كان أمراً طبيعياً أن تتطور قضية حي الشيخ جراح في القدس المحتلة من مجرد دليل جديد على الطابع الاستعماري والاستيطاني الذي قامت عليه ركائز الكيان الصهيوني قبل نكبة 1948 وبعدها، إلى سلسلة مترابطة من البراهين المتجددة على مظاهر المأزق الذي تواجهه دولة الاحتلال، على أصعدة داخلية وإقليمية ودولية في آن معاً.
وإذا كان المظهر الداخلي الأول قد تجلى في خضوع حكومة الاحتلال إلى اشتراطات مجموعات الضغط الاستيطانية وتسعير القضية مجدداً أمام المحكمة الإسرائيلية، فإن المأزق سرعان ما تجسد في تخبط سلطات الاحتلال بين ارتكاب العدوان تلو العدوان ضد باحات الأقصى، والتماس تأجيل النظر في القضية أمام المحكمة، ومنع غلاة المستوطنين من إحياء الاحتفالات بما يُسمى «يوم القدس» قبل الاضطرار إلى السماح لأعداد منهم بالاحتفال تحت رعاية شرطة الاحتلال وبذريعة حماية أعضاء الكنيست المتطرفين الذين توافدوا على المدينة القديمة لهذا الغرض.
ومن الواضح أن انتفاضة الأقصى الجديدة هذه، وليس هبة حي الشيخ جراح وحدها، وضعت بنيامين نتنياهو وغالبية القيادات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الاستمرار في الرضوخ لضغوطات الاستيطان، أو الانزلاق أكثر فأكثر نحو مواجهة الانتفاضة الفلسطينية في غمرة حرج متزايد أمام ضغوطات أصدقاء الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذين لم يعد في وسعهم تغطية همجية الاحتلال.
على صعيد إقليمي كانت الهمجية ذاتها قد أحرجت أصدقاء الاحتلال الجدد من الأنظمة العربية التي تهافتت على التطبيع مع كيان لا يواصل احتلال الأرض وضمها وإقامة المستوطنات عليها وانتهاك القانون الدولي كل يوم فحسب، بل يطرد السكان الأصليين من بيوتهم وأملاكهم أو يهدمها على رؤوسهم، مسقطاً ورقة التوت ذاتها التي تذرع بها المطبعون في لهاثهم إلى تبرئة الاحتلال وتجميل وجوهه القبيحة النكراء. صحيح أن بعض وسائل الإعلام التابعة لتلك الأنظمة قد بذلت كل جهد للهرب إلى أمام في قضية الشيخ جراح وانتفاضة القدس المتجددة، ولكن من الصحيح أيضاً أن ذلك الهروب كان ورطة في حد ذاته.
وعلى صعيد خارجي، وضمن جبهة مناصري دولة الاحتلال في مجلس الأمن الدولي، فإن اللهجة الخجولة في حث الحكومة الإسرائيلية على ضبط النفس أو الالتزام بالمواثيق الدولية كانت تخفي مزيجاً من الحرج والضيق إزاء سياسات التنكيل والعنف وانتهاك المقدسات. ولم يكن اتصال مستشار الأمن القومي الأمريكي بنظيره الإسرائيلي سوى الوجه المعلن لارتباك الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة وأنها ترث حصيلة ثقيلة من انحياز أعمى لدولة الاحتلال كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قد اعتمدته على حساب الحقوق الفلسطينية.
وأمام جلل الحدث والزخم الشعبي الهائل الذي أسفرت عنه شتى أشكال الحراك الشعبي الفلسطيني في باحات الأقصى والبلدة القديمة وسائر فلسطين، لا يكفي أن تدعو السلطة الوطنية إلى انعقاد مجلس الأمن الدولي أو منظمة التعاون الإسلامي أو الجامعة العربية، والمطلوب أن تكون مؤسسات السلطة كافة في حال استنفار ميداني شامل وفي قلب الحراك، وتوفير كل الوسائل الكفيلة بتصليب المقاومين وإسناد الانتفاضة.
القدس العربي