هل تعتبر مهمة البحث عن ثعلب الماء الذي يستوطن الأهوار والمصنف في عداد الحيوانات المنقرضة مهمة مستحيلة؟ الناشط البيئي العراقي عمر الشيخلي يجيب برحلة استكشافية في المنطقة يحدوه الأمل بأن يعثر على مبتغاه ذات رحلة لما لهذا الحيوان من أهمية حيوية للأراضي الرطبة.
الجبايش (العراق) – صرخ عمر الشيخلي على جسر يُضيئه نور القمر على بعد عدة كيلومترات من الشاطئ في مستنقعات العراق الجنوبية المشهورة، “لا تحركوا عضلة”.
ووقف الجميع بلا حراك. وكان الشيخلي يضيء مصباحا يدويا عبر بقعة موحلة، وقال وهو يهز رأسه “لا شيء”. وتحرّك فريقه المكون من خمسة أشخاص في انسجام تام من جديد.
وقاد المدافع عن البيئة هذه الحملة الاستكشافية منذ منتصف الليل عبر مستنقعات الجبايش ضمن رحلة كانت الأحدث في مهمة خيالية امتدت لما يقرب من عقدين، للعثور على أي مؤشر على وجود حيوان القضاعة الذي يطلق عليه أيضا اسم ثعلب الماء، وهو حيوان من الأنواع المهددة بالانقراض، حيث استوطن في العراق ويُعدّ وجوده غير المستقر أمرا حيويا للأراضي الرطبة الشهيرة.
وقد ذهبت معظم مساعي الشيخلي سدى، فقد كان ثعلب الماء سريع البديهة متقدما بخطوة دائما. وبينما يلوح تغير المناخ في الأفق، يكتسب العثور على أدلة على وجود هذا الحيوان الذي يسمى محليا ” جليب الماي” أهمية جديدة.
ثعلب الماء هو من صنف الثدييات البرمائية التي تنتمي إلى فصيلة العرسيات وتتغذى على الأحياء المائية وتسكن في جحور تحفرها قرب ضفاف الأنهار والمستنقعات، وتفيد المنظمة العالمية للحفاظ على القضاعات بأن هناك سبعة أجناس من القضاعات تنتمي إلى 13 نوعاً يواجه بعضها خطر الانقراض.
وكان الشيخلي من بين دعاة الحفاظ على البيئة الذين أصدروا تحذيرا صارخا من أن عدم اتخاذ إجراء سريع لحماية ثعالب الماء سوف يعطل البيئة الحساسة تحت الماء في موقع اليونسكو المحمي، ويمكن أن تتلاشى، مما يعرض مجتمعات الأهوار العراقية التي تعتمد عليها للخطر.
وقال الشيخلي، وهو المدير الفني في منظمة المناخ الأخضر العراقية، إن كل شيء على المحك، “نحن نفقد تراثنا العراقي”. وتشير الدراسات إلى وجود ما بين 200 و900 ثعلب ماء في الأهوار. وتؤدي مستويات المياه التي لا يمكن التنبؤ بها بشكل خطير والصيد غير القانوني والإهمال إلى تراجعها.
ومن المقرر أن يواجه العراق صيفا حارا هذا العام، حيث تتسبب مشاريع السدود التركية على نهري دجلة والفرات في تفاقم سنة من انخفاض هطول الأمطار. وقال وزير الموارد المائية مهدي رشيد الحمداني هذا الشهر إن “هناك أزمة حقيقية”. وذكر أن معدلات المياه في كلا النهرين بلغت نصف ما كانت عليه العام الماضي.
;رافقت وكالة أسوشيتد برس الناشط البيئي الشيخلي وفريقه في مهمة استغرقت 12 ساعة على مدى يومين في أوائل مايو. وفي الثامنة من صباح اليوم الثاني غادر الشيخلي مرة أخرى.
واجتاز في زوارق خشبية طويلة ممرات مائية ضيقة تصطف على جانبيها حشائش قصبية كثيفة تتقاطع في قلب الأراضي الرطبة. وترك قفز السمك تموجات في أعقابهم، بينما مضغ الجاموس العشب بهدوء. وتقدم طائر الرفراف برأسه للقبض على الفريسة المطمئنة.
وبينما كانت حشرات اليعسوب تطارد قافلته التي تحملها المياه، سمى الشيخلي أي حيوان يعبر طريقه وكأنه من معارفه. وأشار إلى الشرشير المخطط ومالك الحزين، فقد كان يدرس هذه الكائنات لمدة 18 سنة، لكن العثور على ثعالب الماء المراوغة ذات الفرو الأملس يعادل الفوز في اليانصيب.
ومنذ أن اكتشفها عالم الطبيعة الاسكتلندي غافن ماكسويل في 1956 لم يتم تصوير ثعالب الماء، التي تتميز بفروها الداكن الأملس وذيلها المسطح، سوى مرتين فقط عندما عثر عليها لأول مرة.
وذكر الرحالة كيفن يانغ في كتابه “العودة إلى الأهوار” أن عالم البيئة ماكسويل أعجب خلال زيارته أهوار العراق في خمسينات القرن الماضي بثعالب الماء ناعمة الفراء، ونقل واحدا منها إلى لندن قبل أن يكتشف عن طريق الصدفة أنه غير مسجل علميا من قبل فمنحه آنذاك العلماء البريطانيون اسما علميا جديدا.
المرة الثانية التي صور فيها ثعلب الماء جاءت بعد 60 سنة بكاميرا الشيخلي، حيث أبلغه السكان المحليون أن ثعالب الماء شوهدت في جزء من الأهوار بالقرب من الحدود الإيرانية.
وانتظر على أنقاض طريق عسكري قديم أقامه صدام حسين خلال الحرب العراقية الإيرانية ست ساعات. ورأى ثعالب الماء لبضع ثوان فقط.
ونظرا لضعف تمويل الجهود البحثية وصعوبة العثور على ثعالب الماء نفسها اعتمدت الدراسات حول هذه الأنواع على جلود هذه الحيوانات الميتة كدلالة على وجودها.
وفي يناير 2006 كان جلد ذكر بالغ عرضه صياد محلي من بين المؤشرات الأولى على أن ثعالب الماء ما زالت موجودة.
وفي هذه المهمة راقب الشيخلي العلامات التي تتركها ثعالب الماء وراءها (آثار أقدام، ورؤوس أسماك مهملة…). ويذهب الشيخلي إلى المناطق التي تفضلها ثعالب الماء، مثل البحيرات التي يصطف القصب على جانبيها والشواطئ الموحلة، بحثا عن أثرها. وفي الأهوار الوسطى بمحافظة ذي قار، صادف فريقه صيادين اثنين يفرغان حمولتهما اليومية.
توقف الشيخلي وسألهما متى رأيا ثعلب ماء آخر مرة؛ إذ تبقى الشهادات المحلية جزءا رئيسيّا من جهود المسح. وقال أحدهم وهو يجمع البوري وسمك السلور والشبوط في شاحنة صغيرة “ربما قبل عام واحد”.
فعبس الشيخلي، وأوضح أن “هذا يعد مصدر قلق كبير، فإذا كان المجتمع المحلي يراها نادرا، فهذا يعني أن شيئا ما قد حدث”. بالنسبة إلى علماء البيئة تُعرف ثعالب الماء بكونها من “المؤشرات الحيوية” التي لا يمكن الاستهانة بأهميتها، وهي من الأنواع التي تُستخدم لتقييم صحة نظام بيئي كامل. ولأنها على رأس السلسلة الغذائية في الأهوار العراقية، فهي تأكل الأسماك وأحيانا الطيور، مما يجعل وجودها يضمن التوازن.
يعد وجود ثعلب الماء الذي يسمى محليا في الأهوار “جليب الماي” أمرا حيويا للأراضي الرطبة الشهيرة
وكانت أعداد ثعالب الماء وفيرة من قبل، وقد كتب المستكشف البريطاني ويلفريد ثيسيجر، وهو معاصر لماكسويل، في كتاب”عرب الأهوار” عن مناسبة واحدة عندما شاهد اثنين من ثعالب الماء يلعبان على بعد مئة ياردة، وقال “ظهرا منتصبين في الماء، ونظرا إلينا لبضع ثوان، قبل أن يغوصا ويختفيا”.
في تلك اللحظة لمس مرافقه العراقي مسدسه وقال “جلودها تساوي دينارا للقطعة الواحدة”. وكانت جلود ثعالب الماء المتينة شائعة بين المهربين الذين استخدموها لنقل البضائع غير المشروعة.
ورغم أن صيدها آخذ في التراجع إلا أن اللوم يقع جزئياً على الصيد بالكهرباء، وهو غير قانوني، ولكنه يمارس على نطاق واسع في الجنوب، حيث يشل الكهرباء ثعالب الماء، ويموت معظمها.
وكان للصيادين الذين تحدثت إليهم مراسلة الأسوشيتد برس في وقت سابق أجهزة كهرباء على متن قواربهم، وكانت ظاهرة على الرغم من محاولات إخفائها بالسجاد.
وقال الشيخلي إن هذا قد يفسر سبب صعوبة اكتشاف ثعالب الماء، مضيفا أن “ثعالب الماء ذكية وتعرف أنها مُهدّدة وتغير سلوكياتها” وقد خدمتها القدرة على التكيف بشكل جيد طوال تاريخ العراق المضطرب. وكان يخشى أن تنقرض ثعالب الماء عندما جفف صدام الأهوار في التسعينات لطرد المتمردين الشيعة المختبئين.
ومنذ 2003 كان عليها أن تبحر في عراق جديد حيث كان التوسع الحضري المتزايد والتصنيع يُشكّل أولوية. ونتيجة لذلك تفقد مجتمعات الأهوار العراقية الأراضي الرطبة التي تعيش فيها بشكل متزايد.
في منطقة ترعى فيها جواميس الماء كان صبي عربي من الأهوار يعتني بالحيوانات، بينما كانت وراء مشاعل النفط تُطلق أعمدة من الدخان في الهواء، وهو مشهد منتشر في كل مكان في جنوب العراق الغني بالنفط الخام. لكن العدو الأكبر لأنواع ثعالب الماء المتوطنة في العراق هو عدو لا يُحصى: الماء.
وقال الشيخلي، وهو يبحر في مجرى مائي واسع، إن القناة بأكملها كانت جافة في العام الماضي فقط. ثم عبّأتها الفيضانات، لكن قلة هطول الأمطار هذا العام تهدد مستويات المياه مرة أخرى.
وأكد الخبراء أنها تتناقص بمقدار سنتيمتر واحد في اليوم بالفعل. وقالت أم منتظر، وهي إحدى النساء المحليات، عندما تجف المياه تهاجر الطيور وتموت مواشيها. وأضافت “لم تعد المنطقة صالحة للعيش”.
وتقدر الأمم المتحدة أن ما لا يقل عن 250 كيلومترا مربعا من الأراضي الخصبة في العراق تُفقد سنويًا بسبب التصحر.
ومن المرجح أن يؤدي ارتفاع الملوحة إلى تقليل أعداد الأنواع المتوطنة إن لم يكن القضاء عليها. ويلقي العراقيون باللوم إلى حد كبير على مشروع سد إليسو التركي الذي أدى إلى نقص المياه.
وقال مسؤولون أتراك إن طلب العراق بأن تفرج أنقرة عن كمية محددة من المياه كل عام أمر مستحيل في عصر تغير المناخ. وقال مسؤول تركي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته “نحن نعاني، هناك الكثير مما لا يمكن التنبؤ به”.
وفي بحيرة مفتوحة على أعتاب هور الحمّار أوقف الشيخلي القارب ونزع حذاءه بسرعة، ونزل في الماء إلى أن انغمرت ركبتاه، وكان شعره المجعد يرقص في مهب الريح وهو يمسك بعصا خشبية.
ويقول دعاة حماية البيئة إن الضغط من أجل الحفاظ على المنطقة يتطلب معجزة، فقد تعرضوا للتهديد من جميع الجهات، لكن الشيخلي كان منغمسا في مهمته الخاصة. وقال “اسمعوا، اسمعوا”.
العرب