استعمار كواكب جديدة.. الرؤية القادمة لصياغة النظام العالمي

استعمار كواكب جديدة.. الرؤية القادمة لصياغة النظام العالمي

_62451_marsld

كانوا “الأفضل والأذكى”، لكن على متن مركبة فضائية، لا على كوكب الأرض، وكانوا يجسدون مثال التفاؤل الليبرالي لعهدهم؛ أولئك هم أبطال سلسلة ستار تريك الأصلية التي بدأ عرضها في سنة 1966 ودامت ثلاث سنوات. وتصور طاقما موهوبا متعدد الإثنيات يتكوّن من الكابتن كيرك ومستشاره السيد سبوك، ثم وزير الدفاع روبرت ماك نمارا.

كان الطاقم يستقلّ مركبة يو.أس.أس أنتربرايز المبعوثة في مهمة “الذهاب بجسارة إلى حيث لم يذهب إنسان من قبل”. وكان الطاقم يسعى وراء غاية إنثروبولوجية نبيلة تتمثل في البحث عن سكّان أصليين لطائفة غريبة والتعامل معهم ومحاولة فهمهم.

كان “التوجيه الأول” المصمم للتحكم في سلوك كيرك وطاقمه في رحلتهم المستمرة خلال عدة حلقات يقتضي عدم التدخل في طريقة عمل الحضارات الغريبة. وتعكس هذه المقاربة في الواقع التوجهات المناوئة للحرب لمبتكر السلسلة، جين رودنبري، والعديد من كتاب سيناريو الحلقات. وكانت حرب الفيتنام، التي دارت رحاها خلال سنوات العرض الأول للسلسلة، تبرهن لعدد متزايد من الأميركيين على مدى حماقة محاولة إعادة هندسة مجتمع على مسافة بعيدة جغرافيا وثقافيا. لقد بدأت العناصر الأفضل والأذكى، سواء على كوكب الأرض أو على متن مركبة أنتربرايز تعيد التفكير في أواسط الستينات في مثل تلك الغطرسة.

حتى عند قيام مبتكري ستار تريك عمدا بربط التدخّلات الأرضية العنيفة بالتدخّلات السماوية، لم يشكّكوا أبدا في المبدأ الأساسي الأول لسلسلة ستسعد المعجبين على مدى عقود بإنتاجها. ألم يكن من الأفضل بالنسبة إلى الكون ككل إن لم تغادر مركبة أنتربرايز الأرض أساسا وإن لم تتدخل الأرض في مسائل تتجاوز نظامها الشمسي.

المنطقة البرتقالية

لم تستخدم الولايات المتحدة أبدا توجيها أساسيا وقائيا، بل اتبعت سياسة التدخّل في المجتمعات الأجنبية منذ أواخر القرن التاسع عشر. هذا التدخل مكتوب فعلا في الرمز الجيني للبلد الذي نشأ على أنقاض سكّان أصليين تم القضاء عليهم. كما أن كولومبوس ذهب بجسارة إلى حيث لم يذهب أي أوروبي من قبل، ونحن نختزل رحلته كل مرة نرسل فيها جنود المارينز إلى ساحل أجنبي أو نحلّق بطائراتنا دون طيار في فضاء جوي أجنبي. لم يكن الأميركيون الأصليون في حاجة إلى “اكتشاف” أو إلى أمراض معدية جديدة أكثر مما يحتاج العراقيون لدروس في الديمقراطية من المحافظين الجدد.

بالرغم من كثرة الأدلة على مدى خبث تدخلاتنا الحديثة في أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها من البلدان، تواصل الحكومة الأميركية في التفكير في البعثات العسكرية. إيران حاليا خارج المصيدة وكذلك كوبا، كما أكدت واشنطن مرارا أن كوريا الشمالية ليست مستهدفة بالرغم من أن موقفنا العسكري العدائي في شرق آسيا قد يوحي بعكس ذلك، وخاصة بالنسبة إلى القيادة المصابة بمرض الارتياب في بيونغ يانغ.

لكن حتى إدارة أوباما، التي تنتهج دبلوماسية ودّية، مازالت متشبثة باستخدام الطائرات دون طيار في باكستان وأفغانستان والعراق والصومال واليمن، هذا فضلا عن برنامج سري جديد في سوريا. لقد أرسلت هذه الإدراة قوات خاصة إلى 150 بلدا ونفّذت بمعية حلفائها أكثر من خمسة آلاف ضربة جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ومازال في أفغانستان أعداد مهمة من الجنود الأميركيين (9800 جندي وفي العراق 3500 جندي). وتطوق العالم المئات من القواعد العسكرية الأميركية يعمل فيها حوالي 150 ألف موظف في الخدمة.

وقد أدت هذه الأعمال العسكرية إلى إعادة رسم خارطة العالم -وليس بطريقة جيدة- إذ أفرزت الغزوات والهجمات وعمليات الاحتلال الأميركية في الفترة اللاحقة لأحداث 11 سبتمبر 2001، هلالا من الأزمات يمتد من أفغانستان ويمر عبر الشرق الأوسط ليصل إلى أفريقيا. وتم إلقاء دول هشّة مثل الصومال واليمن في فوضى ميؤوس منها، وأصبحت سوريا والعراق حاضنتين لأخبث أنماط التطرف.

وحتى أزمة اللاجئين الأخيرة، وهي أكبر أزمة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يمكن أن يعود أثرها إلى ردّات فعل إدارة بوش تجاه أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ فلسنوات عديدة كانت أفغانستان أول مصدّر للاجئين في العالم وتليها العراق مباشرة، أما اليوم فإن سوريا هي المصدّر الأول للاجئين.

وبالرغم من أن الولايات المتحدة لم تغز هذا البلد، فقد تدخّلت هناك في البداية لإسقاط بشار الأسد ثم محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. والنتيجة أنه، في القرن الواحد والعشرين تنتهي جهود الولايات المتحدة لإعادة تشكيل المجتمعات في كافة أنحاء العالم بنفس الدرجة من الفشل مقارنة بالإخفاق التام في جنوب شرق آسيا في القرن العشرين.

في ذات الوقت لم يعد دافع “الذهاب بجسارة” حكرا على سياسة التدخل الاستعمارية الجديدة أو نزعة المغامرة العسكرية، إذ يوجد الآن حماس متزايد لإرسال قوة استكشافية إلى خارج كوكب الأرض. وفي هذا السياق تتنافس عدة مبادرات هدفها الشروع في استعمار كوكب المريخ، الغاية منه جزئيا توفير بديل للبشرية في حال حوّلت ظاهرة الاحتباس الحراري كوكب الأرض إلى كوكب غير صالح للحياة. وتعكس هذه الجهود قلقا متزايدا بقرب النهاية.

وبالفعل قدّم الكثير من الكتاب (ناهيك من العلماء) طرحا مفاده أن الأرض على وشك الوصول إلى نقطة اللاعودة، إذ يبدو أن البشرية تقترب من عتبة مهمة في حياتنا على كوكب الأرض سواء بمفعول الأسلحة النووية أو الانبعاثات الكربونية أو مجرد حمّى الإنجاب.

في نصف القرن الأخير أو أكثر أصبح للبشرية القدرة على تفجير كوكبنا بواسطة لعبنا النووية، كما حرقنا الوقود الأحفوري بنسق ملحوظ ومتصاعد في فورة للنشاط الاقتصادي أخذتنا إلى حافة تدمير النظام البيئي بشكل غير قابل للإصلاح. زيادة على ذلك تمكنا من الإنجاب بشكل ناجح جدا مثل جراد نهم إلى درجة أننا مهددون بتجاوز قدرة الأرض على إطعامنا.

إذا تمكنّا من إيجاد طريقة لتخفيض الإنذار بالخطر والابتعاد عن المنطقة البرتقالية على مؤشر الخطر، عندها سنكون قد اجتزنا الامتحان الحضاري. حالما نتخلص من أشيائنا الطفولية، أسلحتنا النووية ومولدات الطاقة العاملة بالفحم الحجري وتحريم وسائل منع الحمل، يمكننا الوصول إلى المستوى الموالي من الوعي بأهمية الكوكب، وإلا فإننا سنخفق ولن يكون أمامنا امتحان صيفي للتدارك.

البحث عن الذكاء خارج الأرض

في الحقيقة قد يكون هناك امتحان أهم من التحديات النووية والكربونية والديمغرافية، ألا وهو النزعة البشرية للتدخل عبر الحدود وفي ما وراء البحار وربما حتى في الفضاء الخارجي؛ وميلنا للتورط في مشاكل الآخرين هو سبب تلهيتنا عن حل مشاكلنا الخاصة بنا.

إن التركيز على إنشاء مستعمرة على كوكب المريخ، مثلا، عوض التعامل بجدية مع التغير المناخي على الأرض هو المقابل الوظيفي لتسخير قرابة ترليون دولار في السنة للقوات المسلحة الأميركية عوضا عن استخدام تلك الأموال لإصلاح كل ما هو معطب على أرض الولايات المتحدة، أو في أي مكان في العالم. وهذا ما يمكن اعتباره حالة متقدمة من خلل نقص التركيز.

بالتوازي مع الدفع من أجل استعمار المريخ، يضع العلماء جهودا متجدّدة في “البحث عن الذكاء من خارج الأرض”. وفي هذا السياق يوجد مشروع جديد يحمل اسم “بريكثرو ليسن”، تم الإعلان عنه مؤخرا وتقدّر ميزانية بحوالي 100 مليون دولار وهو عبارة عن تركيز منظارين ضخمين يعملان بجهاز الراديو لاستهداف أقرب المليوني نجم والمجرات المئة الأقرب لدرب التبان.

وفي انعكاس للأهمية المتزايدة للعمل الجماعي، يستعمل ثلاث ملايين شخص مواردهم الحاسوبية مجتمعة للمساعدة في تحليل كل المعطيات الواردة من منظار الراديو.

وحسب حسابات معادلة “دريك” الخاصة بالكواكب الصالحة للسكن، يوجد احتمال كبير بوجود أشخاص أو كائنات ذكية هناك. لكن إذا تمكنا من سماعهم ربما يستطيعون هم سماعنا أيضا. وسواء كانت هناك كائنات ما أم لا، وبما أننا عالقون في المنطقة البرتقالية، مازلنا معنيين بالبحث الخيالي عن الذكاء الأرضي. ومازال العلماء -بغض النظر عن ستيفن هوكينغ وطوني موريسون ويويوما- في انتظار أدلة قاطعة أن الذكاء البشري ليس ضربا من التناقض اللفظي. وقبل كل شيء ما عرّفناه سابقا على أنه ذكاء “الدفع المستمر نحو الحدود على المستويين المفهومي والميداني” أدى بنا إلى المأزق الوشيك لإبادة الذات.

قال عالم الأحياء التطوري إرنست والتر ماير، ذات مرة، إن الذكاء البشري هو في حدّ ذاته طفرة مميتة وضعت السلالة البشرية على مسار الاصطدام مع نفسها وربما مع انقراض الكوكب. ويبدو أننا وكوكب الأرض كنا في حال أفضل لما كنا مجرد صيادين وجامعي ثمار، وذلك قبل أن يأتي أحدهم بفكرة لامعة لشق الأرض وزرع البذور وبناء المدن.

على البشرية لكي تسير إلى الأمام بجسارة أن تعيد تعريف الحياة الذكية. ذلك لا يعني العودة إلى حياة الثمار ولحم الطرائد، لكن يتطلب نوعا مختلفا من الذكاء حتى ندير ظهورنا للكنوز التي تعد سفن حديثة تعادل سفن ‘جينغ هي’ من كل أنحاء الكون. يتطلب الأمر نوعا مختلفا من الذكاء لسد الأذنين أمام أغنية عروس البحر عن نشر الديمقراطية والإرهاب والاضطهاد والحفاظ على النفاذ إلى الأسواق. كما يتطلب الأمر نوعا مختلفا من الذكاء لتركيز الطاقات الذاتية على المحافظة على هذا الكوكب عوضا عن تسخير الكثير من الوقت والمال في مخططات لتلويث كوكب آخر.

مع كل سلاح نووي ومحرك نفاث وصاروخ فضائي ندخل أكثر في المنطقة البرتقالية، متجهين على نحو أعمى نحو نقطة اللاعودة. مثل المستكشفين المفترضين للمريخ، سواء كنا نعرف ذلك أم لا، نحن كلنا في رحلة ذات اتجاه واحد نحو المجهول، إلا أن مركبنا الصاروخي هو كوكبنا الذي نوشك على تدميره في بعثة انتحارية قبل أن يصل إلى مكان آمن.

جون فافر

صحيفة العرب اللندنية