توقّع المحللون لسنوات أن تدفع مواقف تركيا وروسيا المتعارضة بالبلدين إلى صدام عسكري مباشر داخل سوريا. لكن خلال النزاع السوري، أظهرت هاتان القوتان قدرة على التوصل إلى تسويات ناجحة من خلال مصالح مشتركة، رغم أجنداتهما المتعارضة الرامية إلى توسيع نفوذهما في المنطقة.
وهذا المنحى ينذر بالسوء لأكراد سوريا، الذين غالبًا ما تجمعهم علاقات تصادمية علنية مع البلدين وحلفائهما في المنطقة. وعليه، وفيما تصيغ إدارة بايدن سياستها إزاء سوريا، يأمل حلفاء الولايات المتحدة الأكراد أن تحول الإدارة دون تحكّم تركيا وروسيا بشروط أي حل سياسي في سوريا.
وتُعتبر قدرة روسيا وتركيا على إبرام تسويات في سوريا مفاجئة نظرًا إلى أدوارهما التي يُفترض أن تكون متضاربة في النزاع السوري. ففي حين تدعم روسيا نظام الأسد الحاكم، تقدّم تركيا الدعم بشكل رئيسي لقوات المعارضة السورية الإسلامية. وبالفعل، في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بلغت العلاقة التركية-الروسية في سوريا أدنى مستوياتها حين أسقطت تركيا مقاتلة روسية قرب الحدود التركية-السورية. لكن بعد محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، أعاد أردوغان توجيه تركيزه على التدابير الاسترضائية، ما يُظهر كيف أن المخاوف المحلية عزّزت مساعيه لتقليص التوتر في مجالات أخرى من السياسة التركية.
ومنذ ذلك الحين، أظهرت روسيا وتركيا قدرة مفاجئة على تجنّب الدخول في نزاع. وتُعتبر إدلب – وهي معقل للمتمردين الجهاديين وتضمّ عددًا كبيرًا من المدنيين ويمثل حدود منطقة سيطرة القوات المدعومة من تركيا – خير دليل على كيفية تبلور التسويات بين روسيا وتركيا. ففي مطلع العام 2020، تقدّمت قوات النظام السوري بدعم روسي باتجاه إدلب، وأغارت الطائرات الحربية الروسية والسورية على القوات التركية الموجودة هناك، ما تسبب بمقتل 33 جنديًا تركيًا. مع ذلك، أُبرم في الشهر التالي اتفاق وقف إطلاق نار بين تركيا وروسيا، وتجنّب مذاك كل من بوتين وأردوغان بشكل دائم أي تصعيد في إدلب، الأمر الذي يدل على مصلحة مشتركة في متابعة المفاوضات استنادًا إلى الاتفاقات المبرمة في أستانا-سوتشي مع إيران.
وفي إطار هذا السعي وراء المصالح المشتركة، استفادت روسيا حتمًا من الشرخ بين تركيا وقوى أخرى في حلف “الناتو”، تعتبرها موسكو بمثابة خصوم مباشرين. كما استفادت روسيا من صفقات عمل مربحة مع تركيا، بما فيها عمليات بيع معدات عسكرية وخطوط أنابيب غاز، إضافةً إلى عقد لبناء مفاعل نووي.
قوة الطموحات الموازية
وإلى حد كبير، يأتي اهتمام موسكو وأنقرة المتبادل في الحفاظ على شراكتهما والتعاون بينهما في سوريا في جزء كبير منه من معارضتهما المشتركة لنفوذ الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا وتعاونها مع الجماعات الكردية السورية. وبالتالي، وفيما يتعلق بالإدارة الذاتية بقيادة كردية في شمال شرق سوريا، يمثل هذا التعاون القائم مبعث قلق بشكل خاص. فأي من بوتين أو أردوغان لا يرغب في وجود إقليم كردي مستقل شمال شرق سوريا مدعوم من الولايات المتحدة والغرب – ولا سيما إذا أدّى إلى وجود عسكري ودبلوماسي أمريكي فيه محدود، إنما دائم.
فضلًا عن ذلك، يرى الكثير من أكراد سوريا في النفوذ الروسي والتركي المتزاحم في بلادهم مساعيَ لطالما راودت البلدان من أجل ترسيخ القوة في المنطقة بأسلوب الإمبراطوريات التاريخي. ويفهم بوتين جيدًا شخصية أردوغان وطموحاته الرامية إلى التوسّع وإحياء الهوية العثمانية، كما يعتبر بوتين نظيره التركي رجلًا قويًا يمكنه التعاون معه في سوريا، رغم الخلافات بشأن مسائل إقليمية ودولية أخرى.
ونظرًا إلى الأضرار التي لحقت بالمدن الكردية في سوريا نتيجة التنسيق الروسي-التركي، يخشى أكراد سوريا بشكل خاص الخطط التوسعية المتوقعة للبلدين. فبالنسبة للجماعات الكردية، إن سحب روسيا غير المبرر لقواتها وقبولها بعملية “غصن الزيتون” التي نفذتها تركيا في 2018، يظهران بشكل مثير للقلق إلى أي مدى يمكن للطرفين أن يدعما طموحات بعضهما البعض لحصد نتائج تعود بالفائدة على الدولتين. يُذكر أنه بعد تصدي القيادة الكردية للضغوط الروسية الهائلة من أجل القبول بإقامة تحالف مع نظام الأسد وتسليم أراض كردية إلى الجيش السوري، سحبت روسيا قواتها من المنطقة وسمحت لتركيا وللفصائل السورية المتطرفة باحتلال مدينتيْ تل رفعت وعفرين الكرديتين الرئيسيتين.
وفي العام نفسه، أرغمت تركيا بدورها ميليشيا “جيش الإسلام” المدعومة منها على تسليم أراض في الجزء الشرقي من الغوطة الواقعة خارج دمشق إلى نظام الأسد وروسيا. كما تنازلت تركيا عن حلب لصالح روسيا ونظام الأسد في العام نفسه، ما خولهما السيطرة على 70 في المئة من سوريا.
ويبدو أن هذه السياسات لا تزال سارية. واليوم، تبذل القوات الروسية جهودها لتجنّب شنّ ضربات على ميليشيات المعارضة المدعومة من تركيا حين تكون مدن كردية في قبضتها، ما يسمح لتركيا وحلفائها بالحفاظ على سيطرتهم على الأراضي الكردية من دون أي تهديد. وما يقض مضجع القادة الأكراد أكثر ، هو اتفاق روسيا وتركيا على إجراء دوريات عسكرية مشتركة في هذه المناطق في آذار/مارس 2020، حيث تمثّل الرد الكردي برمي الحجارة على جنود الدورية.
آثار التعاون الروسي-التركي على النزاع السوري
في إدلب، المحافظة الأخيرة التي تسيطر عليها تركيا من خلال الفصائل الإسلامية السورية، تلوح أزمة في الأفق يمكنها بسهولة أن تتحول إلى نزاع عنيف في حال ممارسة أي ضغوط. لكن نزاعًا لا يصب في مصلحة أي من بوتين أو أردوغان. عوضًا عن ذلك، يعتبر الرئيسان إدلب بمثابة بطاقة ضغط ضد أوروبا والولايات المتحدة.
وعليه، من المرجح أن تتعاون روسيا وتركيا للإبقاء على حالة المراوحة في إدلب. فنظرًا إلى مخاوف أردوغان المحلية الجدية والأزمات الاقتصادية التي تعصف حاليًا ببلاده، من المحتمل أن يكون لروسيا الكلمة الفصل في أي اتفاق روسي-تركي. وفي إطار اتفاق مماثل، ستسيطر روسيا على إدلب، كما أن هذا الترتيب قد يمنح روسيا وتركيا نفوذًا في المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة حيال التوصل إلى حلول سياسية للنزاع السوري. وفي حال إبرام اتفاق مماثل بشأن إدلب، يمكن لبوتين وأردوغان الترويج لسردية مفادها أن البلدين يديران دفة الحرب في سوريا، حتى لو كانت لروسيا الكلمة الفصل في هذا الترتيب.
ويشير الاجتماع الثلاثي الذي عقد في 11 آذار/مارس 2021 بين روسيا وتركيا وقطر، حليفة أنقرة، إلى احتمال بلورة إطار عمل مماثل. ورغم أن المحادثات شددت على تقيّد المشاركين بـ”منصة أستانا” التي أسستها روسيا وتركيا وإيران في أيار/مايو 2017، إلا أنها رسخت مجموعة جديدة من المصالح المشتركة ضمن العلاقة الروسية-التركية بشكل خاص. فهذه “المنصة” الروسية-التركية الجديدة تركز على المساعدات الإنسانية وعلى وضع دستور جديد يضمن “حلًا سياسيًا” لسوريا، وكل ذلك في إطار اتفاق على بقاء بشار الأسد في السلطة. كذلك، ستساهم المنصة، بشكل غير مباشر ومن منظور سياسي-عسكري، في مواجهة الأكراد، حلفاء واشنطن، وفرض أمر واقع على إدارة بايدن والسياسة التي تنتهجها في سوريا.
حلول وتوصيات واقعية
يقلق توطيد التعاون بين تركيا وروسيا في سوريا كثيرًا حلفاء أمريكا الأكراد في شمال شرق البلاد، ويلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية – سواء في سوريا أو على نطاق أشمل. وفي وقت يرتكب فيه أردوغان جرائم حرب بحق الأكراد في شمال سوريا، يواصل أيضًا شراء الأسلحة الروسية ودعم الجماعات الإرهابية المسلحة. كما أثبت الرئيس التركي استعداده – بالتوافق مع بوتين وخامنئي – لاستخدام الحرب السورية كوسيلة لتحقيق مصالحه في المنطقة. ومن هذا المنطلق، يحاول أردوغان استغلال المفاوضات للتوصل إلى حل سياسي في سوريا من أجل تجنّب الاتصالات الدولية بشأن ضمان حكم وتمثيل ديمقراطي في البلاد.
وتضع كل هذه العوامل إدارة بايدن في وضع صعب بينما تعمل على صياغة سياسة جديدة حول سوريا. فمع تبنيها موقفًا أكثر عدائية أساسًا تجاه أردوغان بالمقارنة مع إدارة ترامب، قد يجعل زيادة تركيا لتعاونها مع روسيا في سوريا من العلاقات الأمريكية-التركية والدبلوماسية في حقل ألغام. وتؤكد أفعال أردوغان الماضية، سواء في سوريا أو في تركيا، صعوبة التخفيف من ميوله الاستبدادية المتزايدة وإصلاح علاقاته مع الحليف المثير للمشاكل في “الناتو”.
وعليه، يتطلع حلفاء الولايات المتحدة الأكراد إلى وزارة الخارجية لاتخاذ موقف واضح وحازم تجاه تركيا لمواجهة مسألة التعاون مع روسيا وإيران في سوريا، بحيث ترغمها على الاختيار بين تحالفها مع “الناتو” ومصالحها المشتركة مع هذين النظامين. وقد يكون هذا الموقف فعالًا بشكل خاص في حال تمكن الدبلوماسيون الأمريكيون من إقناع الدول العربية، بالتعاون مع التحالف الدولي والأمم المتحدة، بإرسال قوات مشتركة إلى إدلب والمناطق الحدودية مع تركيا والعراق من أجل الحفاظ على السلام ومنع الاقتتال إلى حين انتهاء مفاوضات جنيف بشأن سوريا.
علاوةً على ذلك، يتطلع السوريون إلى الولايات المتحدة كي تتخذ خطوة دبلوماسية مهمة على صعيد معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها روسيا وتركيا وإيران وميليشيات المعارضة السورية في البلاد. وكانت إدارة بايدن ركزت أساسًا على إيلاء الأهمية مجددًا لانتهاكات حقوق الإنسان، لكن حتمًا بوسعها اتخاذ المزيد من التدابير بشأن سوريا. وتتمثل إحدى الخطوات بالتعاون مع الحلفاء والأمم المتحدة لتشكيل لجنة تحقيق دولية من أجل دراسة هذه الانتهاكات وغيرها من جرائم الحرب المرتكبة خلال النزاع السوري. وستكون اللجنة أداة لممارسة ضغوط دبلوماسية على كافة أطراف النزاع في سوريا.
كذلك، على الولايات المتحدة التركيز على إعادة تنظيم صفوف الجماعات السورية المعارضة السلمية والديمقراطية في مسعى لتأهيل المعارضة السورية للحوار السياسي مع نظام الأسد من خلال مفاوضات جنيف. وبغية تحقيق هذا الهدف، على الولايات المتحدة والقادة الأكراد طرد الجماعات المسلحة والإسلاميين الذين ارتكبوا جرائم حرب من القوات المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة. فهذه الجهات، بسلوكها العنيف هذا، لا تساهم سوى في تعزيز الأجندة التركية.
لكن الأهم أنه يجب أن تساهم الجهود الأمريكية المبذولة في المنطقة في ترسيخ وجود عسكري أكثر فعالية في شمال شرق سوريا. فإعادة تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، ولا سيما الوجود، يرغم القوات التركية على الانسحاب من المناطق الخاضعة للأكراد، ستساعد على بناء الثقة مع الحلفاء الأكراد، وتحول دون عودة “داعش”، وتسمح للمدنيين الأكراد والمسيحيين والمسلمين العرب بالعودة إلى منازلهم.
وفي حال، وبعد إنجاز كافة هذه الخطوات، لم تتراجع تركيا عن موقفها المُضر بمصالح الولايات المتحدة و”الناتو” في سوريا، يجب أن يكون ذلك بمثابة مؤشر على أنه يجدر بالولايات المتحدة إعادة النظر في علاقتها مع تركيا بشكل جدي.
معهد واشنطن