في أيار/ مايو 2019م، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوجان، مسجد ” تشامليجا” الذي يقع في إسطنبول بالشطر الآسيوي المطل على مضيق البوسفور، وفي يوليو / تموز عام 2020م، تم إعادة فتح جامع ” أيا صوفيا” بعد حوالي 86 عامًا من تحويله إلى متحف.
وفي 28 أيار/ مايو الحالي، افتتح رجب طيب أردوغان ” مسجد تقسيم” المطل على ميدان تقسيم وسط مدينة إسطنبول. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل تركيا بشكل عام ومدينة اسطنبول بشكل خاص ينقصها أو هي بحاجة إلى إعادة فتح مساجد أو بناء مساجد جديدة ؟ الجواب، بالتأكيد لا. إذاً.. ما هو مغزى الحكومة التركية من وراء إحداث هذه التحولات الدينية والاجتماعية في المجتمع التركي وخاصة مجتمع إسطنبول؟
إن إعادة افتتاح الجوامع وبناء المساجد في عهد الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية، لتصحيح الخطأ الفادح الذي ارتكب من قبل كمال مصطفى أتاتورك مؤسس الدولة التركية المعاصرة، حينما اعتبر الإسلام عقبة في طريق التقدم والنهوض، والغريب أثناء حرب الاستقلال التركية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، اعتمد أتاتورك على أئمة المساجد في تعبئة الجماهير وتحفيزها. وكان بديع الزمان النورسي من أوائل العلماء الذين وقفوا إلى جانبه، بل أن علماء الدين أنفسهم ساهموا في التمهيد لمجيئه.
لم يفعل أتاتورك أي شيء في سبيل الإصلاح الحقيقي والذي كان المجتمع التركي – كما كل العالم الإسلامي- بحاجة حقيقية إليه. بل استند إلى الرؤية الفرنسية للعلمانية التي بزغت في أعقاب الثورة الفرنسية، تستخف بالديانة وتنظر إليها كأثر قديم من آثار التخلف والشعوذة لابد من إزالته برؤية علمية حديثة.
لذلك، ومن أجل نفي ماضي تركيا الإسلامي بعيدًا عن إدراك وتعبير الجماهير، انتهج أتاتورك سياسة تهميش الدين الإسلامي في الدولة التركية الناشئة، حيث أصبح الإنسان ” الورع” عنوانًا للتخلف وصفة للعقول التقليدية في وسط الأناضول. وعلى الرغم من أن هذه السياسة تركت ندبات روحية واجتماعية في المجتمع التركي، إلا أن محاولات أتاتورك في سحق قوة الدين الإسلامي وهيبته بين المواطنين لم تنجح. لأن القوانين الحتمية أقوى من فعل الأفراد كما يقول ابن خلدون والدين في حياة الأمم من أحتم الحتميات.
فما أن جاء عام 1946م، حتى ألغي نظام الحزب الواحد وأقرت التعددية الحزبية وأصبحت مبادىء الشريعة الإسلامية حاضرة في كل البرامج الحزبية، وحدث تحول في سلوك النظام السياسي تجاه الإسلام. وبدأ الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري يتنافسان على أصوات الجماهير بقرارات الانفتاح الديني وعندما فاز الحزب الديمقراطي بالأغلبية النيابية عام 1950م أصدر رئيس الوزراء – آنذاك- عدنان مندريس قرارًا برفع الحظر عن الأذان باللغة العربية وكان ذلك في حد ذاته حدثًا هائلًا بكل المقاييس وأول ثغرة تنفتح في جدار القهر الأتاتوركي.
وتم ترميم المساجد وأصبح النشاط الإسلامي مسموحًا به بعد أن كان محظورًا غير أن هذه التوجهات ذات البعد الاجتماعي لم تستطع النخب العلمانية الشرسة احتمالها واستخدمت عصاها الغليظة. فقام الجيش بانقلابه الأول في 27 أيار/ مايو 1960م، باعتباره الحامي لمبادىء أتاتورك العلمانية وحامي الجمهورية وتم إعدام عدنان مندريس في 17 أيلول/ سبتمبر عام 1961م.
وقد شهدت تركيا في فترة الستينيات من القرن الفائت توجهات سياسية إسلامية واضحة وصريحة فظهر ” نجم الدين أربكان”، الذي استطاع في تأسيس أحزاب سياسية والانضمام إلى الحكومات الإئتلافبة في تركيا، عملت النخبة العلمانية على إفشال تلك الحكومات، وحل الأحزاب ذات الطابع الإسلامي.
ولكي لا تدخل الحركة الإسلامية في تركيا في صدام مع العلمانية ، استطاعت التعامل مع الواقع العلماني في تركيا وفق منطق ” على العاقل أن يقتصد في الرغبات الحكيمة” بدقة ووعي فاستطاعت التقدم وانتزاع شرعية جماهير ضاربة، توجت في تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم الدولة التركية منذ عام 2002م، وحتى يومنا هذا.
لنرى بعد سنوات من حكم حزب العدالة والتنمية الذي يعد نتاج التقاليد الإسلامية التركية التي نمت باعتدال، وزاد اقترابها من الحقائق السياسية، إعادة فتح جامع ” آيا صوفيا” لتكريس الاعتبار لفتح مدينة القسطنطينية، وبناء جامع ” تشامليجا” في أعلى قمة في مدينة اسطنبول وكأن حال الباني أن يقول للداني أي المواطن التركي والقاصي أي الزائر لمدينة اسطنبول إن الإسلام هو الهوية الجامعة للدولة التركية، وأن بناء جامع ” تقسيم” في ميدان تقسيم الذي يعد معقل التغريب التركي إلا تأكيد على تلك الهوية.
جماع القول، ما كان من المحرمات الدينية والإجتماعية قبل عقود في تركيا بشكل عام، وفي مدينة الزهور اسطنبول بشكل خاص، أصبح واقعًا للتعبير عن الهوية التركية، وهذا الواقع ما هو دليل على إحدى مؤشرات القوة غير المادية في النظام السياسي التركي.