لا يزال خطاب التهدئة التركي تجاه الخصوم الأوروبيين والإقليميين يقابل بالكثير من الحذر والارتياب، حيث سبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن نكث عهوده وقال ما لم يفعله. ويطالب المجتمع الدولي أنقرة بتحويل أقوالها إلى أفعال وبألّا يبقى كلامها مجرد إعلان عن حسن النوايا يختفي بمجرد بلوغ المصلحة.
باريس – كثفت تركيا منذ مطلع العام الجاري مبادرات التهدئة تجاه حلفائها الغربيين والإقليميين للخروج من عزلتها المتزايدة على الساحتين الإقليمية والدولية، إلا أن التوجس من صدقية النظام التركي يغلب على ردود الأفعال تجاه هذه المبادرات، إذ لأنقرة سوابق عديدة من عدم الإيفاء بوعودها وتعهداتها وهو ما يجعل تصديقها أمرا صعبا.
وسبق لتركيا أن قدمت تعهدات بتخفيف التوتر شرق المتوسط والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أثينا وقبرص، لكنها لم تلتزم بذلك.
ورحب وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الجمعة بما اعتبره “وقفا في الهجمات الكلامية” بين باريس وأنقرة وطالب في المقابل بمبادرات ملموسة من الرئيس رجب طيب أردوغان بشأن سلسلة من القضايا الخلافية.
وقال لودريان، لشبكة “بي أف أم – تي في”، “ثمة هدنة في الهجمات الكلامية. إنه لأمر جيد لكنه غير كاف”، معتبرا أن العلاقة الثنائية باتت “في مرحلة تعاف”.
وأضاف أن “وقف الهجمات الكلامية لا يعني أفعالا وننتظر من تركيا أفعالا حول ملفات حساسة، خصوصا في ليبيا وسوريا وأيضا في شرق المتوسط وملف قبرص”. وقال “سنرى ما إذا كان أردوغان سيغير الكثير من الأقوال إلى أفعال”.
جان إيف لودريان: الهدنة الكلامية التركية أمر جيد لكنها غير كافية
وبعد أشهر من التوتر التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره التركي الإثنين ببروكسل في “أجواء هادئة”، وتعهدا بـ”العمل معًا” على تسوية ملفي ليبيا وسوريا.
وتطالب فرنسا ودول عديدة برحيل القوات الأجنبية والمرتزقة (قدرت الأمم المتحدة عددهم بنحو 20 ألفًا في نهاية 2020) المنتشرين في ليبيا لترسيخ آمال السلام التي تم رسمها في الأشهر الأخيرة في هذا البلد.
ويتعلق الأمر بالقوات التركية والمرتزقة السوريين الذين نشرتهم تركيا وكذلك المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية الخاصة.
وقال لودريان “كان هناك القليل من الانفتاح. سنبدأ العمل مع الأتراك بشأن مسألة ليبيا ولاسيما الميليشيات، لأنهم من مؤيدي نشر الميليشيات في ليبيا”.
وفي شرق المتوسط، حيث وقعت حادثة بين قطع حربية تركية وفرنسية في يونيو 2020، دعمت باريس أثينا أمام طموحات أنقرة المتعلقة بالغاز.
وفي أكتوبر شكك أردوغان في صحة ماكرون العقلية متهما إياه بشن حملة كراهية ضد الإسلام، لأنه دافع عن الحق في رسم صور كاريكاتيرية للنبي محمد.
وتطرق تركيا أبواب فرنسا صاحبة الثقل الاقتصادي والسياسي في الاتحاد الأوروبي باعتبارها البوابة الرئيسية لأي مصالحة مع الشركاء الأوروبيين وكسر العزلة التي تواجهها في الفضاء الأوروبي.
ويبدو الجانب التركي متلهّفا على تصحيح مسار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي لحسابات اقتصادية وسياسية وفي وقت يحتاج فيه إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية بعد أن أثارت تدخلات أردوغان خلال السنوات الأخيرة في السياسات النقدية وحالة الاضطراب السياسي وقمع المعارضة والحريات في تركيا مخاوف المستثمرين الأجانب وحولت البلاد إلى سوق عالية المخاطر.
ودفع توقيع دول عربية لاتفاق سلام مع إسرائيل ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض النظام التركي إلى مراجعة سياساته العدائية الإقليمية والدولية لتفادي عزلة باتت متنامية في الخارج ومقلقة في الداخل مع انحسار الحلفاء واتساع هوة الخصوم.
ويسعى أردوغان إلى تطبيع العلاقات مع فرنسا التي تقود جبهة مناوئة لأجنداته التوسعية في شرق المتوسط وسوريا وليبيا.
و أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في وقت سابق خارطة طريق لتطبيع العلاقات مع فرنسا، في خطوة تعكس مخاوف تركية متنامية من متغيرات إقليمية ودولية تدفع بلاده إلى الهامش وتهدد مصالحها الاقتصادية في ظل تعثر الاقتصاد التركي المترنح.
فرنسا تطالب برحيل القوات الأجنبية والمرتزقة، المقدر عددهم بنحو 20 ألفًا في نهاية 2020، المنتشرين في ليبيا لترسيخ آمال السلام التي تم رسمها في الأشهر الأخيرة
ويرى مراقبون أن قيادة باريس حملة فرض عقوبات أوروبية على تركيا جعلت النظام التركي يدرك أن الدخول في صدام مع باريس رهان خاسر في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات سياسية واقتصادية عميقة، الأمر الذي أجبر أنقرة على تخفيف لهجتها لاستمالة باريس.
وكانت فرنسا قد قادت مطلع ديسمبر الماضي جهود الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات تمهيدية على تركيا، على أن يتم فرض عقوبات مشددة أكثر بعد ذلك في ضوء التقييم الأوروبي لسلوك أنقرة في شرق المتوسط، حيث دأبت على إثارة التوترات مع كل من اليونان وقبرص في ما يتعلق بحقوق التنقيب عن النفط والغاز.
والخلافات بين البلدين متشعبة وتمتد إلى قضايا كثيرة، بدءا من ليبيا ومناطق أخرى في الشرق الأوسط ووصولا إلى خلاف تركيا مع اليونان بشأن الحدود البحرية والتنقيب عن المحروقات في مياه شرق المتوسط.
وتدهورت العلاقات بين تركيا وفرنسا تدريجياً منذ العام الماضي، خصوصاً بسبب خلافات حول سوريا وليبيا وشرق المتوسط، ومؤخراً جراء النزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورني قره باغ.
لكن التوتر تفاقم في أكتوبر عندما شكّك أردوغان في صحة ماكرون العقلية متهماً إياه بقيادة حملة كراهية ضد الإسلام.
وتشهد علاقات عدة دول في الاتحاد الأوروبي توترا شديدا وخاصة حول الأزمة الليبية ومسألة الهجرة، فضلا عن احتياطيات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط، حيث تتهم أنقرة باتباع سياسة توسعية وتجاهل التحذيرات الدولية المتكررة والتي يقابلها النظام التركي باستخفاف وتجاهل تام.
وتعكس اللهجة التصالحية لتركيا بشأن العديد من الخلافات العالقة مع القوى الدولية، خاصة ملف شرق المتوسط، مخاوف أنقرة من تنامي عزلتها، ما يضر بمصالحها الاستراتيجية على المدى المنظور.
العرب