قمة بايدن وبوتين: هل تفيد واشنطن بالتحشيد ضد الصين؟

قمة بايدن وبوتين: هل تفيد واشنطن بالتحشيد ضد الصين؟

على الرغم من تعبير الطرفين أكثر من مرّة عن أملهما في إيجاد نقاط مشتركة للتعاون، لم تحدث التصريحات الأميركية والروسية المتوالية حول العلاقة بين البلدين، منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وخصوصاً منذ أن تحدّد موعد القمة التي ستجمعه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، اليوم الأربعاء، تبدلاً في سقف التوقعات المنخفض من القمة المرتقبة، في كلّ من واشنطن وموسكو. غير أن الهجمة الدبلوماسية والإعلامية الأميركية، والتي ترافق زيارة الرئيس الأميركي إلى أوروبا حالياً، للقاء الحلفاء الأوروبيين، والتي تركز كثيراً على محاولة خلق ما يشبه حائط صدّ أميركياً في مواجهة الصين، قد تترافق مع محاولة بايدن إحداث تباعد بين موسكو وبكين، كجزء من عملية مقايضة مع سيّد الكرملين. هذا التباعد، حاول بوتين بدوره الإيحاء به خلال الفترة الماضية، لتخفيف وطأة توتر علاقته بالغرب عموماً، على خلفية سياساته الخارجية، والتي بات ينظر إليها المتابعون لسياسة هذا البلد على أنها “محاولة لم تعد تجدي نفعاً في صرف النظر عن الأزمات الداخلية التي يعيشها المجتمع الروسي”. من جهته، لا يزال بايدن، الذي يرغب في حشد دعم “ديمقراطيات العالم” لمواجهة الصين، كإحدى أهم النقاط على أجندة سياسته الخارجية، يواجه تبعات دخول الحليفين على ضفتي الأطلسي (الأوروبيين والأميركيين)، فترةً يُظلّلها انعدام الثقة الأوروبية بواشنطن، خلقتها سنوات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. هذا الوضع قد يعقّد مسعى بايدن “الصيني”، فيما ترتفع أيضاً الأصوات في الداخل الأميركي، منتقدة عزمه لقاء بوتين الذي وصفه بايدن نفسه في وقت سابق بـ”القاتل”.

شكلّت سياسة ترامب بالنسبة إلى موسكو الفرصة الذهبية لترسيخ حضورها الدولي

بايدن مقابل ترامب

في كلّ الأحوال، ينظر الأوروبيون بارتياح إلى جولة بايدن الخارجية في أوروبا، والأولى له إلى الخارج منذ تسلمه منصبه رسمياً في يناير/ كانون الثاني الماضي، مقارنة بالأجواء التي سادت خلال زيارة سلفه دونالد ترامب الأولى إلى القارة العجوز في ربيع عام 2017. وكانت تلك الزيارة قد زرعت البرودة في علاقة الحليفين الأوروبي والأميركي، وهي برودة لم يتردد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في التعبير عنها صراحةً حينها، في أعقاب زيارة ترامب. وجاء ذلك، خصوصاً حين أبدى الأخير دعماً وترحيباً بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومباشرته ما يشبه حرباً تجارية مع الكتلة الأوروبية، إلى حدّ وضعه هذه الكتلة في مصاف الأعداء، وقوله إنها “أكثر ضرراً من الصين”. كذلك زرع ترامب حالة من انعدام اليقين، في شأن مركزية علاقة الطرفين العسكرية في حلف شمال الأطلسي، “ناتو”.

روسيا
تقارير دولية
روسيا وأميركا: تصعيد حتى السماوات
على النقيض من ذلك، شكّلت سياسة ترامب بالنسبة إلى موسكو الفرصة الذهبية لترسيخ حضورها الدولي، من خلال سياسات خارجية كان هدفها اللعب على متناقضات الحليفين الغربيين. لكن على الرغم من لغة “الغزل” التي استخدمها ترامب تجاه بوتين، فإن الأخير لم يستطع ترجمتها على الأرض، والاستفادة منها في سياسته وعلاقته ومكانته في الغرب، خصوصاً في مسعاه لإعادة بلاده إلى اجتماعات قادة الدول الصناعية الثماني “جي 8” (اجتماعات مجموعة الثماني الكبرى التي تمنع روسيا من حضورها منذ عام 2014 بسبب ضمّها شبه جزيرة القرم، وتعقد منذ ذلك الحين بصيغة مجموعة السبع). كذلك لم يتمكّن بوتين من الاستفادة من وجود ترامب، لتغيير النظرة السلبية تجاهه، في المجتمعين الأميركي والأوروبي.

كلّ الطرق تؤدي إلى الصين
رفع الرئيس الأميركي جو بايدن شعار “عودة أميركا” منذ وصوله إلى البيت الأبيض، وأعاد التذكير بهذا الشعار قبيل توجهه إلى أوروبا الأسبوع الماضي، حيث حضر بداية قمة مجموعة السبع، والتي استمرت 3 أيام، واختتمت يوم الأحد الماضي. واعتبر بايدن جولته الأوروبية محاولة إصلاح ما أفسدته سنوات ترامب، متخذاً أيضاً شعار التشديد على أن “ديمقراطيات العالم تقف مع بعضها”. ويبدو هذا الشعار، في الظاهر، مريحاً للأوروبيين وحلف الـ”ناتو”، خصوصاً أنه يبدو كمن يضع شعاري ترامب “أميركا أولاً” و”أميركا وحدها” خلف ظهر الجميع. بيد أن شعار “توحيد الديمقراطيات” في الجوهر ليس سوى تعبير عن رغبة أميركية في محاصرة الصين. هذا على الأقل، بحسب قراءة خبراء أوروبيين لتحركات واشنطن في أوروبا، بما في ذلك قمة بايدن – بوتين المرتقبة في جنيف.
ويرى الديمقراطيون في واشنطن، وإلى حدّ ما أيضاً بعض الجمهوريين المعتدلين، أن الولايات المتحدة لا يمكنها وحدها مواجهة التحدي الصيني، وهي تحتاج بشدة إلى حلفاء أقوياء، وخصوصاً أوروبا. هذا ما يطرحه كبير المحللين في مركز الأبحاث الألماني “جيرمان مارشال فاوند” ياكوب فونك. ومثله يذهب أيضاً مدير قسم الدراسات الدولية في مركز الدراسات الدولية الإيطالي، ريكاردو أكارو، إذ يعتبر أنه “من الأهمية بمكان لسياسات بايدن الخارجية استحضار بكين كنقطة مركزية في العلاقة مع أوروبا”، وذلك في تصريح له نقلته الصحافة الأوروبية تزامناً مع جولة بايدن. القراءة ذاتها تذهب إليها مديرة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، يانا بوغليرين، معتبرة في تصريحات للصحافة الألمانية والدنماركية أن “بايدن يسير عكس ترامب الذي قرأ أوروبا كعبء على سياساته في مواجهة بكين”، وأن الرئيس الأميركي الحالي يرى “أهمية أكبر لأوروبا في تصاعد المواجهة (مع بكين)”.
ويراهن معسكر بايدن على جمع جبهة من السياسات الديمقراطية الليبرالية حول العالم في مواجهة بكين. وبناء عليه، يأتي أيضاً مقترحه حول عقد قمة الديمقراطيات في واشنطن الخريف المقبل. فالتنافس وتوتر العلاقة والخطاب بين الولايات المتحدة والصين، على المستويات السياسية والأيديولوجية والتقنية والعسكرية، يضع واشنطن في موقع الباحث عن حشد تحالف أوسع من داخل القارة الأوروبية، وأيضاً من خارجها. ويضع ذلك مشروع بايدن في حالة من سجال التصنيف للأنظمة المدعوة لقمة الخريف، وما إذا كان يستطيع تجنب دعوة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، مثلاً، الأقرب نظامه إلى الشعبوية، أو رئيس وزراء الهند اليميني المتطرف ناريندرا مودي.

شعار بايدن لـ”توحيد الديمقراطيات” ليس سوى تعبير عن رغبة أميركية في محاصرة الصين

وكان بايدن قد عبّر عن رغبته في توسيع التحالف، في فبراير/ شباط الماضي، حين قال إن الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا مضطرة لمواجهة حكومة بكين. وفي مقال رأي له في “واشنطن بوست”، نشر في 6 يونيو/ حزيران الحالي، كتب بايدن عن رغبة بلاده في “التركيز على كيفية قيام الديمقراطيات الليبرالية، وليس الصين أو أي بلد آخر، بوضع قواعد القرن الـ21 للتجارة والتكنولوجيا”، مشدداً على أن أكبر الديمقراطيات في العالم “ستقدم حلولاً عالية المستوى كبديل للحلول الصينية، لتطوير البنية التحتية المادية والرقمية والرعاية الصحية، والتي تكون أكثر استدامة مع دعم التنمية العالمية”.

محطة جنيف: أي نتائج؟
في سياق الترتيب للقاء القمّة الأميركية الروسية في جنيف، خرج الكرملين أخيراً، ليوضح أن علاقة الطرفين في أدنى درجاتها. ويدرك الرئيس الروسي وحاشية الكرملين أن الاجتماع الثنائي لن يكون سهلاً في سياق الاستراتيجية الجديدة التي يتبناها البيت الأبيض. ويعزّز ذلك أن سمعة بوتين، الذي عاصر خلال وجوده في السلطة أربعة رؤساء أميركيين (جورج بوش الابن وبيل كلينتون وباراك أوباما وترامب)، ليست في أفضل حالاتها حالياً في واشنطن وفي عواصم أوروبية عديدة. ويريد بوتين في الواقع، بعد ضمّه جزيرة القرم وارتفاع التوتر عسكرياً وأمنياً مع دول حلف الأطلسي، أن يقيم علاقة لروسيا مع واشنطن والغرب، على أساس التعددية القطبية، متكئاً خصوصاً على ما بنته موسكو خلال سنوات حكمه، من لعب على وتر تناقض المصالح بين اللاعبين الغربيين. لكن رغبة موسكو هذه تصطدم ببعض تعقيدات: فتبني سياسيي الحزب الديمقراطي في واشنطن مساراً مختلفاً في العلاقات الدولية يستند إلى رؤية لنظام عالمي ليبرالي، ومتخلصاً من إرث ترامب، كأحد عناوين التصدي للصين، يجعل الكرملين يشعر بأن الدائرة تضيق على تكتيكاته.
وكان اتهام موسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 قد كبّل جموح ترامب نحو بوتين، الذي لم يحصل في النهاية سوى على “خفض التوتر والتوازن على جبهة العلاقات بواشنطن، وهو يعتقد أن القمة مع بايدن ربما تكون مفتاحاً لمواصلة التبريد”، بحسب ما ترى نائبة مدير “دائرة السياسة العالمية” في جامعة سان بطرسبرغ الحكومية، ماريا لاغوتينا، في تصريح لصحيفة “إنفورماسيون” الدنماركية. وتضيف لاغوتينا أن اللقاء “هو مسعى فقط لكي يتجنب بوتين التصعيد ومخاطره، لأنه لم يعد قادراً على بيع انتصارات السياسات الخارجية كبديل للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية داخل روسيا”، لافتة إلى أن “الشعب الروسي يتجه الآن إلى الداخل، ويركز على الأجندة الداخلية”. لكن مدير “المجلس الروسي للشؤون الدولية”، أندريه كورتونوف، يعتبر أن خلق كيمياء في العلاقة بين الرئيسين “ليس هو الأهم”، بل المهم بين البلدين “إظهار الاحترام المتبادل وليس التقارب”، مضيفاً أن “مشكلة ترامب كانت أنه قال الكثير، لكنه لم يف به، ولم يكن قادراً على فعل ذلك”.
وأعرب بوتين، يوم الأحد الماضي، عن أمله بأن تسفر القمة عن وضع آليات للتعاون على مختلف الاتجاهات. وقال بوتين في حديث لبرنامج “موسكو. الكرملين. بوتين” عبر قناة “روسيا 1” إنه يشاطر الأميركيين الرأي بأن هناك عدداً من القضايا موضع الاهتمام المتبادل، ومن بينها الاستقرار الاستراتيجي وقضية النزاعات الإقليمية وحماية البيئة والتعاون في مجال الاقتصاد. وأضاف: “هناك قضايا يمكننا أن نعمل فيها بفاعلية”.
ووفقاً لقراءات أوروبية وروسية، يراهن بوتين على حاجة واشنطن لخفض التوتر مع بلاده، للتركيز على بكين. وفي هذا الإطار، تبدو مسألة التوترات العسكرية بين الطرفين محور التخفيض الذي يسعى إليه الكرملين، خصوصاً بعد انسحاب موسكو في مايو/ أيار الماضي من اتفاقية “السماوات المفتوحة”، الموقعة بين الـ”ناتو” وحلف وارسو السابق في عام 1992، والتي لم تجددها واشنطن بعد رحيل ترامب. لكن حتى في هذه المسألة، فإن التوقعات تبدو منخفضة، إذ يتوقع المحللون أن تترك مسألة بتّها لخبراء من الجانبين.

لاغوتينا: لم يعد بوتين قادراً على بيع انتصارات السياسات الخارجية كبديل للمشاكل داخل روسيا

ومن القضايا التي تشغل الطرفين أيضاً، مسألة الأمن السيبراني، كواحدة من النقاط التي يمكن للأميركيين مفاتحة الروس حولها. ويستغل بوتين هذه القضية لوضعها على طاولة التفاوض، كمفتاح لمقترح تعاون روسي – أميركي. ويرى مراقبون أن “بوتين سيقايض مسألة هجمات قراصنة المعلوماتية بمسألة دعم واشنطن وأوروبا للحركات المناهضة له”. ويوافق الخبير الروسي أندريه كوتونوف على ذلك، معتبراً أن “الروس بهذه الطريقة يلقون الكرة في الملعب الأميركي”، ومعرباً عن اعتقاده بأن موسكو لن تقدم تنازلات كبيرة في القمة.

علاقة في أدنى المستويات
تعيش العلاقة الروسية – الأميركية أدنى مستوياتها، ويعيد كثيرون ذلك إلى انتقادات واشنطن المستمرة لسجل حقوق الإنسان في روسيا. وجاءت قضية المعارض الروسي ألكسي نافالني (اتهم روسيا بتسميمه، ثم اعتقل وسجن في موسكو، وصنفت منظماته أخيراً بـ”المتطرفة”)، لتزيد الأمور تعقيداً. وجاء دعم موسكو الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يطلق عليه الأوروبيون لقب “آخر ديكتاتور أوروبي”، ليزيد طين العلاقات بلّة.
من جهتها، تبدو واشنطن إلى الآن ماضية في سياسة تجاهل لموقع روسيا، ومحاولة موسكو استثمار تدخلاتها الخارجية في العالم، الممتدة من بيلاورسيا إلى أوكرانيا إلى سورية. ويعزز ذلك النفور العالي في واشنطن تجاه بوتين. ويقول الخبير الأميركي في الشؤون الروسية، مارفن كالب، إنه “يصعب أن تجد في واشنطن شعبية لقمة جنيف. بل يصعب أن تجد سياسياً أو خبيراً أميركياً لا يحتقر بوتين بعد التدخل السافر في ديمقراطيتنا في 2016”. ويرى السفير الأميركي السابق في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، ستيفن سيستانوفيتش، في تقرير في “مجلس العلاقات الخارجية”، أنه لا يجب أن تتكرر كارثة قمّة هلسنكي بين ترامب وبوتين (2017)، معتبراً أن بوتين يواظب على “ضرب مصالح أميركا والديمقراطيات الغربية”، وأن بايدن “لن يتردد في قول هذه الحقيقة له”.
ويرى بعض الجمهوريين أيضاً في واشنطن أن القمة لا يجب أن تكون “مكافأة” لبوتين. واعتبر السيناتور الجمهوري المعتدل، بن ساسي، أنه كان من الخطأ أن يبادر بايدن من الأساس إلى عقد مثل هذه القمة. وكتب ساسي أنه “بينما يسجن بوتين نافالني، ويسمح لدميته لوكاشينكو باختطاف الطائرة، ويتصرف كرجل عصابات مع شعبه، فإننا نمنحه الإذن لخطّ الغاز نوردستريم 2 (سيل الشمال 2 مع ألمانيا) ونمنح أفعاله الشرعية من خلال القمة”.
هذه الانتقادات، دفعت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، للدفاع عن القمة باعتبارها “الطريقة التي تعمل فيها الدبلوماسية”، مؤكدة أن الدول لا تلتقي فقط مع من يتفق معها و”من المهم التحدث إلى القادة الذين لدينا الكثير من الخلاف معهم”.
وفق هذه الخلفية، تعقد القمة الأميركية – الروسية اليوم، فيما تصبو واشنطن إلى شدّ عضد تحالف أوسع من التحالف الغربي، لمواجهة التحديات الصينية، واعتبارها هذه التحديات عالمية في مواجهة “الديمقراطيات الليبرالية”. من جهتها، تأمل روسيا في استغلال هذه النقطة بالتحديد لتخفيف بعض الأعباء الاقتصادية عن كاهلها، والعقوبات الهائلة التي تحاصرها من نواح عدة، والتي تجعل أزمات بوتين “متضخمة إلى حد أنه لن يتمكن من الاستمرار في الحكم بعد تعديله الدستور”، وفقاً لسيستانوفيتش.

العربي الجديد