يُفترض ألّا تمر الزيارة التفقّدية لحسن إيرلو المفوض السامي الإيراني في اليمن، وهو ضابط في “الحرس الثوري”، إلى جامعة صنعاء مرور الكرام. الزيارة أكثر بكثير من مجرّد زيارة. إنّها رسالة فحواها أن إيران موجودة في اليمن كي تبقى فيه وتغيّره بما يناسب مصالحها وأهدافها بعيدة المدى.
صحيح أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لم تستطع السيطرة على كلّ اليمن، لكنّ الصحيح أيضا أنّها في صنعاء منذ 21 أيلول – سبتمبر 2014، أي منذ سبع سنوات تقريبا. سعت في البداية للتوسّع في كلّ الاتجاهات قبل أن تجد من يردعها في عدن وميناء المخا الاستراتيجي الذي يتحكّم بمضيق باب المندب. عوّضت عن ذلك بتكريس وجودها في ميناء الحديدة المهم الذي لا يزال تحت سيطرة الحوثيين الرافضين لتنفيذ أيّ اتفاق في شأنّ إيجاد وضع خاص به..
لا يمكن التهرّب من أن إيران هي الطرف الذي يسيطر بالفعل على العاصمة اليمنية. الموضوع لا يتعلّق بالطرف المحلّي الذي وضع يده على المدينة في 21 أيلول – سبتمبر 2014. أثبتت الأحداث، مع مرور الوقت، أنّ الحوثيين (أنصار الله) الذين استطاعوا اكتساح صنعاء بتسهيل من “الشرعيّة” وحساباتها الخاطئة، ليسوا سوى أداة إيرانية. فوق ذلك كلّه، يتبيّن يوما بعد يوم أنّ إيران تمتلك مشروعا محدّدا وواضحا خاصا بها في اليمن.
في غياب القدرة على السيطرة على البلد كلّه ارتأت إيران إقامة كيان في الشمال يمتلك كلّ مقومات الدولة المستقلّة، لكنّه يدور في فلك “الجمهوريّة الإسلاميّة”. يفسّر وجود مثل هذا المشروع الإصرار على احتلال مدينة مأرب بعد التوغّل في معظم المحافظة وبعد ابتلاع مناطق واسعة من محافظة الجوف التي لديها حدود طويلة مع المملكة العربيّة السعوديّة.
ليست زيارة إيرلو إلى جامعة صنعاء والاستقبال الرسمي الذي أقيم له حدثا عابرا. على العكس من ذلك، إنّها تعكس رغبة في تغيير طبيعة المجتمع اليمني عبر تغيير النظام التعليمي. بكلام أوضح، انتقلت إيران من وضع يدها على صنعاء إلى مرحلة جديدة تقوم على تأسيس وجود دائم في اليمن. ليس أفضل من اختراق النظام التعليمي، بدءا بالمرحلة الابتدائية.. وصولا إلى الجامعة كوسيلة لتحقيق هذا الغرض.
ما تفعله إيران في اليمن فعلته في مناطق لبنانيّة في الماضي حيث أسست مدارس يشرف عليها “حزب الله” وتنظيمات كشفية. غيّرت طبيعة الطائفة الشيعيّة في لبنان بعد سنوات من الجهود الدؤوبة، وهي في طريقها إلى تغيير لبنان كلّه، إن لم يكن قد غيّرته بعد انهيار نظامه المصرفي والنظام التعليمي فيه. في العراق عملت إيران منذ 2003، تاريخ الاجتياح الأميركي، على أن تكون موجودة في الوزارات التي تهتم بالتعليم، بما في ذلك الجامعات العراقيّة. إنّها تعرف تماما ماذا تريد في العراق ومنه.
ليس ما يحدث في اليمن أمرا جديدا. في مرحلة معيّنة تواجه علي عبدالله صالح، الذي اغتاله الحوثيون في الرابع من كانون الأوّل – ديسمبر 2017، مع الإخوان المسلمين ومع مجموعات أخرى متطرّفة ولدت من رحمهم بسبب البرامج التعليمية. خاض الرئيس السابق حربا طويلة مع الإخوان المسلمين بسبب البرامج التعليميّة. تلطّى الإخوان وقتذاك بالشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ مشائخ حاشد رئيس مجلس النواب. في طريقهم إلى الانقلاب على علي عبدالله صالح، في شباط – فبراير 2011، سعى الإخوان وآخرون، مثل الشيخ عبدالمجيد الزنداني، للتحكّم بالبرامج التعليمية والجامعات. تأسّست “جامعة الإيمان” في العام 1993 وكانت جزءا من عمليّة تصب في تغيير طبيعة المجتمع اليمني الذي بدأ يتجه إلى نوع من الانفتاح اجتماعيا وسياسيا وثقافيّا. بدأ الانفتاح بعد تحقيق الوحدة في العام 1990 وانتقال عدد كبير من قياديي الحزب الاشتراكي إلى صنعاء في ظلّ تعدّدية حزبية سمحت بتأسيس العشرات من الصحف والمجلات الجديدة وإيجاد حراك سياسي وثقافي في عاصمة البلد.
كان الإسلاميون، خصوصا قادة جماعة الإخوان، أوّل من تضايق من اتجاه الريح في مرحلة ما بعد الوحدة. لجأوا إلى منع تمرير دستور جديد يتسّم بروح عصريّة ويؤسّس لدولة مدنيّة. انتقلوا بعد ذلك إلى فرض رؤيتهم للتعليم، خصوصا بعد حرب صيف العام 1994 التي هَزم فيها علي عبدالله صالح بدعم من ميليشيات إخوانيّة الحزب الاشتراكي.
أسّس الإخوان المسلمون لسقوط العهد الطويل لعلي عبدالله صالح الذي ارتكب أخطاء كبيرة. من بين هذه الأخطاء تشجيع الحوثيين على إقامة تيّار سياسي خاص بهم وفتح قناة لهم مع إيران وذلك بغية إيجاد توازن بينهم وبين الإخوان المسلمين والحركات المتطرّفة التي تلوذ بهم. ما لبث الحوثيون أن انقلبوا عليه. لم يكتشف ذلك إلّا في وقت متأخّر.
تكشف الزيارة التي قام بها حسن إيرلو إلى جامعة صنعاء توجها إيرانيا إلى الإقامة طويلا في اليمن وتأسيس دولة تابعة. بالنسبة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا مجال لتغيير في اليمن يؤدي إلى العودة إلى ما قبل 21 أيلول – سبتمبر 2014. لا بدّ من استعادة للخطاب الذي ألقاه عبدالملك الحوثي مباشرة بعد وضع جماعته يدها على صنعاء. تحدّث الحوثي عن “ثورة” ونظام جديد مكان النظام الجمهوري الذي قام إثر إطاحة الإمامة في 26 أيلول – سبتمبر 1962.
تؤسّس إيران لنظام جديد في صنعاء. تعرف أن الحوثيين، في طريقهم من صعدة إلى العاصمة اليمنية، مرورا بمحافظة عمران، غيّروا ثوابت كثيرة. من بين ما غيّروه التركيبة القبليّة. استفاد الحوثيّون من كلّ التناقضات الداخليّة، بما في ذلك حقد الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي على علي عبدالله صالح وتفكيكه للجيش اليمني الذي كان قائما، خصوصا ألوية الحرس الجمهوري.
ليست زيارة حسن إيرلو إلى جامعة صنعاء سوى تتويج لمرحلة جديدة باتت فيها إيران تعتقد أنّها أوجدت واقعا جديدا في اليمن وذلك بغض النظر عمّا إذا كانت قادرة على تمكين الحوثيين من الاستيلاء على مدينة مأرب أم لا..
سيبقى السؤال في المرحلة المقبلة ما هي حدود الكيان الإيراني في اليمن؟ الأهمّ من ذلك كلّه، هل هناك استيعاب لدى الإدارة الأميركية الجديدة لمعنى قيام مثل هذا الكيان المعادي للدول العربية الخليجية في مقدّمها المملكة العربيّة السعوديّة؟ في الواقع، ليس هذا الكيان، الذي سيكون التعليم فيه بمواصفات إيرانية، سوى منصّة صواريخ موجّهة إلى كلّ دولة من دول الخليج العربي..
العرب