ماذا تريد إسرائيل من العالم العربي، وما هي استراتيجيتها التي تستدعي وتفترض أن تكون مقاومتها في قلب نشاط «محور الممانعة»؟ باختصار شديد، يمكن القول أن الاستراتيجية الإسرائيلية قبل قيام الدولة وبعدها، استندت الى ركنين أساسيين ضمن ما استندت إليه: الأول، تعظيم القوة الذاتية وصولاً بإسرائيل الى أن تصبح القوة الإقليمية العسكرية والاستراتيجية الأقوى، والثاني إضعاف وتفتيت الجبهة العربية والإسلامية المحيطة بإسرائيل بشتى السبل للحفاظ على أمن الدولة الجديدة وبقائها.
اشتغلت إسرائيل على بناء الركنين المذكورين، فبنت قوة عسكرية نووية بدعم غربي وأميركي متواصل، وحاولت إيجاد ودعم كل العوامل التي تساهم في إضعاف البلدان العربية وتفتيتها وتجزئتها. وواصلت مراكز أبحاث إسرائيلية عديدة ومنذ عقود، نشر تصوّرات وخطط وأفضليات لشكل الشرق الأوسط الذي تحلم به إسرائيل ويوفر بيئة آمنة وحامية لها. ومن تلك الأبحاث، ما نشره في أوائل ثمانينات القرن الماضي مركز دايان والمنظمة الصهيونية العالمية في القدس، من تصوّرات تدعو الى تجزئة البلدان العربية وتفتيتها، وقيام إسرائيل بدعم الأقليات ومشاريع الدويلات الانفصالية وكل ما من شأنه تجزئة المُجزأ في المنطقة. دعت تلك الدراسات الى تجزئة لبنان وإقامة دولة مسيحية وأخرى درزية على أراض لبنانية وسورية، والى إقامة دولة علوية في الساحل السوري. كما دعت الى تقسيم العراق الى ثلاث دول: سنية وشيعية وكردية، والى تقسيم السودان، وتقسيم السعودية، وغير ذلك، وصولاً الى تركيا وإيران وباكستان أيضاً. بعد أقل من أربعة عقود على صدور تلك الدراسات (وكثير على منوالها)، نرى كثيراً مما دعت إليه أو حلمت به من تقسيم وتجزئة طائفية أو إثنية، يتحقّق على أرض الواقع، ويخدم إسرائيل مباشرة.
لا تحيل هذه السطور قدرة خارقة أو أسطورية على إسرائيل ومخططاتها وتنسب إليها كل ما يحدث من خراب في البلدان العربية، وتحديداً في العراق وسوريا الى لبنان واليمن والسودان، هذا من دون التقليل من الدور الإسرائيلي هنا وهناك. ذلك أن عوامل تفتيت وخراب وتخريب داخلية عربية وإسلامية ظلّت تشتغل في دول ما بعد الاستقلال من دون معالجة، ووفّرت لإسرائيل في نهاية المطاف قيام البيئة التقسيمية المرغوبة. وما تريد هذه المقاربة المجادلة في شأنه هو القول أن «إنجازات» محور الممانعة على أرض الواقع هي جزء من ذلك التخريب الداخلي، وصبّت وتصبّ في شكل مباشر في خدمة الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية. وهذه المقولة لا تعني أن هناك تحالفاً وتواطئاً «سرياً» بين إسرائيل ودول محور الممانعة يُفضي الى النتائج المرئية الآن، بل تعني أن الخلاصة النهائية وبعيداً من النيات والشعارات والرطانة والبلاغة الخطابية، تشير إلى تلاقي النتائج على الأرض مع الاستراتيجية الإسرائيلية.
لنتأمل مثلاً، «إنجازات محور الممانعة» في إضعاف البلدان العربية وتفتيتها وتجزئتها خلال السنوات الأخيرة، وإنجازات الدولة قائدة المحور «إيران» خلال العقود الأربعة الماضية. محور الممانعة، وإيران على رأسه، نجح في تفكيك العراق وتقسيمه طائفياً وإثنياً. تحالف مع الغزو الأميركي للعراق عام 2013، وقدّم له كل المساعدة اللوجستية كي يستلم الهدية الأميركية على طبق من ذهب: عراق محطّم وجاهز للنفوذ الإيراني. منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، ظلّ العراق الواقع تحت النفوذ الإيراني يتردّى، وتتكرس فيه حدود التقسيم الطائفي الإثني. أصبحت كردستان شبه دولة مستقلة، والخطوط والإزاحات الطائفية والديموغرافية في المدن العراقية الكبرى تمهّد عملياً لتقسيم دويلاتي سني – شيعي صار مطروحاً في شكل جدي.
في سورية، اشتغل محور الممانعة خلال السنوات الأربع الماضية وفي شكل مدهش على خدمة الاستراتيجية الإسرائيلية في إنجاز حلم تفتيت سورية. التدخل الإيراني المتواصل واعتبار سورية منطقة نفوذ إيراني، «أنجزا» قمع ثورة سلمية من أرقى الثورات ضد الاستبداد الأسدي، وقادا الى عسكرتها وفتح بوابات الإرهاب الداعشي اللاحق، ثم تخريب سورية وتدميرها، والانتقال الى مرحلة التقسيم على الأرض. فـ «دولة الساحل العلوية» أصبحت «استراتيجية» إيرانية (وروسية) يدور الحديث عنها وكأنها حقيقة واقعة مقبلة، وبناها التحتية قيد التجهيز، والإزاحات والتطهير الطائفي يعزّزان حدودها. والكيان الكردي في الشمال يتبلور ويتشكل منفصلاً ومبتعداً من دمشق والمركز، والأمر ذاته ربما يتطوّر إزاء فكرة الكيانية الدرزية التي تمتد بين سورية ولبنان معاً، وذلك كله ليبقي دويلة سنية ملقاة في عرض الصحراء ضعيفة ومنهكة ومحاصرة. تستحق إيران كل الشكر الإسرائيلي على جهودها التقسيمية الخارقة في العراق وسورية، وتستحق أن تُرفع لها قبعات صُناع القرار الاستراتيجي الصهيوني، لأنها أنجزت في ظرف عقد واحد من السنوات ما كانت تحاول إسرائيل إنجازه منذ تأسيسها.
إنجازات محور الممانعة التفتيتية والتقسيمية طاولت اليمن، فهناك صحا العالم العربي فجأة على مقولة أن المصالح الإيرانية الحيوية في اليمن، وأن إيران تريد الحفاظ على نفوذها هناك، محوّلة إياه الى كيان لا مركز له، كما حوّلت لبنان من قبله. انقسم اليمن شعبياً وجغرافياً، وأُقحم في دوامة الحرب الأهلية التقسيمية التي لا يعرف أحد متى مآلات نهاياتها. ذلك كله، تحت شعار الحوثي الرث والمثير للسخرية والغثيان: «الموت لإسرائيل»!
في دول الخليج (كما في العراق) التي لم يكن ثمة توتر طائفي انقسامي فيها، نجحت إيران في استفزاز التجمعات الشيعية، ونفخت في مظالم بعضها، وكثير منها وإن كان محقاً لم يكن ليصل الى حدود الانقسام الوطني تبعاً للخطوط الطائفية. في عقود ما قبل الثورة الإيرانية وما قبل الأصوليات السلفية التي نشأت للرد عليها، تمتعت التجمعات العربية المختلطة طائفياً بمستويات تعايش مجتمعي معقولة لا يزال الكل يتحسّر عليها حتى الآن. انبعث الغول الطائفي التقسيمي مع الثورة الإيرانية ومع ما قامت بتصديره الى دول الجوار، والآن نحن في قلب زمن الحصاد الكبير: التقسيم والتفتيت الإضافي.
ما هي إنجازات محور الممانعة على صعيد الركن الآخر للاستراتيجية الإسرائيلية، وهو تعظيم القوة الذاتية الإسرائيلية عسكرياً واقتصادياً، وتكريس إسرائيل كقوة إقليمية لا مُنافس لها؟ هنا يمكن التركيز على نقطتين، بما تسمح به المساحة المتوافرة هنا. الأولى، هي دعم المقاومة المسلّحة اللبنانية والفلسطينية، والثانية الملف النووي، وتأثير هاتين النقطتين في تدعيم القوة الإسرائيلية وتكريسها. في النقطة الأولى، حققت مقاومة حزب الله ومقاومة حماس والجهاد الإسلامي، وكلتاهما مخلصتان في نضالهما ضد إسرائيل وعلى مدار سنوات، نتائج إيجابية من ناحية ونتائج سلبية وعكسية من ناحية أخرى. ابتداءً، لم تشكل أي من هاتين المقاومتين أو كلتاهما معاً أي تهديد وجودي حقيقي لإسرائيل، ولم يكن متوقعاً منهما إنجاز «تحرير فلسطين» الذي توعد به خطاب الثورة الإيرانية منذ أواخر السبعينات. لكن في المقابل، وفرت هذه المقاومة مسوغات لا تنتهي لإسرائيل وللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لمواصلة تسليح إسرائيل وتعزيز قوتها الاستراتيجية وضمان تفوّقها الإقليمي. اعتاشت إسرائيل في العقود الثلاثة الأخيرة على ما تقوم به المقاومات اللبنانية والفلسطينية لمواصلة إثارة تخوّف الغرب ولوبيات الدعم العالمي لها، بخاصة في غياب أي تهديد حقيقي من أي دولة عربية في أعقاب معاهدات السلام المصرية والأردنية، وانتهاء الخيار العسكري رسمياً.
أما النقطة الثانية، وهي الملف النووي الإيراني، فقد اشتغلت في مسار تكريس الخوف نفسه حول أمن إسرائيل على أعلى مستوى ممكن، بخاصة خلال حقبة المراهقة النجادية وتهديداتها بإبادة إسرائيل ومحوها عن الخارطة. مقابل كل تهديد لفظي أطلقه احمدي نجاد، كانت إسرائيل تبني ترسانات إضافية، ومثلت تلك التهديدات هدايا متواصلة لليمين الإسرائيلي كي يحملها الى لوبيات واشنطن للتباكي على التهديد الوجودي الذي تواجهه إسرائيل. لم يُترجم أي من التهديدات الإيرانية لإسرائيل على الأرض (ولن يُترجم)، والسبب البسيط وراء ذلك هو أن خوض حرب مع إسرائيل لا هو على أجندة الأمن القومي الإيراني ولا يخدم مصلحتها. لكن ما يخدمها هو مواصلة التهديدات اللفظية، لأنها تحقق لها الادعاء بالممانعة، وبالتالي تعزيز الحضور الإقليمي. عززت التهديدات اللفظية أمن إسرائيل وزادت من تعنّتها وتطرّفها، وكان الخاسر الأول والمباشر وراء ذلك، هو فلسطين كأرض وشعبها وقضيتها. خلال مفاوضاتها مع الدول الغربية حول الملف النووي، لم تضع إيران القضية الفلسطينية ولا الحقوق الفلسطينية على أجندة المفاوضات، لمحاولة خدمة تلك الحقوق من طريق انتزاع موقف لمصلحتها خلال المقايضات الكبيرة والواسعة التي حدثت. من حق فلسطين والفلسطينيين أن يسألوا إيران أين ذهبت فلسطين خلال مفاوضات الملف النووي، وهي التي ظلّ خطاب الثورة الخمينية يلعلع باسمها طيلة عقود؟
السياسي السوري عبدالباسط سيدا، اقتبس بمرارة بعض ما قاله أرييل شارون عام 1982 (في مقالته في هذه الصفحة يوم 24 أيلول/ سبتمبر 2015). ففي أعقاب غزو لبنان وحصار بيروت ثم طرد المقاومة الفلسطينية كلّها من لبنان، سُئل شارون الذي كان وزيراً للحرب آنذاك، ما إذا كان «تطهير لبنان من منظمة التحرير» يمهّد الطريق للسلام. أجاب جزار صبرا وشاتيلا بالقول أن السلام ما زال بعيداً، ولن يتحقق قبل أن تكون هناك دولة علوية وأخرى درزية وواحدة كردية وأخرى شيعية وهكذا. علينا أن نتذكر هذه المقولة ونحملها كمقياس نقيس به إنجازات محور الممانعة على الأرض، ونرى كيف حقق هذا المحور ما حلمت بتحقيقه إسرائيل منذ عقود.
خالد الحروب
صحيفة الحياة اللندنية