ارتباط إقليم كردستان العراق ماليا بالدولة العراقية يظلّ إحدى أكبر المعضلات أمام قيادته التي حاولت خلال السنوات الماضية الحدّ منها عن طريق بيع النفط المنتج في الإقليم مباشرة وعدم تحويل الموارد الأخرى إلى خزينة الدولة الاتّحادية، لكنّ التقلّبات في أسعار النفط وتبعات جائحة كورونا أوقعتاها في ورطة أكبر وجعلتاها أكثر من أي وقت مضى عرضة لضغوط قوى شيعية متنفّذة وعلى خلاف سياسي عميق معها.
بغداد- اعترضت كتلة الفتح الممثلة لأحزاب وميليشيات شيعية في البرلمان العراقي على إرسال الحكومة الاتّحادية أموالا إلى حكومة إقليم كردستان العراق كجزء من حصّة الإقليم من موازنة الدولة.
وبينما جاء الاعتراض تحت عنوان الرقابة البرلمانية على موارد الدولة وأوجه التصرّف فيها رأت مصادر كردية عراقية أنّ الدافع سياسي بامتياز ومرتبط بالضغوط المتواصلة التي تمارسها القوى الشيعية العراقية الأكثر قربا من إيران على الإقليم وقيادته المحسوبة، وفق تقدير تلك القوى، ضمن المعسكر الموالي للولايات المتّحدة من جهة والمتحالفة من جهة ثانية مع خصوم ومنافسين سياسيين لقادة معسكر الموالاة لطهران، مثل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
وكثيرا ما تتّهم حكومة الكاظمي بمحاولة الالتفاف على تفاهمات مبرمة مع حكومة إقليم كردستان لمدّها بمبالغ من حصتها في الموازنة الاتّحادية رغم عجزها عن الإيفاء باشتراطات صارمة تنص عليها تلك التفاهمات، مثل تسليم الأموال المتأتية من بيعها النفط المنتج في الإقليم وكذلك موارد المنافذ الحدودية الواقعة ضمن سلطتها.
وعبّرت الكتلة عن استغرابها الشديد من قرار مجلس الوزراء الصادر يوم الأربعاء بتسليم مبلغ 200 مليار دينار (حوالي 140 مليون دولار) شهريا وبأثر رجعي اعتبارا من مطلع العام الجاري إلى حكومة إقليم كردستان “دون أي سند قانوني وفي مخالفة صريحة لمواد قانون الموازنة العامة لسنة 2021 والتي تنص على التزامات متبادلة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم”.
وقالت في بيان “لغاية الآن لم تلتزم حكومة الإقليم بتنفيذ ما عليها من التزامات للحكومة الاتحادية ليتسنى إجراء المقاصة المنصوص عليها قانونيا”.
وأضافت “الادعاء بأنّ هذا المبلغ هو سلفة لحين انتهاء ديوان الرقابة المالية الاتحادي وديوان الرقابة المالية بالإقليم من إكمال تدقيق البيانات والمطابقة هو التفاف على قانون الموازنة العامة وبنودها الواضحة والتي لا تقبل التأويل، لذلك فإن إقدام الحكومة على هذه المخالفة الصريحة للدستور سيعرضها للمساءلة القانونية والشعبية”.
وتضع ضغوط الأحزاب والميليشيات الشيعية على إقليم كردستان العراق، باستخدام الورقة المالية، حكومتَه في ورطة شديدة. فبينما يُطلب منها تسديد أموال هي لا تمتلكها أصلا، تحاصرها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية ويهدّدها الشارع المحتقن والغاضب من عدم انتظام صرف رواتب الموظّفين.
وأشارت كتلة الفتح في بيانها إلى قضية الرواتب في الإقليم بالقول “في الوقت الذي نؤكد فيه ضرورة صرف رواتب موظفي الإقليم التي تكفلها صادرات النفط من الإقليم والتي تغطي الرواتب وزيادة، فإننا نعلن رفضنا لهذا القرار (تسليم الأموال بأثر رجعي) ونحمّل الحكومة مسؤولية ما ينتج عنه من مضاعفات، وسوف نسلك جميع الطرق القانونية لمنعه وحفظ حقوق جميع أبناء الشعب العراقي وخصوصا المحافظات المحرومة التي لا يزال الكثير من أبنائها تحت خط الفقر”.
وكان مجلس النواب العراقي قد صوّت آخر شهر مارس الماضي على قانون موازنة الدولة بعد أشهر من الجدل الحادّ ومفاوضات عسيرة بين ممثلي الحكومة الاتحادية ورؤساء الكتل النيابية وقادة الأحزاب السياسية وممثلي الإقليم بشأن حصة الأخير من الموازنة.
وتضمّنت الموازنة نفقات إجمالية بنحو 88 مليار دولار وبعجز مقداره حوالي 19 مليار دولار. وجرى تضمين قانون الموازنة اتفاقا أبرمه ممثلون عن الإقليم مع نظراء لهم من الحكومة الاتحادية وينص على أن يقوم الإقليم بتسليم كمية 250 ألف برميل يوميا من النفط ونصف الإيرادات المالية الأخرى للحكومة الاتحادية مقابل حصوله على نسبة 12.6 في المئة من الموازنة.
وأعلن مسرور البارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان العراق في وقت سابق هذا الأسبوع التوصل إلى اتفاق مع الحكومة الاتّحادية يقضي بتسليم المستحقات من الموازنة الاتحادية إلى الإقليم بأثر رجعي.
وفي ردّ غير مباشر على اعتراضات تحالف الفتح كشف عضو في لجنة الطاقة بالبرلمان العراقي، الخميس، عن توصل حكومتي بغداد وأربيل إلى اتفاقات نهائية بشأن ملفات عالقة منذ سنوات بخصوص الموازنة السنوية المالية وإدارة الثروة النفطية والديون.
وقال أمجد العقابي في تصريح نقلته وكالة الأنباء العراقية الرسمية إنّ “الزيارات التي قام بها وفد إقليم كردستان مؤخرا إلى بغداد أفضت إلى التوصل لتفاهمات نهائية ووضع حلول جذرية للمسائل العالقة منذ سنوات”.
وأشار إلى أنّ “التفاهمات لا تقتصر فقط على بنود الموازنة المالية بل شملت أيضا ملفات النفط والديون والالتزامات المترتبة على إقليم كردستان”، لافتا إلى أنّ “هذه التفاهمات ستطوي صفحة الخلافات التي نشهدها كل عام في ملف قانون الموازنة”.
وأضاف العقابي أنّ “التفاهمات منحت ديوان الرقابة المالية الاتحادي حق الرقابة والإشراف على مؤسسات الإقليم وكذلك إشرافه على المنافذ في الإقليم”.
الأزمة المالية تجعل حكومة إقليم كردستان العراق عرضة لغضب الشارع المحتقن بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة
وعلى مدى الأشهر الماضية تعرّض إقليم كردستان العراق لضغوط غير مسبوقة من قبل قوى شيعية عراقية متنفّذة تراوحت بين التضييق عليه ماليا من خلال محاولة تقليص حصّته من الموازنة الاتحادية ومنع وصول الأموال إليه، وبين التحرّش بأمنه من خلال قصف الميليشيات لمواقع داخل أراضيه، فضلا عن حملة تحريض سياسي وإعلامي تخوضها تلك القوى ضدّه بشكل كثيف ومتواصل.
ولا تنفصل تلك الضغوط، بحسب مصادر سياسية عراقية، عن الصراع المستمرّ الذي تخوضه إيران على النفوذ في العراق وخصوصا ضدّ الولايات المتّحدة، حيث يتهمّ حلفاءُ طهران العراقيون قيادةَ الإقليم بـ”العمالة” لواشنطن والتآمر معها لتحويل أراضي كردستان إلى موطن بديل للقوات الأميركية التي تطالب أحزابٌ وميليشيات شيعية عراقية بإخراجها من البلاد.
وبحسب متابعين للشأن العراقي فإن الضغوط الشديدة التي يتعرّض لها إقليم كردستان العراق على يد ميليشيات وأحزاب شيعية تدفع قيادة الإقليم إلى عقد تفاهمات مع قوى أخرى من داخل البيت السياسي الشيعي تعتبرها القيادة أكثر اعتدالا وقابلية لعقد صفقات سياسية قد تشمل إنشاء تحالفات انتخابية استعدادا للانتخابات المبكّرة المقرّرة لشهر أكتوبر القادم، لكن تلك الخطوة تغضب صقور المعسكر الشيعي الأكثر موالاة لإيران مثل الأحزاب والميليشيات المنضوية ضمن تحالف الفتح.
العرب