيودها الكثيرة.

وفرضت حالة الانفلات الأمني والفوضى التي يعيشها العراق على الكثير من الشباب الاختيار بين الانضمام إلى الأجهزة الأمنية أو الانتماء إلى إحدى العشائر المتنفذة في الحكومة والمليشيات، ولأن سلطة العشائر ونفوذها يفوقان سلطة القانون فإن الاختيار يقع على الجهة الأقوى.

لا خيارات
أصبحت السيطرة في العراق بعد عام 2003 لمن يمتلك السطوة والسلاح، فحتى العشائر التي كانت ملاذاً للخائف بدت اليوم هاجساً يلاحق العراقيين.

وتحتاج عروض الانضمام إلى عشيرة معينة إلى أن يدفع الشاب مبالغ مالية إلى زعيم القبيلة أو العشيرة ليكون ضمن أفرادها، وليتمتع بالحماية من أي اعتداء من قبل عشيرة أخرى.

وقال همام (اسم مستعار) الذي تعرض إلى تهديد من إحدى العشائر بسبب مشكلة وجد نفسه مقحما فيها: “انضممت إلى عشيرة من خلال دفع مبلغ مالي وقدره 25 ألف دينار عراقي أي ما يقارب 20 دولاراً أميركياً تذهب إلى صندوق العشيرة”.

وأضاف “عشيرتي الجديدة التي انتميت إليها ستتكفل بالتدخل في حل المشاكل كحوادث السير والشجار، والتدخل لدى العشائر الأخرى لحل النزاعات البسيطة”.

وأوضح أنه كان يقود سيارته في أحد شوارع بغداد فأوقفه عدد من الشباب يحملون شخصاً قد تعرض لحادث سير، وأوصل المجموعة مع الشخص المصاب إلى المستشفى، بعدها طالبه مرافقو المصاب بضرورة جلب عشيرته بغية عقد فصل عشائري ودفع مبلغ مالي.

وتابع: “أغلب أقربائي هاجروا من العراق ولم يتبق منهم إلا القليل؛ لذلك اضطررت إلى تسجيل اسمي مع إحدى القبائل الكبيرة في العراق؛ وذلك من أجل التفاوض مع العشيرة الأخرى”.

وتنص الأعراف والتقاليد عند العشائر والقبائل على نصرة الضعيف والمظلوم؛ لذلك من لا يمتلك عشيرة قوية أو من الأقليات مثل الصابئة أو المسيحية يقصدون عشائر كبيرة؛ لحمايتهم من الشجار أو حوادث السير، ويعتبر هذا العرف من الأعراف النبيلة عند العشائر في العراق.

الانتماءات العشائرية تؤثر على وضع الشباب على جميع المستويات الرسمية والاجتماعية، وتصل إلى التحكم في الارتباط

لكن يبقى هذا نظريا في حين أن الكثير من الأشخاص يدعون بأنهم شيوخ عشائر لكنهم مدعومون من بعض قيادات فصائل الحشد الشعبي أو من قبل شخصيات بارزة، ممَّا يعطيهم حصانة تحميهم من المساءلة القانونية في حالة ارتكابهم مخالفات يحاسب عليها القانون يقومون بجمع المال بشتى الوسائل من المواطنين.

وأفاد محمد الصيهود، نائب رئيس لجنة العشائر البرلمانية السابق وشيخ عموم قبيلة “السودان”، في تصريح صحافي سابق أن “ظاهرة العشائر التي تعمل وفق الاشتراك الشهري قد انتشرت كثيراً في الفترة الأخيرة، حيث أغلب الشباب في بغداد بدؤوا يتوجهون للانتماء إلى العشائر لضمان قوة إلى جانبهم”.

وأضاف أن “شيوخ العشائر الحقيقيين معروفون وهم معدودون، لكن الوضع العام في البلد أدى إلى بروز مدعي المشيخة، وهم في الحقيقة تجار مشاكل هدفهم الحصول على مبالغ مالية بشتى الطرق”.

وأشار إلى أن هناك عمل جاد من قبل شيوخ العشائر، وبتنسيق من قبل وزارة الداخلية، لنبذ بعض العادات والتقاليد القديمة، ويعني مصطلح “الدكة العشائرية” مرحلة التحذير، وهو تقليد يعود لقرون عدة. لكن مع انتشار السلاح بشكل متفلت خلال دوامة العنف التي شهدتها البلاد، أصبحت تلك العادة خطرا كبيرا.

وتتلخص “الدكة العشائرية” بإقدام مسلحين ينتمون لعشيرة على تهديد عائلة من عشيرة أخرى، من خلال عملية إطلاق نار أو إلقاء قنبلة يدوية أحيانا، على منزل المقصود، كتحذير شديد اللهجة لدفعها على الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف. وفي حال عدم موافقة الطرف المستهدف، تتطور الأمور لتؤدي إلى وقوع ضحايا من الطرفين.

وأخذت “الدكة العشائرية” منحىً خطيراً بعد أن شاعت في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، إذ لم يعد هذا العمل مقتصرا على إطلاق نار فقط بل وصل مرتكبوه إلى استخدام أسلحة متوسطة كالرمانات والقاذفات المضادة للدروع، ما أدى إلى سقوط ضحايا جراء هذه الأعمال.

وطلب عدد من قيادات العمليات وضمنها قيادة عمليات بغداد من القضاء إبداء رأيه بشأن تشديد عقوبة المتهمين بهذه الأعمال، وبانعقاد جلسة مجلس القضاء الأعلى الدورية في ديسمبر 2018، أصدر قراره الفصل باعتبار “الدكة العشائرية” إرهاباَ وفق المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب رقم (13) لسنة 2005، التي تنص على أن “التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه يعد من الأفعال الإرهابية”.

لكن حتّى بعد تجريمها وانحسارها بشكل ملحوظ، ما زالت ظاهرة “الدكة العشائرية” موجودة ولم تنته في ظل عدم إمكانية تدخل القوات العسكرية العراقية لفض بعض النزاعات العشائرية، بسبب الخوف من إقحام عناصر هذه القوات كطرف ثالث في المشكلة.

وتشهد مناطق متفرقة في العراق وضمنها بغداد، هجمات مسلحة مماثلة يوميا يقودها عدد من شباب العشائر، الأمر الذي يؤدي إلى سقوط ضحايا وبث الرعب بين الناس.

وفي بغداد كما في كل محافظات العراق، تغيب أي إحصاءات رسمية لعدد ضحايا العنف العشائري، رغم حساسية المسألة.

ويحمل عدنان الخزعلي، أحد زعماء عشائر مدينة الصدر في شرق بغداد، “الحكومة مسؤولية تصاعد النزاعات العشائرية”.

ويعتبر أن ضعف القوات الأمنية اليوم، سببه فقدان السيطرة على انتشار السلاح الذي يصل إلى أيدي الشبان العاطلين عن العمل في بلد تنخره البطالة والفساد.

شرطة عاجزة
ونتيجة لذلك “غالبية الشباب اليوم مسلحون، ولا تستطيع حتى القوات الأمنية الوقوف في طريقهم”.

وتتفق الآراء على أن هذه الظاهرة تتزايد لأن القضاء لا يمارس ضغوطا كبيرة بمواجهة هذه العادات. فرجال الشرطة الذين يخافون أن يجدوا أنفسهم عالقين وسط نزاع عشائري، لا يمكنهم التدخل.

كما أن ضعف القانون هو السبب للجوء إلى الأعراف العشائرية لتسوية الخلافات، ووفق تعبير همام أن “المجتمع أصبح اليوم أشبه بالغابة، لذا يلجأ المواطن إلى العشيرة” لإحقاق العدالة.

ويقول شرطي يدعى علي، إنه أجبر على دفع 12 مليون دينار (حوالي 9600 دولار)، بينما دفع زميله ثمانية ملايين (6400 دولار) لتسوية نزاع عشائري نشب بفعل اتخاذ إجراءات أمنية لفرض القانون في إحدى مناطق بغداد.

ووقع الحادث إثر قيام موقوف لدى الشرطة بتوجيه ضربة إلى علي الذي قام بدوره بالرد وضربه بعصا ما أدى إلى إصابته بجرح في رأسه.

وبعد مرور نحو ثلاثة أسابيع، تلقى مركز الشرطة الذي يخدم فيه علي، تهديدا عشائريا وطلبا بإقامة مجلس عشائري لمحاسبة الضابط والشرطي لتسوية الأمر. وفي حال رفضهما، ستتم تسوية الأمر من جانب أبناء العشيرة.

غالبية الشباب مسلحون وينتمون إلى العشائر حتى أن القوات الأمنية لا تستطيع الوقوف في طريقهم بسبب ضعف القانون في العراق

ويؤكد علي أنه حاول الاستعانة بمسؤولين في الشرطة، لكنهم رفضوا إقحام وزارة الداخلية بمشاكل عشائرية، رغم أن الحادث وقع خلال تأديته لمهامه كشرطي. لذا، لم يكن أمام علي سوى تسوية الأمر عشائريا.

ويقول الشرطي بغضب “الآن، حتى لو رأيت أشخاصا لا يحترمون القانون، لن أتدخل أبدا”، مؤكدا “لا أريد أن أكون ضحية وأقع في مشاكل. إذا اعتقلنا أحدا، سواء كان مجرما أو مشتبها به، نلاحَق عشائريا”.

وتؤثر الانتماءات العشائرية في العراق بشكل كبير على وضع الشباب على جميع المستويات الرسمية والاجتماعية، وتصل إلى التأثير في الارتباط والزواج، بل إنها تصل إلى حد التدخل في اللباس والنشاطات الاجتماعية أو الخيارات الحياتية، فأحد عارضي الأزياء ترك المهنة نهائيا لرفض عشيرته لها، وآخر قال أن شيخ العشيرة جعله سخرية بسبب تسريحة شعره.

وتحدث الشاب أحمد عن معاناته بسبب نهيه عن الزواج من الفتاة التي أحبّها خلال دراسته الجامعية في إحدى الجامعات العراقية بحكم الظواهر الاجتماعية والقبلية التي تمنع هذا النوع من الزواج، رغم حصوله على الموافقة المبدئية من أهل الفتاة.

وأضاف: “لم أكن أعلم ولا الفتاة أو حتى أهلها أن أحداً من أبناء عمومتها يرغب بالزواج من فتاة أحببتها وأحبتني لسنوات عديدة”. ولفت إلى أنه تلقى اتصالاً هاتفياً في ساعة متأخرة من الليل من أحد أبناء عمومتها يهدده بالقتل إذا اقترب من الفتاة مرة أخرى.

وأضاف أنه أصبح هو وحبيبته التي أُجبرت على الزواج من ابن عمها بعد ضربها بشكل مستمر من ذويها ضحية لتقاليد وسنن عشائرية ظالمة”، مبيناً أن “المرأة وُئدت مرتين؛ الأولى في زمن الجاهلية بعدما كانت تدفن وهي حية، والثانية في زمن الإسلام والديمقراطية وذلك من خلال إجبارها على الزواج من ابن عمها تحت مسميات الأعراف والتقاليد”.

وتعتبر ظاهرة “النهوة العشائرية” من أبرز مظاهر العنف ضد النساء في العراق، حيث تجبر فيها الفتاة على قبول الزواج من ابن عمها رغم عدم قبولها لها في بعض الأحيان.

ونتيجة لاستفحال ظاهرة “النهوة العشائرية” بشكل لافت وارتفاع نسبة ضحايا هذا العرف العشائري، وجّه مجلس القضاء الأعلى في العراق باعتبار “النهوة العشائرية” جريمة وبمعاقبة مرتكبيها، لكنها مازالت تمارس.

ويؤكد أستاذ الأمن الوطني في جامعة النهرين حسين علاوي أن “الأعراف العشائرية تؤثر في المجتمع العراقي”.

وأضاف علاوي “خلال السنوات العشر الماضية، لم تكن هناك إجراءات رادعة في هذا الاتجاه”، مشيرا إلى أن “هناك من يتمادى ويستغلّ اسم العشيرة للإساءة والتأثير على عمل المؤسسة الأمنية”. ولفت إلى أن “لهذا الأمر تأثيرا سلبيا يعيق وينعكس حتى على الاستثمارات الأجنبية”، معربا عن أمله في أن “تمارس العشيرة دورا في دعم فرض القانون ومساندة القوات الأمنية”.

وسبق للعراق أن ألغى عام 1958 قانون العشائر، وقضى على سلطة القبيلة السياسية، وحوّلها إلى هيئة اجتماعية ريفية يمكن للمرء الرجوع إليها للمشورة. لكن الفراغ السياسي بعد عام 2003، عقب سقوط النظام العراقي السابق، أعاد للعشائر نفوذها من جديد، وسط غياب شبه تام للعدالة الاجتماعية وتطبيق القانون مع انتشار واسع للفساد في معظم مؤسسات الدولة.

العرب