يُعدّ الالتزام القاطع بإنفاذ العقوبات أمراً بالغ الأهمية أثناء تنفيذ الولايات المتحدة للاتفاق النووي الذي أبرمته مع إيران. ولا شكّ أنّ واشنطن تمتلك النفوذ والأدوات والعلاقات الكفيلة بإخضاع طهران للمساءلة، ويبقى السؤال ما إذا كانت ستلجأ بالفعل إليها. وتؤكّد تصريحات المسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية آدم زوبين التزام الإدارة الأمريكية القوي ليس فقط بإنفاذ الاتفاق، بل أيضاً بالإبقاء على العقوبات الإضافية التي تستهدف العديد من الأنشطة المزعزعة للاستقرار التي يمارسها النظام الإيراني، بدءاً بالإرهاب ووصولاً إلى انتهاكات حقوق الإنسان.
ويكمن التحدي الرئيسي الآخر في نقص الثقة الذي برز على الصعيدين العالمي والوطني. وعلى الرغم من تجلّي هذا النقص في الثقة في كثيرٍ من الأحيان في القواعد الحزبية، إلّا أنّ اختلافاً مشروعاً في وجهات النظر يتبدّى داخل الإدارة الأمريكية والوكالات المعنية وداخل كلّ حزبٍ حول كيفية وجوب معالجة القضية الإيرانية. ومع ذلك، ثمة أمرٌ واحد يمكن أن يتّفق عليه معظم الناس، وهو أنّ المخاطر المرتبطة بإيران ستتوسّع في المستقبل. فالزيادة في عمليات الصرف والتجارة مع الجمهورية الإسلامية، إلى جانب انعدام الوضوح، إنّما تعني أنّ الالتزام بإنفاذ العقوبات يشكّل مناراً بالغ الأهمية للعاملين في مجال إدارة المخاطر. فعلى الرغم من أنّ ممارسة الأعمال مع إيران ليست محظورًة قانوناً، إلّا أنّه يمكن أن تكون وازعةً من منظور إدارة المخاطر.
أمّا بالنسبة إلى مسألة الأوروبيين الذين يتطلّعون إلى إشراك إيران، فمن المفيد أن نقسّم الإجابة على المصارف والحكومات والشركات والرأي العام. فالمصارف العالمية الكبرى تدرك أنّ إدارة المخاطر تختلف عن قانون العقوبات، وأنّ المعاملات مع إيران تنطوي على مخاطر كبيرة. لهذا السبب، من المستبعد أن تسارع المصارف بالعودة إلى البلاد. كذلك، تغيّرت الطريقة التي تفكّر من خلالها الحكومات في مسألة مكافحة تمويل الإرهاب والعقوبات بشكلٍ كبير خلال السنوات العشر المنصرمة، وازدادت كثيراً ثقافة الامتثال.
وعلى الرغم من ذلك، ستمارس الشركات ضغوطاً كبيرة على المصارف لإنجاز المعاملات مع المؤسسات الإيرانية، لذا سيتعيّن على المصارف توعية هذه الشركات حول إدارة المخاطر. وفي النهاية، ستغدو هذه التحديات أكثر حدةً على مدى السنوات القليلة المقبلة، في وقتٍ ستزيد فيه اقتصادات دول “مجموعة السبع” استثماراتها في إيران وترتفع كلفة إنفاذ العقوبات.
ويُشكّل إحياء النقاش داخل الأوساط السياسية والشعبية تحدياً كبيراً أيضاً. فعلى الجبهة السياسية، ستعتمد شرعية الاتفاق النووي على التخلّي عن الردود الانتقامية بمبدأ العين بالعين والتركيز على تطبيق المعايير العالمية التي تؤثّر في أمن الجميع تطبيقاً فعّالاً. وعلى الجبهة الشعبية، يبدو أنّ الجمهور أكثر قلقاً بشأن قضايا حماية البيانات والمسائل المتعلقة بالخصوصية من قلقه من مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ويستدعي ذلك بذل جهود أكبر لتوعية الجمهور حول الأسباب التي تجعل من القيود المالية أداةٌ حكومية مهمة ومناسبة. يتعيّن على الإدارة الأمريكية أيضاً أن تكون واضحة ومتّسقة مع الجمهور حول ما يعنيه هذا الاتفاق النووي في النهاية. وحتى الآن، ذكر مسؤولون أمريكيون أنّ الاتفاق يتناول حصراً مسألة الانتشار النووي، وأنّ جميع قيود حظر الانتشار النووي لا تزال سارية المفعول. ومع ذلك، فبالنسبة إلى القادة الإيرانيين يبدو أنّ الاتفاق يتمحور حول التكامل الاقتصادي وإلغاء جميع العقوبات، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أيّ سرديّة ستسود؟
وأخيراً، إذا برزت الحاجة إلى تطبيق العقوبات على الانتهاكات الإيرانية للاتفاق، يمكن أن تبدأ واشنطن مع شركائها بإنفاذ عقوبات محدودة عن طريق اللاعبين الثانويين كجمهورية بيلاروس وأوكرانيا. ومن شأن ذلك أن يبعث رسالةً تحمل في طياتها مخاطر منخفضة نسبياً ينجم عنها تداعيات سياسية من جانب طهران. فإنفاذ العقوبات لا يتعلّق بهذه الأخيرة فحسب، بل بالأطراف المُستَهدَفة أيضاً وبكيفية استهدافها.
أوضحت تصريحات آدم زوبين أنّه إذا سهّلت المصارف الأجنبية المعاملات الهامّة مع شركة “خاتم الأنبياء” (شركة البناء الإيرانية التي يملكها «فيلق الحرس الثوري الإسلامي»)، فسوف يتمّ منعها من العمل في الأسواق الأمريكية. وتثير هذه النقطة الكثير من القضايا، وإحداها الطريقة التي سيأتي بها ردّ فعل الحكومات الأوروبية. فقبل عقدين من الزمن، أعرب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عن حماسه إزاء “قانون العقوبات على إيران وليبيا” عند التوقيع عليه، غير أنّ إدارته تراجعت فوراً عمّا اعتبره الأوروبيون إنفاذاً للقانون الأمريكي يتجاوز الحدود ويطال الشركات الأجنبية التي تستثمر في قطاع النفط والغاز في إيران.
وثمة مسألة أخرى، وهي أنّ الشركات الأوروبية متحمّسة للغاية بشأن احتمال المسارعة بالعودة إلى إيران للاستثمار فيها بعد تنفيذ الاتفاق النووي، ويكاد ينعدم فهمها للعقوبات الأمريكية الثانوية والهامة التي ستبقى سارية المفعول. علاوةً على ذلك، لا تُبلِغ الحكومات الأوروبية كما ينبغي الشركاتِ بأنّ عليها أن تبقى حذرةً من هذه الاستثمارات. ويمكن القول إنّ تصريحات زوبين هي المرة الأولى التي يعلن فيها مسؤول في إدارة الرئيس أوباما بوضوح حقيقة أنّ العقوبات الثانوية ستبقى سارية المفعول على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع الشركات الإيرانية المُدرَجة على القائمة السوداء.
وفي الواقع، تشعر المصارف الأوروبية بالقلق من انعدام الوضوح فيما يتعلّق بإنفاذ القوانين الأمريكية، كما أن انخراط «الحرس الثوري الإسلامي» على نطاقٍ واسعٍ في الاقتصاد الإيراني لا يُساهم إلّا بمفاقمة المشكلة. وتتم مزاولة أعمال تجارية كثيرة في إيران عن طريق اتحادات شركات كبيرة، يضمّ معظمها على الأرجح شركةً واحدة على الأقل مرتبطة بـ «فيلق الحرس الثوري». وقد يعني ذلك أنّ العقوبات الثانوية سوف تنطبق على جميع الشركات في هذه الاتحادات. وتخشى المصارف أيضاً من أنّه حتى لو لم تُغرِّم الإدارة الأمريكية الحالية الشركات على أنشطتها المشبوهة، إلّا أن الإدارة المقبلة ستفعل ذلك. ويبدو أن هذا قد حصل مع مصرف “بي أن پي پاريبا” (BNP Paribas): فقد اعتقد المصرف الفرنسي على الأرجح أنّ الحكومة الأمريكية كانت تغضّ الطرف عن المعاملات المحظورة، فبدأ بإجراء المعاملات مع إيران منذ عام 2002، إلّا أنّه تلقّى غرامةً وصلت إلى تسعة مليارات دولار في عام 2014.
إن التناقض بين مواقف أوروبا وواشنطن وتعقيد تحدّي إنفاذ العقوبات إيران قد منح ميزةً في المعركة على الرأي العام. وإذا أعاقت إدارة أوباما بالفعل الشركات الأوروبية عن إعادة التعامل مع الاقتصاد الإيراني، فليس هناك شك في أنّ طهران ستستغلّ الوضع لتحاجج بأنّ الولايات المتحدة تنتهك الاتفاق النووي من خلال تنفيذ المزيد من العقوبات. ومن شأن ذلك أن يثبت صحة موقف آية الله علي خامنئي ومتشدّدين آخرين، الذين حاججوا بأنّ الاتفاق ما هو إلّا ستارٌ لإخفاء النوايا الأمريكية وأنّ الولايات المتحدة ستجد أيّ ذريعة لمعاقبة الشعب الإيراني.
يُعدّ تجاوز العقبات العديدة التي تعترض إنفاذ العقوبات أمراً ضرورياً لسدّ النقص في ثقة الحلفاء الإقليميين بواشنطن، الذين يشكّك كثيرون منهم في التزام الإدارة الأمريكية. وقد يؤدّي تركيز العقوبات على وكلاء إيران، مثل «حزب الله» وحركة «حماس»، واستنثناء الجهات الإيرانية نفسها إلى بعث رسالةٍ خطيرة مفادها أنّ الفاعلين الأساسيين في سلوك النظام المزعزع للاستقرار – «الحرس الثوري» و «فيلق القدس» – يتمتّعون بالحصانة.
بالإضافةً إلى ذلك، يرتكز إنفاذ العقوبات على التعاون الأوروبي. وحالياً، لا يفهم الجمهور العام والشركات الأوروبية تماماً المخاطر الكبيرة القائمة والناجمة عن الاستثمار في إيران. وقد نتج ذلك عن الطبيعة القانونية المعقّدة التي يتّسم بها الاتفاق النووي والمساحات الرمادية الكبيرة التي يحويها. على سبيل المثال، في حين أنّ معظم المنظّمات المُدرجَة ستُشطب عن القائمة الأوروبية على الفور أو خلال السنوات القليلة المقبلة، سيبقى بعضها على قائمة العقوبات الأمريكية إلى أجلٍ غير مسمّى.
وفي ضوء هذه التعقيدات، لا بدّ من تخصيص المزيد من الجهود لإلقاء الضوء على المساحات “الرمادية”. فبموجب الاتفاق، لم تعد وزارة الخزانة الأمريكية قادرة على منع شركةٍ ما من ممارسة الأعمال التجارية مع إيران، لكن ينبغي أن تظلّ قادرة على الإبلاغ بالمخاطر المتبقية الناجمة عن إجراءٍ مماثل، سواء كانت هذه المخاطر متعلّقة بالسمعة أو تجارية لا مهرب منها. وفي هذه المرحلة، تتّسم التوعية بأهمية بالغة، وعلى وزارتَي الخزانة والخارجية الأمريكيتين أن تتواصلا مع الأوساط التجارية والمنتديات العامة لتوضيح أيّ أنواعٍ من المعاملات يمكن إجراؤها مع إيران وأيّها لا يمكن القيام بها، وتركزا على سلوكٍ غير مشروعٍ محدّد وعلى الكيانات الخاصة التي ستبقى مُدرَجةً على القائمة السوداء. وينبغي أيضاً على الوزارتين أن تسلّطا الضوء على دعوة “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” إلى اعتماد “تدابير مضادة استباقية” للتصدّي لغسل الأموال وتمويل الإرهاب اللذين تمارسهما إيران. ومن أجل أن تكون حملة التوعية فعّالة، على الإدارة الأمريكية أن تنخرط بوتيرة أكبر وفي أماكن أكثر من أجل إرساء مبادئ توجيهية واضحة تبيّن ما يعنيه الاتفاق النووي. لحسن الحظّ، إن واقع إدراك القطاع المالي في أغلب الأحيان للمخاطر القائمة تعني أنّه سيتمّ إبطاء تحرّكه باتجاه إيران، وبالتالي فلدى الإدارة الأمريكية متّسعٌ من الوقت.
وأخيراً، لا تزال التحديات قائمةً في مجال تصعيد إنفاذ العقوبات، وذلك عن طريق اعتماد عقوباتٍ مٌعيَّرة. ولا يسع الولايات المتحدة، كما هي عليه اليوم، إلّا قطع وعدٍ بإنفاذ هذه العقوبات بطريقة أحادية الجانب، لكنّها لن تكون فعّالةً تماماً ما لم تكن على الأقل متعدّدة الأطراف إلى حدٍ ما. وعلى الرغم من أنّ مسؤولي الإدارة الأمريكية أعربوا عن عدم رغبتهم في كشف أوراقهم فيما يتعّلق بكيفية عمل العقوبات المٌعيَّرة، إّلا أنّ هذه المعلومات ضرورية لإقناع الجمهور بأنّها تشكّل أداة إنفاذٍ قابلة للاستمرار.
إيريك روزين
معهد واشنطن