على الرغم من الضروري استمرار الضغط على النخب السياسية في لبنان، إلا أن الحكومة الأمريكية تحتاج إلى إيجاد طرق فورية لمساعدة الجنود والمواطنين من خلال الاستخدام الخلاق لسلطات وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين والكونغرس الأمريكي.
حين عُقد “المؤتمر الافتتاحي لموارد الدفاع” بين الولايات المتحدة ولبنان في 21 أيار/مايو، كان عنوان الاجتماع الافتراضي “تجديد التزام” واشنطن تجاه “الجيش اللبناني” من خلال زيادة مساعداتها للجيش، في إطار “التمويل العسكري الخارجي”، بقيمة 15 مليون دولار، بإجمالي 120 مليون دولار في السنة المالية 2021. وبالرغم من ضخامة الزيادة المقترحة، يمكن القول إن الموضوع الأكثر أهمية كان مناقشات “مؤتمر الموارد الدفاعية” حول كيفية قيام واشنطن بتقديم أنواع أخرى من المساعدة لـ “الجيش اللبناني”. ووسط الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في لبنان، فإن إدارة بايدن قلقة بحق بشأن سلامة القوات المسلحة اللبنانية. ويلعب “الجيش اللبناني” دوراً حاسماً في الحفاظ على بعض مظاهر الأمن الداخلي من خلال عمله في مكافحة الإرهاب ومراقبة التظاهرات. ومع ذلك، فوفقاً لتقرير جديد لـ “البنك الدولي”، تواجه لبنان خطراً متزايداً من الاضطرابات مع استمرار انهيار اقتصادها.
وعلى غرار سابقتها، تشترط إدارة بايدن دعم خطة إنقاذ “صندوق النقد الدولي” في لبنان بتنفيذ إصلاحات مالية. للأسف، من غير المرجح أن تحدث هذه الإصلاحات في أي وقت قريب، وبدونها ستستمر الدولة في الانزلاق نحو الفشل. ولا تستطيع واشنطن منع هذا التدهور – حيث هو من مسؤولية النخب السياسية البائسة في لبنان – ولكن يمكنها اتخاذ خطوات للتخفيف من الأزمة الإنسانية ومنع الجيش من الانهيار.
مأزق “الجيش اللبناني”
على الرغم من أن تمويل “الجيش اللبناني” كان مثيراً للجدل في بعض الأحيان بسبب تواطؤ “القوات المسلحة” مع «حزب الله» واختراق الأخير لها، إلا أن هذا الدعم كان حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في لبنان منذ “ثورة الأرز” عام 2005. وقد تجاوز الحجم السنوي لـ “التمويل العسكري الخارجي” المخصص للبنان ما يزيد قليلاً عن 100 مليون دولار على مدى السنوات الثلاث الماضية، مدعوماً بما يقرب من 100 مليون دولار من الإنفاق الإضافي لوزارة الدفاع الأمريكية على أمن الحدود وأنشطة التدريب، بالإضافة إلى حوالي 3 ملايين دولار من الإنفاق على صناديق “التعليم والتدريب العسكري الدولي”. وهذا يجعل واشنطن المانح الرئيسي لـ “الجيش اللبناني”، حيث تمثل الهبات الأمريكية الغالبية العظمى من ميزانية مشتريات القوات المسلحة.
على الرغم من هذه المساعدة، أثّر تدهور الاقتصاد اللبناني بشكل واضح على “الجيش اللبناني” خلال العام ونصف العام الماضيين. ويبدو أن تخفيضات الميزانية قد تسببت في تآكل استعداده العملياتي، في حين أن التضخم المفرط في المواد الغذائية دفع الجيش إلى الإعلان في حزيران/يونيو 2020 أنه لن يتم بعد الآن تقديم اللحوم للجنود في وجبات الطعام. وفي غضون ذلك، أدى تخفيض قيمة الليرة بنسبة 90٪ تقريباً إلى جعل الراتب الضئيل بالفعل لكل جندي عديم القيمة عملياً، مما أدى على ما يبدو إلى ارتفاع حالات الفرار من الخدمة، والإجازات، والتقاعد المبكر. وخلال خطاب علني غير مسبوق في آذار/مارس الماضي، انتقد قائد “الجيش اللبناني” العماد جوزيف عون القيادة السياسية وأعرب عن أسفه لمعاناة جنود الصف.
خيارات الرد الأمريكي
مع القليل من الأمل في أن تعمل النخبة السياسية اللبنانية على وقف النزيف الاقتصادي في أي وقت قريب، تبحث إدارة بايدن عن بدائل إبداعية لدعم “الجيش اللبناني”. لدى وزارة الدفاع الأمريكية أساساً بعض السلطات لدعم العمليات الحالية للجيش مالياً، مثل “المادة 1226 من قانون تفويض الدفاع الوطني” لعام 2016، والتي تسمح للبنتاغون بتعويض لبنان عن جهود أمن الحدود (أعلنت واشنطن مؤخراً أن سداد 60 مليون دولار قيد التنفيذ). ووفقاً لـ بيان صحفي صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية بشأن “مؤتمر الموارد الدفاعية”، “ناقش الوفدان سبل الاستفادة من النطاق الكامل للسلطات بموجب القانون الأمريكي” من أجل تزويد “الجيش اللبناني” بمساعدة إضافية. وتكمن المعضلة التي تواجه الحكومة الأمريكية في كَوْن “قانون مراقبة تصدير الأسلحة” يقصر “التمويل العسكري الخارجي” على شراء “مواد وخدمات دفاعية”، مما يمنع واشنطن من استكمال رواتب “الجيش اللبناني” أو دفع أي تكاليف متكررة في الواقع.
وعلى الرغم من هذه القيود، يجب على الولايات المتحدة النظر في عدة مبادرات يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً في ضمان استقرار “الجيش اللبناني”:
النظر في صلاحيات البنتاغون التي يمكن الاستعانة بها: إن أكثر احتياجات “الجيش اللبناني” إلحاحاً هي دفع الرواتب وتزويد معداته بالوقود وإطعام الجنود. وأحد السبل المحتملة لتقديم هذه المساعدة الطارئة هو استخدام “المواد الدفاعية الفائضة”، وهي صلاحية تجيز للبنتاغون إعطاء المعدات التي لم يعد بحاجة إليها لشركاء أجانب بنسبة خصم كبيرة. على سبيل المثال، أعلن الوفد الأمريكي في “مؤتمر الموارد الدفاعية” أنه سيتم نقل ثلاثة زوارق من فئة حامية خفر السواحل البحرية إلى لبنان في عام 2022. ويمكن أيضاً استخدام صلاحيات “مواد الدفاع الزائدة” لنقل المواد التي عادةً ما يشتريها “الجيش اللبناني” (على سبيل المثال، السيارات الثقيلة [“الهمفيز”] والطائرات بدون طيار وطائرات الهليكوبتر)، وبالتالي إخلاء بعض المساحة في ميزانية الجيش. وخيار آخر هو استخدام صلاحيات الإغاثة الإنسانية للبنتاغون، والتي تسمح لوزارة الدفاع الأمريكية في ظروف معينة بالتبرع بالمعدات والتجهيزات الزائدة غير القاتلة للدول الشريكة. ويوفر التخصيص السنوي لـ “المساعدات الإنسانية والمدنية والكوارث في الخارج” من قبل الكونغرس الأمريكي، الأموال لمساعدة وزارة الدفاع الأمريكية على دعم عمليات الإغاثة الخارجية في حالات الكوارث (على سبيل المثال، في آب/أغسطس 2020، تبرع البنتاغون بأكثر من 2 مليون دولار من الإمدادات لبناء مراكز استجابة لـ “كوفيد-19” في هندوراس).
استمرار الضغط لترسيم الحدود البحرية. وفقاً لـ “البنك الدولي”، انخفض “الناتج المحلي الإجمالي” للبنان من 55 مليار دولار في عام 2018 إلى 33 مليار دولار في عام 2021، وأدى محو الإيرادات الناتج عن ذلك إلى تآكل ماليات البلاد [وتلك الخاصة بـ] “الجيش اللبناني”. ويكمن أحد مصادر الإيرادات الجديدة المحتملة في الخارج، في المخزونات الكبيرة بل غير المستغلة من الغاز الطبيعي في البلاد. وتوجد أكثر الودائع الواعدة في المياه المتنازع عليها مع إسرائيل، ولم تحقق المفاوضات المطوّلة بشأن هذه المسألة تقدماً يُذكر حتى الآن. ومع ذلك، من خلال إظهار قدر أكبر من المرونة في إيجاد حل للحدود البحرية، يمكن لبيروت أن تدر عائدات كبيرة في وقت قصير نسبياً – وهو موضوع ينبغي على واشنطن الاستمرار في التأكيد عليه في رسائلها العامة والخاصة إلى السلطات اللبنانية.
دعم المزيد من الإصلاحات في “الجيش اللبناني”: على الرغم من أنه سبق للمؤسسة العسكرية أن اتخذت خطوات لخفض التمويل التقديري، إلا أنه لا يزال من الممكن اتخاذ المزيد من التدابير التقشفية. على سبيل المثال، يضم “الجيش اللبناني” حالياً، والذي يبلغ قوامه 80 ألف جندي، أكثر من 400 ضابط عام. لنقارن ذلك بعدد أفراد الجيش الأمريكي، الذي لديه ما يقرب من 500,000 جندي في الخدمة الفعلية ولكن فقط 295 ضابط عام بداية من عام 2020. وعند التقاعد، يتلقى هؤلاء الجنرالات اللبنانيين معاشاً تقاعدياً يدفع لمرة واحدة ومكوّن من ستة أرقام، بالإضافة إلى راتب شهري وسيارة وسائق وكمية غاز غير محدودة إلى الأبد – وهو استنزاف هائل للتمويل المتكرر لـ “الجيش اللبناني”. وفي حين يمكن تأجيل تسديد هذه المدفوعات على المدى القصير، إلا أن القوات المسلحة بحاجة إلى إعادة تقييم هذا العدد المتضخم من كبار الضباط من أجل تحقيق الاستدامة في المستقبل.
تشجيع الدول الأخرى على دعم ميزانية الجيش: يسعى طلب الميزانية لوزارة الخارجية الأمريكية للسنة المالية المقبلة إلى زيادة مخصصات لبنان من “أموال الدعم الاقتصادي” من 78 مليون دولار إلى 112 مليون دولار. يجب على إدارة بايدن أن تستعمل هذه الزيادة لحث الشركاء الإقليميين على زيادة مساعداتهم الخاصة. وفي السنوات الأخيرة، أشارت دول الخليج إلى أنها لم تعد مهتمة بتقديم الدعم المالي للبنان، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سيطرة «حزب الله» المدعوم من إيران على الدولة. ومع ذلك، عرضت دول أخرى مساعدة متواضعة على الرغم من مواجهة قيودها المالية الشديدة – على سبيل المثال، أرسل العراق لـ “الجيش اللبناني” مليوني دولار نقداً في الشهر الماضي. قد تكون واشنطن قادرة على إقناع المصريين بالتبرع وجمع الأموال لشركائهم اللبنانيين أيضاً، بناءً على تعهد القاهرة غير المسبوق بقيمة 500 مليون دولار للمساعدة في إعادة بناء غزة (على الرغم من أنه من غير الواضح كم من هذا التعهد السخي، إن وجد، سيتحقق في النهاية).
وضع عقوبات على المسؤولين الذين يمنعون تشكيل الحكومة. ليست هناك حكومة [فعالة] في لبنان منذ استقالة رئيس الوزراء حسان دياب بعد انفجار ميناء بيروت في آب/أغسطس 2020، مما خلق فراغاً سياسياً أوقف الإصلاحات وفاقم الأزمة الإنسانية. وفي أعقاب الكارثة، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفرض عقوبات على الفاعلين السياسيين المحليين الذين يعرقلون عملية الإصلاح وتشكيل الحكومة، لكن باريس لم تتابع بعد هذه التهديدات. وعلى الرغم من أن الضغط الفرنسي أكثر أهمية لكثير من السياسيين اللبنانيين من تحذيرات الولايات المتحدة، إلّا أنه لا يزال بإمكان واشنطن تحريك عملية تشكيل الحكومة من خلال فرض عقوبات على بعض النخب السياسية، والكثير منها متحالفة مع «حزب الله» وتمنع بنشاط تشكيل حكومة ذات توجه إصلاحي.
الخاتمة
من الصعب رؤية لبنان على طريق التدهور المستمر، لكن من الواضح أن هذا الانحدار يُعزى إلى ما وصفه “البنك الدولي” مؤخراً بـ “التقاعس الكارثي والمتعمد في السياسات” من قبل النخب السياسية اللبنانية. لذلك يجب على واشنطن وشركائها الاستمرار في اتّباع سياسة العصا والجزرة للضغط على هذه النخب لوضع بلادها في المرتبة الأولى، مع الحفاظ على الإصرار الدولي على الإصلاح كشرط مسبق لخطة الإنقاذ. ومع ذلك، فمن المسلم به أن السجل الحافل للطبقة الحاكمة لا يوفر سوى القليل من التفاؤل بأنها ستغير أساليبها في أي وقت قريب. إذاً، ففي غضون ذلك، يجب على المسؤولين الأمريكيين إعطاء الأولوية للخطوات المبتكرة التي تخفف من معاناة عامة الشعب وتعزز “الجيش اللبناني”، أكثر المنظمات الحكومية فاعلية في لبنان. وصحيح أن دعم الجيش ليس دواءً لكل العلل، ولكن كما أظهرت الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الفترة 1975-1990، سيصبح وضع البلاد أسوأ بكثير إذا ما تداعى “الجيش اللبناني”.
معهد واشنطن