لافت جداً أن تكون أوروبا هي الوجهة لأول زيارة خارجية يقوم بها الرئيس الأميركي جو بايدن. إنها زيارة تتجاوز الكثير من الدلالات الرمزية، فالحاجة ماسة لترميم العلاقات بين دول ضفتي الأطلسي وإعادة تزخيم التحالف فيما بينها، فحلف شمال الأطلسي (الناتو) لم يفقد أهميته بالنسبة لكل أطرافه، وهذا الأمر سيتم بالتأكيد التشديد عليه في قمة زعماء الأطلسي، لأن الجميع مدرك أن هذا العنوان يوثق التعاون بين الديمقراطيات الغربية. وفي هذا السياق فإن قمة دول مجموعة الـ7 الصناعية الكبرى، محطة شديدة الأهمية في عالم اليوم، الذي بدأ يتلمس طريق التعافي للخروج من الجائحة واقتنع الجميع بضرورة وحتمية التعاون الدولي، بعد أن رتبت حتى الآن من الخسائر البشرية والمادية ما يفوق خسائر أي حرب كونية.
المصالح مشتركة ومفيدة لكل الأطراف، بقدر ما يكون ممكناً الذهاب إلى توثيق العلاقات بين واشنطن والعواصم الأوروبية وتمتين التعاون بينها، لأن في ذلك تجاوزاً للتحديات المتعددة التي يواجهها الجميع، وقد لفت الكلام الذي أطلقه الرئيس بايدن لحظة وصوله إلى أوروبا عندما قال: «نحن في لحظة يجب علينا أن نثبت فيها أن الديمقراطيات لن تبقى فقط على قيد الحياة، بل سوف تتفوق وتغتنم الفرص الضخمة المتوفرة»… وكان الرئيس الأميركي قد أبلغ صحيفة «واشنطن بوست» أنه يريد للزيارة «تجسيد التزام أميركا المتجدد تجاه حلفائنا وشركائنا وإظهار قدرة الديمقراطيات على مواجهة تحديات العصر وردع التهديدات».
من الطبيعي أن يلقى الكلام الأميركي الإيجابي اهتماماً أوروبياً كبيراً، لكن يبقى الأهم الانتقال إلى الأفعال، كما يقول بنجامين حداد مدير مركز الأبحاث «أتلانتك كاونسل». ذلك أنه في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي تراجع بالنسبة لأميركا الدور المحوري لأوروبا عما كان عليه قبل أكثر من 30 سنة. يا ترى هل تفترض التحديات العميقة التي تواجهها الديمقراطيات الغربية، تغييراً نوعياً لكل السياسات التي سادت في الحقبة الأخيرة، خصوصاً مع تزايد التحديات النوعية التي تمثلها الصين على وجه خاص، وهي بمثابة العالم المقفل الأحادي الذي لا حدود لطموحاته؟ وها هي ترفض بكين اليوم أي تعاون في بحث مستقل لمعرفة منشأ وباء «كورونا»، رغم كل ما أسفر عنه هذا الوباء من خراب! وأيضاً من جانب الاتحاد الروسي المحدود الإمكانات الاقتصادية، والطامح إلى أدوار أكبر بكثير من قدراته، ولكنه ليس مجرد دولة إقليمية كبرى وفق وصف قديم أطلقه الرئيس الأميركي الأسبق أوباما.
لا شك أن كل ما سيقال وكل ما سيتم الاتفاق بشأنه سيكون تحت مجهر الأوروبيين، فليس سراً أن الوضع الداخلي الأميركي، وميزته توازن دقيق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، سيؤثر إلى حد بعيد على المنحى الذي تتخذه السياسة الخارجية، ولا يخفى أن ذلك قد يترك ولو لبعض الوقت الكثير من التشكيك.
شعوب منطقتنا المستهدفة بشتى الأخطار والأطماع، خصوصاً من جانب النظام الإيراني، تتطلع إلى الحدث السياسي الكبير وتسأل عما إذا كانت قضايا المنطقة على جدول أعمال قمة الـ7 الكبار، أو قمة الأطلسي، وكذلك اللقاءات مع القادة الأوروبيين، وخاصةً القمة التي ستجمع الرئيسين بايدن وبوتين. الأهمية كبيرة لأنه بالتزامن مع محادثات فيينا، والتأكيدات عن فصل ملف الاتفاق النووي عن الملفات الأخرى، مثل موضوع الصواريخ الباليستية وتدخلات نظام الملالي المسؤول عن ضرب الاستقرار في كل المنطقة، بعدما نجحت هذه التدخلات في تحويل بلدان المشرق إلى دول فاشلة، نتيجة استباحة قرارها وإنشاء الجيوش الرديفة فيها، كما في لبنان وسوريا واليمن، وامتلاك «الحرس الثوري» الكلمة العليا في قطاع غزة، هذا فضلاً على الدور الإيراني المتقدم في رعاية الإرهاب، وهو البلد الذي يحتضن قيادة «القاعدة»، والوحيد بين دول المنطقة الذي لم يستهدفه الإرهاب الداعشي!
بالطبع هناك أولوية أميركية هي مواجهة التحدي الصيني، وهذه أيضاً أولوية أوروبية ولو بقدر معين، ويمكن أن يكون الشرق الأوسط بين أبرز أمكنة هذه المواجهة، التي ستدور ولا شك على امتداد «طريق الحرير» الجديدة، ولا يمكن أن تقتصر على صب اهتمام الديمقراطيات الغربية على بحر الصين، والدول المحيطة بالتنين الاقتصادي الأصفر، وحصر المواجهة هناك. فبالأمس أنجزت بكين تحالفاً واسعاً مع طهران أراد منه الملالي قبل أي شيء آخر حماية نظام التسلط والقهر المستمر منذ أكثر من 40 سنة، والحصول على الإمكانات المادية للمضي في نهج تصدير الثورة، وتخريب استقرار المنطقة في سعي متواصل لقيام «إيران الكبرى» الممتدة حتى المتوسط… فألا يهدد ذلك المصالح الأميركية، ويؤثر سلباً على الأمن القومي الأميركي؟ وهل تراجعت المخاطر المحدقة بالعالم؟ أم أن قوى الإرهاب لو تركت لأمكنها تنفيذ أكثر من مرة واحدة «11 سبتمبر»؟
بالتأكيد هناك الكثير من التحولات التي سيتم الدفع باتجاهها، وما سيتقرر في الأيام القليلة الآتية سيرسم مسار الأحداث لفترة غير قصيرة، وربما تبلور هذه القمم رؤى أكثر فاعلية في التعاطي مع التحديات الجاثمة على صدر المنطقة، لأن الأخطار لا تقتصر على الحدود الجغرافية لبلدان المشرق العربي.
الشرق الأوسط
حنا صالح