حيرة أميركية في أفغانستان: خوض الحرب أم بناء المؤسسات

حيرة أميركية في أفغانستان: خوض الحرب أم بناء المؤسسات

تسارع الانسحاب الأميركي من أفغانستان المقرر أن يكتمل بحلول 11 سبتمبر 2021 بشكل كبير في الآونة الأخيرة ليبلغ 50 في المئة من مجمل العملية، ويأتي ذلك في الوقت الذي تحقق فيه حركة طالبان مكاسب بسيطرتها على مناطق عدة. ويعكس نجاح المتمردين فشل سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ غزوها للبلاد. وفيما وقع صناع السياسة الأميركية في التناقض والحيرة بين خوض الحرب أو المضي في بناء المؤسسات، إلا أنهم في المقابل غفلوا عن تطوير القطاع الأمني وإصلاحه، وهو ما تجلى بشكل واضح في الأيام الأخيرة مع تدهور الأوضاع وعودة المخاوف من نشوب حرب أهلية جديدة.

واشنطن – تصاعد العنف منذ مطلع مايو الماضي في أفغانستان مع بدء المرحلة الأخيرة من انسحاب القوات الأميركية من البلاد وذلك بأمر من الرئيس جو بايدن، في خطوة عكست حسب المتابعين فشل السياسة الأميركية قبل غزو البلاد وبعده.

وفيما تؤكد الإدارة الأميركية أن هذا الانسحاب يكتمل بحلول 11 سبتمبر، يحاول المتمردون الاستفادة من الفراغ الأمني الذي يعد أفضل هدية لهم، للسيطرة على بعض المناطق الخاضعة للحكومة.

ومنذ أمر الرئيس بايدن البدء بمغادرة الجنود الأميركيين في أبريل، سحب الأميركيون من هذا البلد ما يعادل 500 طائرة شحن من طراز سي – 17 محملة بالعتاد، وفقا للقيادة المركزية للجيش الأميركي. كذلك سلموا أكثر من 13 ألف قطعة من المعدات لوكالة تابعة للبنتاغون لإتلافها.

ويتعين على وزارة الدفاع الأميركية سحب آخر 2500 عسكري و16 ألف متعاقد مدني بحلول 11 سبتمبر، في الذكرى السنوية لهجمات العام 2001 التي أدت إلى الغزو الأميركي للبلاد، ولم تمح ذكراها وتداعياتها بعد بالنسبة إلى الأميركيين.

المخابرات الأميركية تفكر في التواصل مع الميليشيات العاملة خارج الهياكل الأمنية الرسمية، وهي إستراتيجية للاستثمار مستقبلا في عناصر غير تابعة للدولة

ويحذر خبراء محليون من أن رحيل القوات الأميركية من أفغانستان دون إقامة نظام حكم موثوق به قد يدفع البلد الذي مزقته الحرب إلى أتون حرب أهلية جديدة.

وذكر مسؤولون الخميس أن مسلحي طالبان حققوا المزيد من المكاسب حيث سيطروا على مقاطعتين أخريين في أفغانستان، إحداهما مهمة إستراتيجيا.

وأوضح عضوا المجلس المحلي في إقليم باداخشان عبدالله ناجي نزاري ومحبوب الرحمن طلعت في تصريحات صحافية، أنه بعد يومين من الاشتباكات الكثيفة بين طالبان وقوات الأمن في مقاطعة أرغانج خوا في الإقليم، اضطر الجنود لمغادرة آخر نقاط التفتيش المتبقية التي كانوا متمركزين بها.

وأضافا أن قوات الأمن في مقاطعة شينارتو انضمت إلى المسلحين نظرا لعدم تلقيهم أي إمدادات.

وبعد جيزان تعد شينارتو المقاطعة الثانية في أوروزجان التي تسقط في يد طالبان في الأيام الأخيرة. ومن ناحية أخرى، هاجمت طالبان قاعدة عسكرية بسيارة مفخخة في عاصمة إقليم بغلان ما أسفر عن مقتل عدد من أعضاء قوات الأمن بينما أصيب آخرون.

وأمام عودة العنف، يحث الخبراء واشنطن على عدم تكرار الخطأ الذي أدى إلى إراقة الدماء لعدة سنوات بين مجموعات المجاهدين في البلاد، بعد انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان عام 1989. وفي تقدير هؤلاء فإن الظروف الحالية داخل أفغانستان لا تبشر بالسلام بل تقدم وصفة مثالية لحرب أهلية مرتقبة.

مستقبل محفوف بالمخاطر

يتوقع الكثير من المحللين مستقبلا محفوفا بالمخاطر في أفغانستان، ومن الدلائل المبكرة على ذلك تصريح مسؤولين أفغان مؤخرا بأن مسلحي طالبان سيطروا على منطقتين جديدتين في أفغانستان في غضون ثلاثة أيام بناء على المكاسب العسكرية التي حققوها منذ البداية الرسمية لانسحاب القوات الدولية، وأن القوات الحكومية تخلت عن المنطقة الأخيرة دون الاشتباك مع المسلحين.

ومنذ الأيام الأولى للعمليات الأميركية في أفغانستان، تمارس الولايات المتحدة أمرا محيرا. فحتى أثناء تطوير الجيش الوطني الأفغاني كجزء من مشروع أوسع نطاقا لبناء الدولة، بدأت القوات الأميركية تدريب وتمويل وحدات منفصلة تحت قيادة أمراء الحرب للمساعدة في مواجهة تنظيم القاعدة. وكانت تلك إلى حد كبير عمليات مستقلة دون تنسيق مع كابول.

وكان الكثيرون في تلك الوحدات يحصلون على مرتبات أعلى بكثير مما يقدمه الجيش الرسمي، مما أدى إلى تقليص الرغبة في الانضمام إلى الجيش وتمكين أمراء الحرب مما جعلهم في وضع أقوى من قوات الأمن التي يفترض أن الولايات المتحدة كانت تقوم بدعمها.

لوران وودز: المخابرات الأميركية لم تحسن التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب

وكتبت أنجا مانويل وبي.دبليو سينجر في مقال نشرته مجلة فورين أفيرز في عام 2002 تعليقا على هذا الأمر؛ أنه نتيجة لذلك لم تظهر أي خطة متماسكة لدمج أمراء الحرب أو تسريحهم وأنه ”إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، يبدو من المؤكد تقريبا أن حلم إيجاد جيش يعتمد على نفسه يخدم الشعب الأفغاني سيكون مصيره الفشل”.

وتقول لوران وودز مديرة برنامج مراقبة المساعدات الأمنية بمركز السياسة الدولية الأميركي، وإلباس يوسف نائب مديرة برنامج مراقبة المساعدات الأمنية في تقرير نشرته مجلة ناشونال انتريست الأميركية إنه مرت 20 عاما تقريبا ويبدو أن هذه التنبؤات صدقت إلى حد كبير. فمازالت قبضة قوات الأمن على زمام الأمور في البلاد ضئيلة، وتواصل اعتمادها على الدعم الدولي، خاصة بالنسبة إلى السلاح الجوي. وزاد نفوذ طالبان باطراد، كما زادت سيطرتها على الأراضي، وقدرتها على تنفيذ هجمات منتظمة، وشعورها بأنها كسبت الحرب.

ويعتبر التناقض بين أهداف خوض الحرب وبناء المؤسسات مجرد عامل بين كثير من العوامل وراء فشل الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلنطي في بناء قوات أمن متمكنة في أفغانستان، ولكنه من أهم العوامل وأكثرها تجاهلا، وللأسف من المحتمل تكراره.

وأضافت وودز ويوسف أن الولايات المتحدة تشارك في تعاون أمني مع نحو 147 دولة في العالم، من خلال إجراءات مثل المساعدة المباشرة في مجال الأمن والتدريب والمناورات المشتركة وتسليح وتجهيز قوات الأمن.

ويعد هذا مشروعا ينطوي على تحديات في ظل أفضل الظروف، ويتطلب قدرا متزايدا من العمل مما يشير إلى أن فعاليته في تحقيق أهدافه المعلنة غير مؤكدة في أفضل الأحوال.

ومن الصعب التنبؤ بتداخل المساعدات مع الديناميكيات الاجتماعية، والسياسية، والأمنية المحلية وحتى من الأصعب إدارته.

ولم تحظ أفغانستان بأفضل الظروف. فقد كانت الولايات المتحدة تقوم بجهودها الأكثر طموحا المتعلقة بالمساعدات الأمنية بينما تخوض حربا في نفس الوقت.

وكما اكتشفت الولايات المتحدة فإن أهداف إدارة الجهود المتوازية لإضعاف تقدم طالبان والقيام في نفس الوقت بإعداد قطاع أمني أفغاني رسمي كانت في الغالب متعارضة.

وفي حقيقة الأمر، فإن خوض الحرب كان مهيمنا للغاية على التصور الأميركي في عام 2001 لدرجة أن تطوير القطاع الأمني وإصلاحه نادرا ما كان يشغل بال صانعي السياسة الأميركيين قبل غزو أفغانستان أو حتى بعده. وكانت للجهود العسكرية لاقتلاع طالبان وتدمير الملاذات الآمنة لتنظيم القاعدة الأسبقية على كل شيء آخر، مما أدى إلى عدم الاهتمام بالحاجة لتخطيط لما بعد الحرب، خاصة في القطاع الأمني، حسب ما ذكرته وودز.

وقد صاحبت ذلك انتصارات مبكرة، بما في ذلك الهزيمة الواضحة لطالبان ونجاح الغزو، مما زاد من إغفال الحاجة للتركيز على إعادة بناء قوات الأمن الأفغانية.

أدى هدوء خادع في فترة ما بعد طالبان إلى عدم إعطاء المخططين العسكريين الأولوية للقطاع الأمني، رغم الحاجة الماسة للخدمات الأمنية المتمكنة. ونتيجة لذلك كانت المساعدات الأمنية وبناء المؤسسات العسكرية متقهقرة بالنسبة إلى التحديات الأمنية الأكثر إلحاحا في أفغانستان.

ويرى الباحثان أن الأمر الأكثر مرارة هو أنه بينما تستعد الولايات المتحدة لسحب قواتها بالكامل بحلول سبتمبر المقبل، هناك تقارير بالفعل تفيد بأن أجهزة المخابرات الأميركية تفكر في التواصل مع قادة الميليشيات العاملة خارج الهياكل الأمنية الأفغانية الرسمية، وهي إستراتيجية للاستثمار في عناصر غير تابعة للدولة تعترف بأهمية القطاع الأمني غير الرسمي وتطيل أمده.

وعلى الرغم من أنه من المستحيل تصحيح الأخطاء السابقة في مجال المساعدات الأمنية في أفغانستان، هناك خطوات قليلة يمكن للولايات المتحدة والشركاء الدوليين اتخاذها لتعزيز المساعدات الأمنية في المستقبل، سواء كانت مساعدات تكميلية في أفغانستان أو في غيرها من الدول.

وأول هذه الخطوات، هو أنه يتعين على الولايات المتحدة تطوير تفهم أكثر قوة لكيفية تعارض أي ظروف قتالية مع أهداف المساعدات الأمنية.

وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على مختلف أجهزة الحكومة الأميركية تطوير تفهم مشترك للهدف المطلوب أن تحققه المساعدات الأمنية؛ إذ أن مفاهيم المساعدات الأمنية تختلف في ما بين أجهزة الحكومة الأميركية، حيث لدى كل منها أفكار للدور الذي يجب أن تقوم به في السياسة الخارجية الأميركية.

وتخلص وودز ويوسف في ختام تقريرهما إلى أنه من أجل تعظيم فعالية المساعدات الأمنية، يتعين على الحكومة الأميركية وضع عقيدة أكثر تلاحما للتعاون الأمني بين أجهزتها، تتضمن مجموعة مشتركة من التعريفات والأهداف والسياسات المتعلقة بالمساعدات الأمنية، والتي تربط بين المساعدات الأمنية والتقييم والمراقبة والتقدير في إطار أهداف السياسة الخارجية الأوسع نطاقا.

العرب